نظرة على الجمالِ والتجمّل

في مُعظم الموادّ التي تتحدث عن التجميل، يتناول الكاتب هذا الباب الواسع باحتكارٍ فظّ، فينسب الجمال وفقًا لجهويته، وبذلك هو يقصره عليه، وأحيانًا ينساق خلف مبالغات لا حدّ لها، تنسب كُلّ محاولات صنع وسائل التجميل لعصرٍ واحد وحضارة واحدة، ولا أجد في ذلك إلا إمعانًا في تقديسِ الجهل، وتغليب العموميات؛ فلوّ سلّمنا بوهم أنّ إحدى الحضارات هي التي ابتدأت التجميل، وهي التي ألهمت كل بقاع الأرض بذلك، فكيف يتماشى هذا الادّعاء مع صعوبة التواصل السريع في الماضي؟ هل عاشت تلك المجتمعات –مجموعة- دون أن تستلهم من طبيعتها أداة واحدة للتجميل؟ وهل كانت هذه المجتمعات منزوعة من هذه الرغبة الملحّة بالتزيّن والتجمّل؟ هل انتظرنا جميعنا تفضّل أحدهم علينا؟ السؤالُ فيهِ الجواب.

تؤكد هذه المقالة على نسبيّة الجمال، ولا دليل صريح على ذلك أكثر من الأساليب المختلفة التي مورس بها في كل مدن العالم وحضاراته، لذلك كان من السرقةِ والظلم احتكار هذا الفعل لمكانٍ واحد، واعتقاد أنّ وسائله واحدة في كل الأقطار. أيضًّا نشير إلى أنّ ذلك كان يُمارس للجنسيْن على حدّ سواء، حتّى إن حصل أحد الجنسين على أساليب مختلفة و"تجميل" أكثر، فإن الفعل ذاته متاح للاثنين.


لوحة توضّح ملامح الجمال في عصر النهضة، ليوناردو دافينشي


حتميّة الجمال قديمًا

حين نتحدّث عن الجمال لا يؤول حديثنا لشيءٍ سطحيّ، ولا لغرضٍ لا جوهريّ، إنما نشير إليه باعتباره إحدى القيم الأساسية الثلاثة: الخير، والحقّ، والجمال، وكذلك نحن لا نقصره على جانبه الذي يُعنى بالتجمّل الشكلي والجسدي فقط، بل نؤكد ارتباطه بكلّ مظاهر حياتنا، الحاوية للروح والخالية منها، كلّ شيءٍ حولنا يهمنا أن نجمله، معَ أننا ندرك أنهُ سيؤدي الغرض دون إضافة أي عنصر جمالي له، لكننا نفعل! بهذا نؤكد الحقيقة التي يتغافل عنها أناسٌ كثر، نؤكد أنّ (الجمال) ضرورة ملحّة.

هناك شيء داخليّ، إنسانيّ يرغّبنا بهذه القيمة، ويلحّ علينا لتلبيتها، والاستزادة منها, حين قال الله تعالى {لِتَركَبُوهَا وَزِينَةً} وضّح ما نعنيه، فعل الركوب هو الغرض المُراد من الأنعام، وهي المنفعة المطلوبة، لكنها "زينة" أيضًا، نعم هي جزء من مظاهر زينة القوم، إحدى مفاخرهم التي ترمز للجمال ولقيمتهم الحضارية، فالجمال كما يقول د. عبد الله بن محمد العمرو: "قيمة حضارية". ومعَ أننا مُحاطون بالجمال على الدوام، ومعَ أننا نعتقد بقدرتنا على حصر ملامح وأشكال وصفات الجمال، إلا أنّ ذلك يُعتبر تصوّرًا لا يعي تشعّب الجمال وجوهره، جاء في بحث د. عبد الله بن محمد العمرو (معايير الجمال في الرؤيتين الإسلامية والغربية): "يرى برتليمي (ت 1963م) أن الجميل شأنه شأن الحق والخير يعيش فوق العقل والمنطق والعمل، ولهذا الجميل لا يقبل التعريف... والجمال يُفهم من خلال الأشياء الجميلة" لأجلِ ذلك آمنتُ بالجمال في أيّ تجمع بشريّ قديم، ولأجلهِ رفضتُ أن تنسب أدوات الجمال لحضارة واحدة فقط، وأن تُعتبر هي فقط معيار الجمال الفاصل والواحد.


حذاء صيني يمثّل أحد معايير الجمال عند حضارتهم "الأقدام الصغيرة"



يقوم الجمال الآن –بمفهومه المتعارف عليه- على أسس سابقة وضعها الأسلاف في كافة نواحي المعمورة، فنحنُ لا نستطيع فصل ما نضعه الآن على الوجه أو ما نعتمده للجسم عن ماضي البشرية القديم، ففي كل تجمّع بشري قديم كان هناك اهتمام بعالم الجمال، ورغبة قوية بالتجمّل، ولأجل ذلك وُظّفت الطبيعة لخدمة هذه الرغبة وتلبيتها. استغلّ الإنسان القديم كل ما حوله واستكشفه حتى أخرج كل ما يحتاج في هذا المجال.

قد نكون لسنا بحاجة للتوغل في أساليب التجمل القديمة في حال رجعنا للماضي القريب، فعلى سبيل المثال كانت نسوة الجزيرة العربية يستخدمن مادة (الديرم) وهي عبارة عن خشب من شجرة الديرم، وكان وسيلة لحمرة الشفتين، وصحة الأسنان، تذكر صحيفة القبس الكويتية أنّ الديرم: "أحد الأدوية الناجعة في علاج مشاكل الفم والأسنان، حيث كانت المرأة تضع قطعة من الديرم في فمها وتقوم بمضغها حتى تصبح رطبة، فتفرز مادة حمراء تصبغ بها شفاهها لتكسبها لونا جميلا وانتفاخا قليلًا كون الديرم لاذعًا "حار"... ثم تقوم بفرك ما تبقى من قطعة الديرم على اللثة والأسنان لتنظيفها وتبييضها وحمايتها من التسوس"، وهذا يُشير إلى أنّ تفاصيل التجمّل أيضًا كانت حاضرة، فتوظيف الطبيعة لتلبية رغبة امتلاء الشفاه، والحرص على لون ونظافة اللثة دليل واضح على ذلك، ويحيلنا هذا السلوك إلى نسبية الجمال، وفي هذا يقول ديكارت: "لا يدل الجميل والبهيج على أكثر من موقفنا في الحكم على الشيء المتكلم عنه". ولأنّ الجمال –جزء منه- مرتبط بالمظهر الخارجي فإن النسبية تتجلى أكثر في هذا الشأن، يقول د. عبد الله بن محمد العمرو في بحثهِ سابق الذكر: "الاختلاف في الحكم الجمالي في المحسوسات أوسع منه في الجمال المعنوي، بل يكاد يكون الغالب هو النسبية في الحكم الجمالي في المدركات الحسية".


خشب الديرم


الشَّعر قديمًا

ربما كانت عملية إزالة الشعر من مجالات البحث المتشعّبة في عالم الجمال، فقد مرت بتنوعات ومنعطفات، وقد أُقرّت ورُفضت بناء على التغيرات المجتمعيّة، والتطورات التي جاءت مع القرن العشرين، وعلى عكس مفهوم كثير من الناس الآن، لم تكن إزالة الشعر حكرًا على النساء دونًا عن الرجال، بل مورست عليهما بالتساوي، وقد تنوعت أساليب الإزالة باختلاف الحضارات، وباختلاف الأزمنة، لكنها في الإجمال كانت تعتمد على الملقط، والسكر، وهناك من اعتمد على أساليب موجعة، كاليونان، فمن بين الأساليب كانَ الحرق باستخدامِ الرماد الساخن.

ولطالما ارتبط الشعر بالمرجعيّة الثقافيّة والدينيّة لكلّ حضارة وأمة ومنطقة، فهناك حضارات حبذت شعر الجسم ورغّبت فيه، وعدّته من مظاهر الأنوثة الجميلة في المرأة. ويحض الدين الإسلامي على إزالة الشعر ووقّت أقصى مدة لذلك، وهذا في المناطق الحساسة. بينما كانت هناك أمم تعمل على إزالته دون افتراضٍ مسبق، أو اعتقاد يربط وجوده بقلّة الجمال، حيث كانت تعتمد الإزالة للحفاظ على الصحة، وتجنّب الفطريات والأمراض. وقد كان الفن خير معينٍ لنا في معرفة مستوى النظرة الجمالية للأجسامِ والأشكال، فجسّدت بعض المنحوتات لكبار الشخصيات الوجه بشكله المثالي، سواء مع اللحية أو بدونها، وكذلك الجسم، فقد كانت الرسومات خالية من الشعر، ما يعني أنّ وسائل الإزالة كانت معتمدة بدقة، ومتاحة بشكلٍ متعارف عليه.

وفيما يتعلّق بشعر الرأس، فقد مورست عليه المعتقدات الميتافيزيقيّة، وحتّى المعتقدات المتعلقة بالقبيلة، وذلك في بعض حضارات أفريقيا. "كانوا يعتبرون الشعر -لكونه أقرب أجزاء الجسم إلى السماء- هو قناة تفاعل الإنسان روحانيًا مع الله، ويغيرون أشكاله حسب الوضع، فالذهاب للحرب يتطلب شعرا مضفرًا للرجال في السنغال وغامبيا، وفي الحداد تترك النساء شعورهن دون ترتيب، واستخدمت الضفائر أيضا للدلالة على الزواج والعمر والدين والثروة وحتى المشاعر".

وكان وجوده، أو كثافته، أو حلقه، أو تسريحه وفقًا لشكل محدد يعتمد بالدرجة الأولى على العُرف السائد في التجمّعات البشرية، وفيما يتعلّق بتزيينه وترطيبه في الجزيرة العربية وغيرها فقد كانت الحنّاء حاضرة وبقوّة آنذاك، ومن المثير أن تبقى الحناء حتى الآن من وسائل التزيين المحببة لدى الإناث والذكور على حدٍّ سواء.


رجل من بنغلاديش بلحيةٍ مُحنّاة


زينةُ الوجه

تثير أساليب التجمّل القديمة التفكير بمدى الارتباط بين الماضي والحاضر؛ فالحرص على الرائحة الطيبة والجميلة، والسعي للحصول على بشرة ناعمة، والاهتمام بالزينة الخارجية، وتسخير البيئة الطبيعية لإخراج منتجات تجميليّة، على سبيل المثال: أحمر شفاهٍ، ومورّد وجنتين.. كلّ ذلك وغيره يصبّ في واحدية الرغبة منذ الأزل! حين نضع مستحضرات التجميل سهلة الاستعمال الآن على شفتينا، حين نضع مورّد الخد على وجنتينا لا بد من أن نستحضر أنّ هناك.. في ماضٍ قديم جدًّا سحقت النسوة التوت لوضعه محلّ ما نضع الآن، وكانت هناك نسوة تستغلّ حُمرة أي شيء حولهنّ ليستخرجن منه مرادهنّ، حتّى حمرة الدم الخاص بالحشرات!

حرصت النسوة حتى على وضع طبقة للوجه من مواد يستخرجنها من الطبيعة، كان ذلك يقوم مقام ما ندعوه الآن بـ"كريم الأساس" أو كريمات العناية بالبشرة، وما يثير الاهتمام أنّ أماكن الوضع لم تختلف عن الماضي، العين، وحولها، والشفة، والوجهُ كاملهُ! بل حتى طلاء الأظافر كان حاضرًا في بعض الحضارات القديمة.

وقد احترف القُدماء استخدام الكحل، وذلك في بقاعٍ مختلفة من الأرض، حيث يُستخرج من بعض أنواع الحجر، ويُطحن يدويًا، وتتم تصفيته، ثم تُضاف له مواد لتجعل منه متماسكًا، ويُصبّ في إناء حافظ ليسهل استخدامه، وكان يُستخدم للجنسيْن، وقد أقرّته الحضارات التالية، ولا زال رائجًا حتّى الآن. وأجود أنواعه (الإثمد) رفيقُ العرب ومحبوبهم، وهو الذي أوصى بهِ النبي عليه الصلاة والسّلام، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ خَيْرَ أَكْحَالِكُمُ الْإِثْمِدُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ)، وعن الكحل عامة يقول ابن القيم في زاد المعاد، "وفي الكحل: حفظٌ لصحة العين، وتقوية للنور الباصر، وجلاء لها، وتلطيف للمادة الرديئة، واستخراج لها، مع الزينة في بعض أنواعه، وله عند النوم مزيد فضل؛ لاشتمالها على الكحل، وخدمة الطبيعة لها، وللإثمد من ذلك خاصية". وكان الإثمد خلف شهرة زرقاء اليمامة في النظر البعيد، إذ كانت ترى الشخص على مسيرة ثلاثة أيام، إذ به اكتحلت وأكثرت منه، وحين اقتلعوا عينها وجدوا عروقها سوداء من كثرة الاكتحال به.


امرأة من أسرة تانغ الصينية بمظاهر الجمال (المكياج والإكسسوارات)



بين حقبة وأخرى، كانت النظرة تتغير تجاه المكياج، فحينًا كان حكرًا على أبناء الطبقة العليا في المجتمع، أو أبناء الطبقات الموسرة ماديًّا، وفي حين آخر، ارتبط بمؤدي مهنة الفن فقط، وفي مرّات أخرى كان يُنظر له نظرة تحقير، ورُبط ببائعات الهوى؛ ونتيجة حتميّة لذلك تمّ رفضه على مستوى الطبقات العُليا، لكنه عاد مرةً أخرى! وفيما بعد، في احتجاجات الستينيات المتشعّبة، حُمّل فعل التزيين فوق طاقته، إذ صار جزءًا من دوافع الحراك النسوي، الرافض لكلّ تسليعٍ للمرأة، وهي وجهة نظر تُفهم في إطارٍ واحد؛ أن يكون المكياج تلبية لرغبة الرجل، أن يُمعن في تسليع وتشييء المرأة، وجعلها وسيلة إمتاع للرجل عن طريق المبالغة في تزيينها ومجاوزة أصلها البشري الذي لا يكون كاملًا على الدوام، ولأن المكياج لم يكن كذلك وحسب، لم تتمكّن هذه الموجة من جرفنا جميعًا، إذ بقي، واستمرّ. معَ ذلك سنبقى نحمل الامتنان لكلّ حملة تُذكّر المرأة بجمالها الطبيعي، بقدرتها أن تمارس أيامها دون وضع أي من تلك المساحيق، ومرة أخرى لا نفعل ذلك لأجل أحدهم، بل من أجل الصحة النفسية، والقبول المشترك للطبيعة البشرية، الطبيعة التي يشترك فيها الإناث والذكور على حدّ سواء.

ليس الجمال شيئًا يمكن أن يُختزل في أسلوبٍ واحد، ولا هو بالشيء الذي يُنسب حكرًا لحضارة واحدة، ولا هو بالشيء الذي يحدث بالطفرة مرّة واحدة، إنه تأكيد على بشريّة الإنسان، على حاجة النفس للجمال، وجموحها له. كُلّ المجموعات البشريّة، أينما وُجدت، أوجدت لها تصورًا خاصًّا بالجمال، ولأنّ الفطرة واحدة، تشابهت النظرة في بعض الأمور، تشابهت النظرة على رغم المسافات الطويلة، وعلى رغم الانقطاع التام، والجهل بوجودِ الغير، إنه الإنسان! حضارتهُ الممتدة، رغبتهُ الدائمة في البقاء، وتحسين هذا البقاء، ورغبته الأزلية في خلقِ جماله الخاص، وتجميل ما حوله.