سلامُ الخبز

في وطني العربي، هذه الرقعة المضطربة من الأرض، تصطدم الرغبات بالمصالح، وتتكالب الأطماع والمؤامرات؛ فيصبح السكان عبارة عن قطعٍ فوضويةٍ من الشطرنج رُصّت خارج مربعاتها، لا تُميز الوجهة الصحيحة، ولا تعرف هل المسير نحو الشرق أم الغرب أم تراه يكون في خطٍ مستقيمٍ نحو الأمام! 

فتتأرجح بين أيدي لاعبيها، حيث يتم دفعها في دوامةٍ عنيفةٍ سريعة، تنتقل بهم بين حياة شبيهة بالإقطاع الذي ساد أوروبا في العصور المظلمة، وبين حضارة القرن الحادي والعشرين، ثم يفاجأون باللحظة الحاسمة الصادمة "لكِش ملك"، حينها تتبدل الأدوار نحو الأسوأ لا الأفضل، ويتزايد الاضطراب في هذه الأرض، وتتكاثف عليها أنابيب امتصاص الخيرات؛ فيتفاقم فقر وجوع الشعوب، ويصبح الخبز عبارة عن مطلبٍ مُلِّحٍ وسط ثورةٍ وفوضى، ويختفي السلام والاستقرار مع اختفاء الحاجات الملبّاة والرغبات المحققة والنفسيات المستقرة.

سلام الأمة ينبع من داخلها

والحقيقة أنّ سلام الأمم ينبع أولا من داخلها ومن استقرارها ورخائها، وليست هذه الحقيقة بشيءٍ جديد بل هي ما انتهت إليه التجارب الإنسانية السابقة، ولكنّها في وطننا العربي الكبير ما هي إلا حقيقة مظلومة زهد الحكام والناس عن إنصافها.

فبعد أن أسدلت الحرب العالمية الثانية أستارها، فَتحت شعوب الدول المنتصرة أفواهها وتعالت من حناجرها الهتافات، لا امتنانًا وفخرًا وتمجيدًا لرؤسائها وحكوماتها المنتصرة فقط، ولكنّها كانت هتافات ممتزجة بالصرخات المطالبة بالطعام والزبد، فهم يعلمون كما الجميع أنّ الجوع بالنسبة للشبع البذِخ لا يمكن أن يكون أكثر من مشهدٍ مسلٍ، وأنّ اللاهثين خلف ملذات الحياة وترفها لا يرون الزاحفين فيها، وبالتالي وجب على الزاحفين الصراخ والمطالبة والثورة، فما كان من حزب العمال البريطاني آنذاك إلا أن وضع مطالب شعبه بعين الاعتبار، ونَقل المجتمع الإنجليزي -لأول مرة في تاريخه- من الرأسمالية المحتكرة التي ورثها من المحافظين إلى الاشتراكية المعتدلة.

واختفت صيحات الجوع وثورات الغضب هناك؛ بعد أن أمّنت الحكومة للجائع خبزًا وللمتشرد مأوًى، وساد السلام الداخلي مصحوبًا بالرخاء الذي كان نتيجة للتطبيق غير المقصود للمنهج الإلهي: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد:11. 

وكما يقول الثوري والفيلسوف الأمريكي توماس بين: "إنّ الفقر ليتحدّى كل فضيلة وسلام لأنه يورث صاحبه درجةً من الانحطاط والتذمر، تكتسح أمامها كل شيء ولا يبقى قائمًا غير المذهب: كن ولا تكن!"

فطالما وُجد في المجتمع ثراءٌ فاحشٌ متغطرس، سيوجد في الجانب الآخر المنسي منه فقرٌ متذمرٌ ثائرٌ يحاول الخروج بنفسه من قاموس النسيان في الحياة.

وهذا التذمر المتنامي المتراكم من أخطر الأمور على المجتمعات العربية والأمة، وهنا تقع المسئولية الكاملة على سيادة الحكومات الجشعة غير العادلة، والتي تتسبب بالرجعية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فتمتص الحياة من الشعوب امتصاص الزومبي لفريسته لتحولها إلى شعوبٍ ميتة على قيد الحياة، يسودها التذمر والعدوان والاقتتال.

فإنّ الشعب القلق على لقمته، يصبح عقله في بطنه وسيجعل من الجريمةِ واجبًا يؤديه اتجاه نفسه كي يريح ضميره -هذا إن بقي لديه ضمير-، وخير مثال على هذه الفلسفة المتنمرة هو قول ثوار الحزب الديمقراطي في روسيا: "شقوا بطن القيصر. وأخرجوا منها الكمثرى لنأكلها!".

وفي هذا السياق أذكر مقولة الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري والتي ذُكرت في كتاب (الإسلام والتوازن الاقتصادي بين الأفراد والدول) لمحمد شوقي الفنجري، حيث قال: "عجبتُ لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرًا سيفه!"

وبالتالي فإنّ من أكثر الأخطاء التي نقترفها هي بحثنا عن السلام في الخارج قبل الداخل، ودورانِنا في فلك الدول الكبرى ومعاهداتها والمنظمات القوية واتفاقياتها، فالمعاهدات والمعونات التي تقدمها هذه الدول المُمسكة بزمام الحكم العالمي؛ ليست بوازع الرحمة والعطف الإنساني بل لأنّها تعلم أن فيها صيانة لسلامها وأمنها الداخلي قبل كل شيء.

فالسلام كما تفهمه هذه الدول، هو أن تجد لبضائعها أسواقًا ولطائراتها وقودًا، ولأطماعها أرضًا خصبة، ولمدنها أمنًا، فالسلام عندها سلام خاص لا سلام عالمي، وهي على أتم الاستعداد لأن تذبح السلام العالمي وتسحقه مقابل سلامها الخاص، وإذا نسينا الدروس السابقة والعبر فقضية فلسطين ما زالت تذكرنا، والحاضر الراسخ أمامنا في سوريا واليمن والعراق وغيرها عليه أن يوقظنا!

وفي الحقيقة نحن بحاجة إلى جرعة كبيرة وقوية من التمركز حول الذات لتحصرنا في أنفسنا، فلا نفكر لغيرنا حتى ننتهي من التفكير والتخطيط لأمتنا وشعوبنا، فنتحول من بقعة مستضعفة تتزاحم عليها الذئاب إلى قوةٍ مَهيبة تخافها وتحترمها.

الاشتراكية الإسلامية

وإنّ من أفضل المناهج والأنظمة التي من الممكن أن تُخرجنا من مأزقنا وتضع أقدامنا على الطريق الصحيح نحو تحقيق السلام الداخلي والخروج من هذا الظلام، تتمثل في الاشتراكية الإسلامية، حيث إنّها ليست اشتراكية مجردة لا تعترف بالدين كما في روسيا، ولا اشتراكية محايدة يستوي لديها الشرك والتوحيد، ولكنها اشتراكية ذات دستور يستقي من طبيعة المنهج الإسلامي المستقل ويسير وفق خَطِّه المستقيم لنفع الناس وحماية المُثُل العليا، فلا اعتراف لمُلكٍ حرام، ولا لكسبٍ قبيح غير مشروع، ولا لتعويض الجهد الشاق بأجرٍ ضئيلٍ بخس والعمل التافه بأجرٍ كبير، ولا وجود للتسول والفوضى، وحيث الترف مرض اجتماعي، وغيرها من المبادئ والمُثل العليا التي أساسها الإله الواحد، والأخوة العامة بين الناس.

وهذا النظام الاشتراكي الإسلامي ناصره ووضع برنامجه الضخم العديد من العلماء الذين أرادوا الإصلاح للأمة العربية والإسلامية، ومن أمثالهم: العلّامة محمد الغزالي الذي ساهم بما يزيد عن ثلاثة كتب في هذا الموضوع.

فإذا أردنا أن يرتفع لنا لواء، وتعود لنا أمجاد، وتنعم بلداننا بالسلام، فلنبدأ من هنا، حيث إصلاح رغيف الخبز من الممكن أن يقودنا إلى دائرة إصلاحات أوسع مدى مما يظنه الكثيرون.