صوفيُّ حضرموت.. الراعي المُعلّم

ربما جهله الكل، ولكنه محفوظُ الذكرى في ألباب آل بيتهِ بتعاقب الأجيال، وتنوّعِ المهاجر،
ربما كان آخر حبالِ الوصل بين أبناء الشتات الممتد..
الشيخ سعيد بن عيسى العمودي،
واضعُ حجر أساس هذه العائلة، كبيرُها وعالمها، شيخها وحكيمها.
الأميّ العارف،
والراعي الذي أخذ الخِرقة.

وُلد الشيخ في وادي دوعن في حضرموت، ونشأ على شظف من العيش، وكان يرعى الغنم والحرث مع أسرته،

جالس العلماء، وحضر دروسهم المنعقدة في المساجد، لم يتعلم القراءة ولا الكتابة، لكنه كان "حافظًا جيدًا صافي الذهن ثاقب الفهم".

كان سعيد بن عيسى يجالس ويصاحب علماء ومشايخ عصره، فكانت هذه المجالسة بمثابة الداعم لما كان في نفسه وفطرته، إذ تكون بعض الأنفس مجبولة على شيء لكنها تبقيه في الداخل لحين من الزمن حتى يجيء وقت إظهاره المناسب بوجود الأشخاص، وتضامن الظروف، ومناسبة الفرص.

وجاء في كتاب "عرائس الوجود ومرآة الشهود في بعض مناقب الشيخ سعيد بن عيسى العمودي" أنه: "كان يرد على العلماء في المسائل الغامضة، ويبين لهم مبهم أسرار الحقائق، وإذا استمع إلى القارئ أرشده إلى الصواب من اللحن والغلط، وإذا أتى إليه من اقترف ذنبًا ألزمه التوبة مما فَرَطَ".

ولما كان رده لافتًا، خاصة وأنه لم يبرز حينها بعد، ولم تعرفه العامة، قيل له: "إنك بدوي"، كما في الكتاب أعلاه، فقال: "نعم ولكنّ الله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم".

وهنا أقول: تعيب بعض المراجع أُمية الشيخ سعيد، وليس تعييبها عن استنكار بل استهزاء، فهي تربطه بالجهل والرعي، وترغب بتجاهل التاريخ بهذه "التهم"، بل هي تستحضرها في بداية الحديث حتى توهم القارئ بسفاهة ورجعية تلك البيئة التي أخرجت مثل هذا الشيخ.

لم يتدرج الشيخ سعيد في أخذ العلم تدرجه المعتاد الذي ينتهي بثبوت حصوله على هذا العلم، وإنما حصّل من العلوم الدينية ما كان موجودًا في علماء عصره وبيئته، وكان يستمع لهم ويجالسهم، وهذا نوعٌ من أنواع التعلم لا ينكره إلا متكبر النفس، والجاهل بحقيقة العلم وجوهر المعرفة، ومن يرى أن العلم مظهر من مظاهر التجبر والعلو على الغير.

وأسس الشيخ في "قيدون" -إحدى قرى دوعن- زاوية تحمل اسم العمودي، أشرف عليها في حياته، ثم تولاها ذريته من بعده.

سُئل مرة عن الشروط الواجب توافرها في الشيخ المربي، فأجاب جوابًا عظيمًا طويلًا لا يعلو عليه جواب ولا تفصيل، جاء فيه: "لا يجهلُ بمن جَهِلَ عليه" وكأنه كان عارفًا، رحم الله تلك الروح المؤسسة واسعة العلمِ والدراية.

ومن مشاهد تجلي عبادته أن زوجته في أول زواجهما عادت لوالدها مستغربة ما قيل عنه –الشيخ سعيد- فقالت: "كيف أعيش مع رجل ما لهُ قيامٌ في ليلة؟"، فقال والدها: "ارجعي وانظري ماذا يفعله في ليلة من الأعمال والأقوال".

فلما عادت راقبته حتى طلع الفجر، فأرسلت إلى والدها من يُخبر بخبر ما رأت منه، وقالت: "إنه إذا قَرُب الفجر يقوم يصلي فيقول: "أنا.. أنا.. أنا"، فأرسلَ والدها إليها يقول: "هذا المقام الذي ما وصلنا إليه"، وذلك إشارة إلى أنّ مقام الشيخ سعيد بن عيسى مقام الرد على المنادي: "هل من تائب؟ هل من طالب حاجة؟".

الخِرقة

الخِرقة في العُرف الصوفي هي:

لباسٌ يُرتدى فوق الملابس، ويلبسها المريد من شيخه الذي دخل في إرادته.

وبهذا المعنى المريد هنا: سعيد بن عيسى العمودي.

وشيخه: شعيب بن الحسين الأنصاري (أبو مدين التلمساني)، شيخ أهل المغرب، واشتهر بشيخ المشايخ.

بعث الشيخ شعيب أبو مدين من يربط الشيخ سعيد بمنهج تصوفهِ ومدرسته الأخلاقية، وكان المبعوث أحد المشايخ الحضارمة الذين قد وصلوا إلى المغرب وأخذوا علمَ الطريق على أبي مدين، وهو الشيخ عبد الرحمن المقعد، وقد وجهه الشيخ أبو مدين لوضع نائب له، حيث مات في الطريق قبل أن يصل إلى حضرموت، وسلّم الخرقة النائب وهو: الشيخ عبد الله الصالح المغربي.

لما توجه مبعوث الشيخ أبي مدين إلى دوعن بهدف لقاء الشيخ سعيد، وكان الشيخ حينها قد تجاوز الثمانين من عمره، فسأل عنه ودلوه إلى "قيدون" فذهب واجتمع به، وألبسه الخرقة، وأخذ العهد عليه، ودعاه إلى إظهار أمره ونشر الصوفية بالوادي، ذلك أن الشيخ لم يُظهر قبل هذا اللقاء التصوف كدعوة وطريقة، بل مارسه كسلوك وأدب، وأسلوب حياة.

كسرُ السيف.. رفعُ العلم

هذه القصة تبدو كأسطورة من أساطير البلادِ في فرادتها، وهدفها، وطريقة تطبيقها.

مدخل.. السلطة الروحية في حضرموت

لقد كانت حضرموت تموج في صراعات قبلية لا تنتهي، ولا تُخلف إلا مزيدًا من الجهلِ، والفقرِ، والخضوع، وتؤلب النفوس المتقاربة، وتزرع الحقد حتّى تطمئن من استقرارهِ فتذهبُ لموطئ قدمٍ جديد لتزرع الثأر الذي ينتهي بفعلٍ أحمر، وهو القتل، أيّ: الموت.

برزت الصوفية في فترة دُهنت فيها حضرموت باللون الأحمر، حيث شهدت بدايات القرن السابع الهجري حالة جديدة من الفوضى القبلية، وكان المجتمع الحضرمي بأمس الحاجة لأي شيء ينقذه من ظلمات العنف الدموية، عنف الثأر الذي لا ينتهي، بخلاف أن الحالة الاقتصادية كانت تشهد انحدارًا مستمرًا فكان الشعب يعيش في فقر وتقشف، وكما قيل بأن: "التصوف كان مُعاشًا واقعًا ولم يبقَ إلا وجود اسمه"، هذا وعوامل أخرى جعلت للدعوة الصوفية مكانًا محببًا في قلوب الحضارمة، فاستقبلوها، وكان من أعمدتها ومؤسسيها: الفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي، والشيخ سعيد بن عيسى العمودي.

لقد كان للتواجد الروحي -الذي لا زال حاضرًا- مكانة في نفوس أبناء حضرموت، ومكانته هذه جعلت منه سلطة واقعية تقارن قوتها بقوة التواجد القبلي، بل وحتى الدولة (الدولة بالمفهوم الذي كان موجودًا: كيانات حاكمة، أو سلطنة)، حتى إنّ الدولة الكثيرية رسّخت قدم سلطتها باتصالها مع ذوي السلطة الروحية من أبناء الشعب، وحصلت على التأييد من "العلويين" في بداية سلطتها. وقد تكون هذه إشارة مهمة وواقعية على قوّة المد الروحي في حضرموت، في حالة فريدة قد تتشابه مع السودان بوجود النَفَس الروحي في بلاط السياسة.

كان سعيد بن عيسى ممن عاصر محمد بن علي باعلوي الذي يعرف باسم: "المقدم الفقيه"، وهو محمد بن علي باعلوي، من أشهر شخصيات آل باعلوي حتى لقب بلقب "الفقيه المقدم" الذي لم يلقب به أحدٌ قبله.

وبالفقيهِ والشيخِ توطدت مدرسة آل باعلوي بحضرموت، وكان لقدوم الشيخ لـ "تريم" موطن تمركز "السادة" دور في تقوية الصلات الروحية بين الطرفين. وقد كان هذا التعاون بينهما أساسًا لوضع ثوابت مجتمع العلم والأخلاق، وربما يصلح القول بـ "تمدّن" حضرموت بعد أن كان للقبائل صولات وجولات في حكمٍ دمويّ للبلاد.

ومما نتج عن هذه العلاقة: الزهد وتقليل المنازعة، وفي حال وقوعها يكون هناك مجال لفضها، والإصلاح بين الناس ووضع المعاهدات بين القبائل بهدف تأمين الطرق والأسواق.

وكان اجتماعهما مؤديًا لوضع ثوابت لا زالت راسخة في المجتمع الحضرمي إلى الآن، أهمها:

كسر السيف

لمّا عزم الفقيه المقدم على خطوة مفصلية في تاريخ حضرموت امتدت آثارها حتى الآن وربما لسنوات متقدمة في المستقبل، -لما عزم- على كسر السيف الذي يحمل فيما يحمل دلائل القوة المادية، والعنجهية البعيدة عن الرأي، وقرر التمسك بالعكاز في إشارة تمثل التوجه السلمي، والعلمي، خطوة فاصلة وفارقة في تاريخ حضرموت سياسةً ومجتمعًا، في هذه الخطوة كان سعيد بن عيسى يمينه في هذا القرار وسنده في هذا الإقدام. حيث كسر الفقيه سيفه بجانب الشيخ سعيد بن عيسى العمودي، وسلمه له، وبدوره حمله إلى دوعن، ولا زال جزء من السيف المكسور موجودًا إلى يومنا الحالي عند قبره رحمه الله.

وكان الفقيه المقدم يقصد بهذه العملية التغيير الجذري للحياة الاجتماعية في حضرموت، حيث إنّ الأسلوب الذي كان معتادًا هو حمل السلاح دون رادع، بهدفٍ ودونَ هدف، حتى صُبغت البلاد باللون الأحمر نتيجة هذه التصرفات المتسيبة. وكان لهذه الخطوة الرمزية تأثير على المجتمع الحضرمي، وعلى تصرفاته، فقد انتهجت كثير من الأسر هذا النهج وتركت سلاحها استجابةً لهذه المبادرة، منهم: آل باجمال، وآل باعباد، وآل إسحاق. إضافة لاستجابة الطبقة التي ينتسب لها من قاما بهذا الفعل، أي: العلويين، والمشايخ.