الذكريات كعذاب مستلذ

في تحليله لنظرية الذاكرة المكبوتة، أكّد سيجموند فرويد أن العقل يمكنه طمس بعض الذكريات المرتبطة بصدمة أو حادث أو ألم. لكن، كي تندرج الذكريات تحت طائلة الكبت، يجب أن يسعى الفرد بجهدٍ لينسى تلك الذكرى. يجب أن يجهّز الوعي لرمي ذاكرة معينة في اللاوعي.

توسطت تلك النظرية طاولة الباحثين، والمحللين النفسيين وأطباء النفس، ما بين مؤيّد لإمكانية حدوثها وما بين معارض. البعض يقول إن الذكرى المؤلمة يمكن أن تكون حبيسة عقلٍ يقظ قوي ووعي حاضر يأبى إلا دحرها، والبعض يقول إن أكثر المصرّين على نسيان أمر بعينه، يجد نفسه دون وعي عُرضة لتذكره حين يتعرض لمحفّز معين وأجواء معينة.

وهذا يثبت أنّ ذكريات الفرد هي أكثر ألغازه حيرةً، إذ إنها تشكل كينونته من الأساس وما هو عليه الآن دون أن يكون له مطلق التصرف فيها، أو المساس بها، أو ترتيبها أو الافتكاك منها!!

نعم، سينسى البعض منها، لكن حين تقرر الأيّام المتعاقبة أن ينسى. ومع ذلك، فهو نسيان مؤقت، يمكن حلّه بسطوة التذكُر في وقتٍ، تقرر فيه الأيّام أيضًا.

"رائعة كوفمان".. هكذا وصفها المحللون والنقاد

ترتقي الأعمال السينمائية لدرجة الروائع لاعتبارات وجوانب سينمائية عِدة. لا يجب أن تحوز الرائعة السينمائية درجة الإبهار في كل الجوانب السينمائية كي توصف بالرائعة. بيد أنها يجب أن تحوز على إبهار المشاهد والناقد على حدٍ سواء في جانب سينمائي بعينه مع درجات متميزة في الجوانب الأخرى لتجعلها متفردة عن غيرها من الأفلام.

في Eternal Sunshine of the Spotless Mind، يكمن الإبهار في الفكرة ذاتها. ذلك الشعور الذي خطر على بال الجميع في لحظة أسى وضيقٍ، وهو أن يتمنىّ لو يمحى شخصٌ بعينه من ذاكرته تمامًا!

الكثير يملك ذلك الشخص الذي رحل بعد تعلّق قوي بالعديد من جوانبه تاركًا حفنة من الذكريات الجميلة والعادية وكذلك السيئة. كل تلك الذكريات لا نعرف ماذا نصنع بها من دونه، إذ لم ندرك يومًا أنها ستؤول لنهاية. هذا الشخص اختار بما أبداه من مشاعر تجاهك أن يكون أساسيًا في يومك، تكثر أحاديثكم ومعاملاتكم، وربما يتطوّر الأمر فيصر كل منكما مرآة للآخر، إذا إن طول العشرة وقوّة القُرب قد مكنكما من حفظ الطبع، وفهم المزاج ومعرفة الاهتمامات والهوايات والميول وحتى لازمات الكلم والإيماءات وربما العيوب الجسديّة غير الظاهرة!

وفجأة، لم يعد هذا الشخص موجودًا لأي سبب. اختار هو، اخترت أنت، اختارت الأيّام، أيًا يكن، أنت الآن حبيس شعورٍ واحد وهو الحنين. سلسلة لا تعرف كيف تنتهي من التذكر والشوق، وتتدافع ذكرياته بقوّة كل يوم كما تتدافع الحمم للخروج من فوّهة بركان.

يقول علماء النفس إن الافتكاك من شعور الحنين من بعد تعلّق بشخص ما أشبه بأعراض الانسحاب من الإدمان وقد يكون أشدّ. ربما يتعرّض الشخص لمهدئات، ربما يدمن حبوب المنوّم أو الكحوليات، ربما يصاب بالاكتئاب والعزلة، ربما تتبدّل مفاهيمه القديمة عن الحياة والأشخاص فتترسّخ أخرى، كلّ ذلك على إثر شحنة من الحنين.

ساعتها تتمنّى لو كان هناك زرّ ينسيك كلّ ما مضى، يمحي من عرفتهم، يعيد ضبط الجزء المسؤول عن الذكريات، ويعيدك لما كنت عليه قبل مقابلة الغائب عنك، أيًا كان حالك قبله. سيكون أكثر لطفًا من عذاب الحنين من بعد تعلّق.

من هنا، وجد كوفمان مساحة خصبة للإبداع، فصنع فيلمًا يدور حول إمكانية انتشال شخص بعينه من الذاكرة بكل ما خلّف من ذكريات فيختفي شعور الحنين المُقبض.

يتجه جيم كاري في شخصية (جويل) بطل الفيلم إلى محو ذاكرته مع كيت وينسليت في شخصية "كليمنتين"، فيسلّم نفسه لطبيبٍ يجيد محو فترة ما من ماضي المرء. الأمر أشبه بالمونتاج، تحذف مقطعًا وتبقي الفيديو كما هو!!

يسلم جويل نفسه لأجهزة كثيرة تتعلّق بدماغه، وصدمات كهربائية عدّة. ولم يكن يعرف أنه على مشارف حرب ضروس، فعمليّة المسح ستتم بتراجيديا ومأساوية قد تكون أكثر وطأة من الحنين ذاته! ولكن لم الحزن ونحن على مشارف التخلّص من الكدر والحنق؟!

الذكريات كعذاب مستلذ

أثناء عملية المسح، وجويل فاقدٌ وعيه تمامًا، كان يصرخ في داخله كي تتوقف العملية. كان يجاهد كي تحدث على جسده إيماءات أو إشارات فيوقف الطبيب العملية.

لم يدرك جويل أنه يمسح ذاته، فالذكريات هي الذات في شكل ماضٍ. كان ينتفض حين تطرق دماغه باب اللحظات السعيدة التي عاشها مع كلمنتين، كونه في اللحظات السعيدة بالتحديد، رأى نفسه في ثوب الفاضل، أو الواثق، أو القوي، أو خفيف الظلّ أو المحبوب أو الكريم، إلخ.

فالمرء يشعر بالسعادة في تلك اللحظات التي تظهر فيها شيمة من شيم الفضيلة عليه، ولن يحب أن تمحى تلك الذكرى التي تحلى فيها بصفة فاضلة.

يلاحظ جويل في غيبوبته أن ذكرياته مع كلمنتين كالبيت الموحش في خارجه، انطفأت إضاءته وظن من رآه أنه مهجور كئيب يجب هدمه، بيد أنه في الداخل وجد الكثير من الغرف المضاءة والحيّة.

فما كان يظنّه عذابًا، وجد فيه اللذة. ما كان يرنو للتخلّص منه الآن يبقيه بشتى الطرق.

يدرك جويل أن شحنة الغضب والحنين على إثر انتهاء علاقته بكلمنتين لم تكن مدعاة على الإطلاق للتخلّص من ذكرياته معها. يلاحظ أن تلك التجربة والتي قرر محوها، هي جزء من تكوينه فيصطدم بأنه اتخذ قرارًا بمحو نفسه!!

هي إشارة من كوفمان إلى أن الذكريات وإن كان بها عذاب يؤرقك، إلا أنها أنت. ربما لا تدري ذلك، ربما تسعى لدحرها وكبتها، لكنك في كل محاولة، ستجد أنك تكبت نفسك!

الفيلم محاولة لجعل الفرد مُتقبِلًا غدر الزمن وعصفه، دون محاولة لمحو ما خلفه الزمن من ركام وحطام، فالتقبّل طريق أسهل من مواجهة الماضي، إذ إن مواجهة الماضي تزيد الأمر تراجيديا وألمًا، ومن منّا لم يتكوّن على إثر حطام نفسه.

السرد غير الخطّي وارتباطه بأفلام العقل

يلاحظ أن سرديّة الفيلم متشابكة، غير نمطيّة و غير خطّية، وهي المدرسة السردية الأشهر في أغلب الافلام المرتبطة بقدرات العقل، كالتذكر، والنسيان، والأحلام والوقت وغيرها من الأشياء التي يربطها الفرد بالعقل.

من روّاد المدرسة غير الخطّيّة المخرج كريستوفر نولان والذي بالمناسبة تصدّر بشكل ملحوظ إنتاج أفلام ترتبط في مضمونها بالعقل وإمكاناته، وهي أفلام مثل Memento وInception وThe Prestige.

قد تجد أن كوفمان قد فتح أبوابًا كثيرة في سرده وتتساءل كيف سيغلقها فيصنع سرديّة متماسكة لا خلل فيها، لتجده في النهاية يصنع سيناريو قويًا، ويغلق هذه الأبواب بانسيابية. بل إن نهاية الفيلم من النوع التي تطفئ نارًا قد اشتعلت في وجدان الجمهور في لحظة ما من الفيلم، إذ جعل أكثر لحظات الفيلم تراجيديا وحزنًا قبل النهاية بمدة (بالتحديد في مشهد التقاء البطلين في المنزل على الشاطئ)، وجعل النهاية بمثابة المصالحة والتربيت على كتف الجمهور بعد دموع غزيرة.

ما جعل الفيلم مقبولًا ومستساغًا، ولا يحسب بشكل قاطع من نوعية الأفلام التراجيدية الصادمة والتي يهرب منها البعض كـ Requiem of a dream أو Remember me مثلًا، وهذا ذكاء يحسب لكوفمان.