في إنصاف علي أحمد باكثير

حين تُعرّف المواقع العربيّة عن علي أحمد باكثير تفعلُ ذلك بشيءٍ من الفجاجة والسطحيّة، تُلصقهُ بهوياتٍ أخرى، تفرض عليه جهوية معينة لا لشيءٍ متعمّد، لكنهُ الجهل بحضرموت. في الماضي كانت تسير الأمور بشكل جيد، وصادق! ففي التعريف عن باكثير جاء في جريدة الجمهورية في عددها الصادر يوم 11 نوفمبر/القاهرة: "الأديب والكاتب المسرحي العربي علي أحمد باكثير، المولود في مدينة سورابايا الإندونيسية من أبوين عربيين من حضرموت. عالج علي أحمد باكثير الشعر وهو في الثالثة عشرة فتأثر بأعمال أحد شعراء حضرموت المشهورين، وترجم رواية روميو وجوليت بالشعر المرسل عام 39 وكان هذا تمهيدا لحركة الشعر الجديد في مصر".

كُلّ شيءٍ في باكثير يفيضُ بحضرموت؛ عائلتهُ، مكان مولده، تعدد هويّاته، أشعاره، تسميته لحضرموت بـ "الأحقاف" في أحد أعماله الأدبية، لكن لا أحد يرى ذلك. وأنا أكتبُ ذلك لأجلك يا باكثير لإعادة حضرموت التي همشوها منك، سيكون كُلّ شيء كما ينبغي له أن يكون.


النشأة والأدب

وُلد علي أحمد باكثير الكِنديّ في إندونيسيا، تكتبُ المراجع العربية ذلك وتسكت كأنّ محلّ الولادة هذا معدوم السبب والمرجعية، أو كأننا جميعنا وُلدنا في إندونيسيا! كثيراً ما استفزني هذا التجاوز حتى وإن كان مصدرهُ الجهل. إندونيسيا مهجرٌ حضرميّ. وهي أحد أهم معاقل الهجرة الحضرمية في الشرق الآسيوي، وكذلك الهند، مُضافًا لهما المهجر الإفريقي المتمركز في الشرق، تحديدًا "الحبشة (إثيوبيا)، وكينيا"، وكذلك الخليج العربيّ.

مسقط رأسه سورابايا، وحين بلغ سن العاشرة أرسله والده إلى حضرموت، وكانت هذه عادة الحضارمة في المهجر الآسيوي؛ إذ يرسلون أبناءهم وهم في سن صغيرة لاكتساب العلوم العربية والإسلامية، وتقوية عربيتهم، وتأكيدًا على ارتباطهم الأولي بوطنهم الأمّ حضرموت.

يقول د. محمد أبوبكر حُميد في كتابه (إندونيسيا.. ملحمة الحب والحرية في حياة علي أحمد باكثير وأدبه) معلقًا على تلك المرحلة: "وسرعان ما ظهر نبوغه، فبرزت موهبته الشعرية وهو في سن الثالثة عشرة من عمره، وتلقّى أول علومه على يدي عمه العلامة الشيخ محمد بن محمد باكثير (1866-1936م)" ويُكمل: "وقبل أن يبلغ العشرين من عمره كان قد استوعب أمهات الكتب العربية في اللغة والنحو والأدب، والتهم دواوين الأقدمين والمُحدثين، ومن عجائب عبقريته أنه أصبح مديرًا للمدرسة الوحيدة في مدينة سيئون سنة 1925م وهو في سن الخامسة عشر، وفي الوقت نفسه استوعب مؤلفات ابن تيمية وابن القيم".

وعن عادة حضارمة المهجر في إرسال أبنائهم إلى حضرموت، يقول باكثير في إحدى قصائده واصفًا نفسه:

من رأى ذاك الغلامَ العَربي؟    غادرَ المنشا إلى أرضِ الجـــــــدودْ
سنةُ الجدِّ ومنهاجُ الأبِ          فهي العادات في الدنيا قيــــــــــــــــودْ
كــــــــــــــــــــــــــــــــــــقيودِ الكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــونِ ذي النَّـــــــــــــــــــظم العُـــــــــــــــــــــــــــــــــجابْ
                                          (...)

غادرَ (الجاوةَ) فِردوسَ الدُّنى           وطنَ النعمةِ ينبوعَ الشرفْ
قاصدًا من (حضرموتَ) الوطن       ينشدُ العزَّ ويرتادُ الشـــــــــرفْ

ويؤكد أ.د. عبد الله بن حسين البار ضمن لقاء له في قناة حضرموت، أنّ لهذه التنشئة دورًا في الحفاظ على الخط الإسلامي المعتدل (الوسط) لدى باكثير، والذي كان يظهر في أدبهِ شعرًا ومسرحًا وروايةً، وقد كان أشبه بهالةٍ تحميه من كلّ التيارات الجارفة في مصر آنذاك. ويقول أيضًا عن النفس الإسلامي الحاضر في أعمال باكثير، والذي يعمد إليه البعض كمدخل لانتقاد أعماله أو التقليل منها: "علي أحمد باكثير أديبٌ مسلمٌ قبلَ أي شيءٍ آخر، وإسلامهُ فيهِ من الصفاءِ ما في تديّن الحضارم بصورةٍ عامة، فلذلك عاش باكثير الحياة بهذا الهاجس الديني الصافي الذي لا شائبة فيه ولا خلل" فهو يكتب بـ"منطق صوفي ديني، تَعوّد عليه في البيئة التي عاش فيها أوّل حياته". 

واستحضر البار من أعمال باكثير (السلسلة والغفران) و(سلّامة القَس)، وفي سلّامة القَس -وهي أوّل قصة له، وأوّل تجربة نثرية- يتضح هذا التوجه بجلاء، ولا يحتاج القارئ لكثير عناءٍ ليلتقط النفس الإسلامي الخاص بباكثير، فهي تدور حول شخصية (عبد الرحمن الجشمي) العالم والديّن ولُقب لأجل ذلك بـالقَس، وقد سلبته سلّامة عقله بصوتها وألحانها الفريدة وحُسنها، لكنّ حبهما كان عفيفًا وطاهرًا. وفيها أيضًا يتضح تعلّقه بالشعر باعتباره أول فن أدبيّ مارسه. فتظهر الأبيات متناثرة بين الصفحات دون أن تخلّ بالرواية.

أما عن التيارات الفكرية التي كانت تحيط بباكثير واجتذبت الكثير حولها، يقول د. البار: "ظلّ هذا الهاجس هو الذي يشغلهُ، وَجد أمامه عددًا كبيرًا جدًا من الاتجاهات الفكرية، من الماركسية، والوجودية، والبراجماتية... إلخ، لكنهُ ظلّ مستعصمًا بهذه الرؤية الإسلامية". ويؤكد أن نشـأته الأولى في حضرموت كان لها الدور الكبير في ذلك التوجه ومدّه وتعزيزه على مدار سنوات حياته، فباكثير كما يقول البار "حوّل" رؤيته الإسلامية من سلوك الحضارمة اليوميّ إلى: "وعيٍ ثقافيّ، من خلال قراءاتهِ واطلاعاتهِ ومناقشاتهِ".

علي أحمد باكثير في شبابه وهو بمصر



باكثير وهُوياته

لم يفت باكثير أنهُ سيكونُ منحازًا لوطنين في ذات الوقت، مُضافًا لهما عروبته وإسلاميته، فهو مرتبط بالأمة الإسلامية أشد الارتباط، لذلك نجده يقول: "قلبي بِهِ شَطْرانِ بينَ المسلمينَ على العُمومِ وبينَ شعبي الحَضرمي"، وفي مطرحٍ آخر يقول في رثاء العلّامة المحقق الحضرمي محمد بن عقيل بن عبد الله بن يحيى العلوي:

فإذا قدمتَ على الرسولِ قُلْ السلامُ على أبينا
واشرح لهُ حال الحضارمِ بعد حالِ المســــــلمينا

ويظهر هذا التوجه في أشعارهِ، وأعمالهِ الأدبية والفنية، بشكل واضح. كذلك شكّلت قضايا التحرير آنذاك ملمحًا بارزًا من ملامحِ إنتاجهِ، مثل مسرحية (عودة الفردوس) المكونة من أربعة فصول وكُتبت عام 1946م. كان الإهداء فيها كالتالي: "إلى الذين لا يزالون يعانون القيود والأغلال من أمم الإسلام وشعوب العرب. أهدي هذا الكتاب ليسمعوا قرقعة خمسة وسبعين مليون قيد في إندونيسيا تتحطم! وإن لهم في إخوانهم الإندونيسيين الأبطال لأسوة حسنة".

لقد أجاد باكثير وصف النضال في مسرحية (عودة الفردوس)، وكان عالمًا بخبايا المناضل بشقيهِ: المندفع، والذي يبحث عن حل جذري يمارسه على الفور، وبين المناضل الذي يعمل بهدوء، وهو مدرك وراصد لهدفهِ البعيد، وتمكن من الجمع بين النقيضين، في قالب وطنيّ هادف وصادق.

ومن خلال هذا العمل تظهر لنا علاقة باكثير بإندونيسيا، وأثبتت الأيام أنها كانت علاقة حب متبادلة، فقد قال السفير الإندونيسي بمصر أحمد يونس موكوجينتا في عزاء باكثير: "لقد فقدت إندونيسيا بوفاة الأديب الإسلامي الكبير علي أحمد باكثير مواطنًا مخلصًا، وأديبًا عملاقًا، ومناضلًا عنيدًا سخَّر فكره وجهده وقلمه للدفاع عن حرية إندونيسيا واستقلالها، وهاجم المستعمرين بضراوة لم نرها عند أديب مثله رحمه الله". وقال أيضًا: "ولو أرادت إندونيسيا في يوم من الأيام الاحتفال بالأدباء الذين حملوا عبء التعبير عن قضاياها وطموحاتها خلال فترة الكفاح من أجل الحرية والاستقلال لكان علي أحمد باكثير في طليعتهم، إن لم يكن أولهم على الإطلاق".

ومِصداقًا لذلك يقول د. محمد أبو بكر حميد في كتابه سابق الذكر: "وكان علي أحمد باكثير دائما في مقدمة المدعوين للسفارة الإندونيسية في كل مناسباتها الوطنية، وعندما زار الرئيس سوكارنو مصر دُعي علي أحمد باكثير إلى حفل لتكريمه في السفارة الإندونيسية، وأهداه الرئيس سوكارنو وسام الجمهورية للفنون والآداب تقديرًا لنتاجه الأدبي الذي قدمه أثناء الكفاح لأجل انتزاع حرية إندونيسيا واستقلالها".


لم تغب عنهُ حضرموت حين يذكر إندونيسيا، ولا إندونيسيا حين يذكر حضرموت، كان يحنّ لهما وهو فيهما، يقول في أحد أبياته التي جسّدت غربة الإنسان الحضرمي الدائمة وتعدد هوياته التي يحملها:

(سُرباي) إنك مــــــــــوطنٌ لولادتـــــــــــي      ومـــــــــــــحلُّ تربيتي ومهدُ صبــــــــــــــــــــايَا

لكن لي وطنًا يعزُّ فِراقُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهُ      كيف السبيل لذاك وهو حــــــــــــــــــمايا

هي (حضرموتُ) وما عنيتُ سوى      رُبا (سيؤون) فهي مرابعي ورُبـــــايــا

وهوَ حتى حين تُنفّره بيئته لا يهونُ عليهِ لومها كُليًا، يقول:

(سيئون) لي وطنٌ وديني حبها ولو أنها قطعت لديك عُرايا

إن مسني ضيمٌ بها فلأنني جاورتُ فيها المــــــــــــخبثين طوايا

وكانت محبوبته (نور) في حضرموت أحد موانع وصله لسورابايا، يقول:

منعَ ارتحالي نحوكم شغفي بها فعييتُ عنه ولم أكن أتعايَا

لولا هواها عن سُراي يعوقني لركبتُ نحوكم الرِّيَاحَ مَـــــطَايا

إنَّا أُناسٌ للغرامِ نفوسنا ولخدمة الوطن العزيز ضــــــــــــــــــــــحايَا

يقول د. محمد أبوبكر حميد في كتابه سابق الذكر، عن حالة الحنين المكثف التي عاشها باكثير لإندونيسيا: "لا يلجأ الإنسان في أحوال شدته وحزنه إلا إلى أقرب الناس إليه، وإن حنينه إلى (سربايا) في وقت الشدة يؤكد أنها كانت تمثل له صورة إندونيسيا في نفسه كالأم الرؤوم".

وهو حتى حين كان في مصر باعتبارها أطول مهجر له لم تغب عنه حضرموت، يقول أ.د. البار في حديثه عن ارتباط باكثير بالواقع الاجتماعي وتركيزه عليه أكثر من أي شيء آخر: "عندما ذهب إلى مصر وبدأ يكتبُ المسرحية، ظلّ الإطار المكاني للمجتمع الحضرمي حاضرًا في كثيرٍ من المشاهد التي يرسمها لأحداث وشخصيات مسرحياته" ويضرب مثلًا من أحد أعمال باكثير: "مسرحية (السلسلة والغفران) عندما تقرأ هذهِ المسرحية تشعر أن المكان فيها حضرميّ، وطبيعة الشخصيات فيها ذات نكهة حضرمية". ويقول د. حُميد في محاضرة له بعنوان: "علي أحمد باكثير وأدواره الوطنية المجهولة" في جامعة حضرموت أنّ باكثير منذ دخوله مصر كان يوقع قصائده بهذا الاسم: "الشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير".

علي أحمد باكثير في شرفة منزله بمصر

حضرموت.. وَهَمُّ التجديد

في الوقت الذي ناضل باكثير بالفن والأدب لإندونيسيا، كان يحملُ لواء التجديد في حضرموت، وكم عزّ عليه وضع البلاد حينها، وبذل كلّ جهده لفتحِ حفرةٍ في باب الجمود الذي شمل شرائح واسعة من المجتمع الحضرمي حينها. وكان يؤمنُ بالعلم والتعليم؛ فعمل -في مدرسته- على إدخال مواد جديدة، كالتاريخ والجغرافيا والأدب والشعر، فما لبثت جموع أعداء التغيير لحظات حتى هاجمته بحملةٍ شرسة، وكان يُلقبهم بـ "الجامدين"، لكنه لم يسكت، وكان يقول مُدافعًا عن نفسهِ:

أنا لم أدعُ إلى غيرِ الهدى وإلى غير نهوضِ المسلمينْ

أنقمتم دعوةَ الناسِ إلى سنةِ المختارِ خيرِ المرسلينْ

ظلت حضرموت تؤرقه، وحلم التجديد والتحديث لا يفارقه، ويداعبهُ في حلمهِ ويقظته، يقول في أحد قصائدهِ ذات الـ 58 بيتًا، والتي نظمها في مفتي حضرموت العلّامة عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف إشادةً بموقفه من النزاع الحضرمي-الحضرمي في المهجر الإندونيسي بين الإرشاديين والعلويين، وفيها يقول عن حضرموت:

أنا قلتُ ما قد قلـــــــــــــــــــــت     عن قلبٍ يؤججه الضّرام

يهوى الرقي لحــــضرموت     لمستوى المدنِ العظام

ويسوؤه هذا الجمــــــــــــــودُ        على شـــــــبارقها القِدامْ

وأثناء إدارته لمدرسة النهضة العلمية بسيئون أشهر دعوته التقدمية بين الطلّاب، وفي ذلك يقول:

تُرهقونَ النشءَ بالحفظِ فمن حفظِ تقريرٍ إلى حفظِ مُتونْ

ليس في ذاك لهُمْ من صالحٍ      إنه يقتلُ فَهمَ الناشئينْ

فَدَعُوا الحَشْوَ وَرَبُّوا فيهُمُ    مَلَكَاتِ الحِذْقِ في كلّ الفنونْ

وكان مناصرًا لتعليم المرأة، فنجده يقول:

كيفَ السبيلُ إلى النهوضِ   وأُمهــــــــــــــــــــــــات النشء عُورْ

أَبِدونِ تربيةِ الإنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاثِ  تُفيدُ تربية الــــــــــــــــــــــــــــــــذكور

أَيَلِدنَ أحيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاءً وهُنَّ من الجهالةِ في قبورْ

في سبيل ذلك، حُورب باكثير كثيرًا، وحصل على نصيبه من مقارعة الجامدين، لكن هذا لا يعني أن الساحة كانت خالية لهم بالتمام، بل حظيت حضرموت بأصواتٍ فردية لم تُهمل ضرورة العلم ولم تُقصره على المتعارف عليه من فقهٍ وحديثٍ ونحو، بل أدخلت ودرّست مواد أخرى، وفي ذلك يقول باكثير:

إلى متى ذا التواني    إلى متى ذا الجـــــــــــمود

أحوالنا في انحطاطٍ    وعلـــــــــــــــــمنا لا يــــــــــــــزيد

فقه ونــــــــــــــــــــــــــــــــــحوٌ    وباقي العلوم منا طريدْ

وسعت هذه الأصوات أيضًا إلى خلق تجارب صحفية، وليس ذلك بغريبٍ على إنسان تلك المرحلة، فقد مارس حضارمة المهجر الصحافة في الشرق الأقصى من آسيا في إندونيسيا، وكما يقول د. محمد أبو بكر حميد في مقدمة مجلة التهذيب: "حورب ظهور الصحافة في حضرموت عندما أطّلت برأسها خيفةً وفي وجل وعلى استحياء بأيدي حضارم في حضرموت نفسها واطلقت، ثم ازدهرت على أيدي حضارم آخرين في الشرق الأقصى وأصبحوا روّاد الصحافة العربية فيها!" وفي هذا الصدد يُعتبر باكثير رائد ثالث صحيفة تصدر في حضرموت، وهيَ صحيفة التهذيب 1930م، وعن ظروف كتابتها ونشرها يقول حميد: "كانت التهذيب تُكتب بخط اليد؛ حيث لم تكن في حضرموت حينذاك مطابع وإنما كان يسهر عليها مع زملائه يخطونها باليد وتوزع في نطاق محدود وتعلق أعداد منها في المساجد وأماكن تجمع الناس".

وهو في ممارستهِ العمل الصحفي كان يُذيِّل مواده في بعض الأحيان باسمه الصريح علي أحمد باكثير، وفي أحيانٍ أخرى كان يكتب (نصير العلم)، ولا يحتاج هذا اللقب لكثير تفسير وكلام، بل يختصر بوضوحٍ بالغ رغبة باكثير الملحّة في رفع العلم، وارتباطه الشديد بهذه القضية، واستعداده لنصرته أمام أعدائه مهما بلغوا ومهما جمعوا. كان مؤمنًا بما يقوم به، ولا تهمه نظرة الآخرين له، وتجيء أبياته التالية مِصداقًا لذلك:

أنا لا أُبالي إذْ نصحتُ بنـــــــي أبي      أَدُعيتُ ضدًا أم دُعيتُ صديقًـــــا

إذْ قد علمتُ بأنّهم من بَعدها      سَيُصدقون مقالتي تــــــــــــصديقَا

لولا جمودُ الحضرميّ وجهــــــلهِ      بلغتْ مواهبه بهِ الـــــــــــــــــعَــيّـــــــوقَـــا

وفي موضعٍ آخر يقول:

لا تـندبـوني فإنّـي لم أمت ضرعًا    فإن علمتم عليّ الذلّ فابكوني


يقول عمر بن محمد باكثير واصفًا معاناة علي أحمد باكثير ونضاله الصحفي:

وَلَكم تجرّع صاحب "التهذيب"     مــــــــــــــاء الملامِ مرائرًا فتـــــــــــــــحملا

ومضى على علاته متجاهلًا       والحلم يمتلك العظيم الامــــــــــــــــثلا

كنوا إليه وعرضوا بمقالــــــــــــــــهم      ظنوا الرسوم هناك أن تتــــــــــــحولا

واستجمعوا أراءهم كي يُطفئوا       أنواره فأبى الإله تفـــــــــــــــــــــــــــــــــضلا

حتى استنارت حضرموتَ وأهلها     وجرى الرقي وبان فيها واعتلى

إلى أن يقول:

تالله ما "التهذيب" إفكٌ يُفــــــــــــــــترى   كلا ولا قصـــــــــــص تساق ترتلا

لكنه أدبٌ يشـــــف على ســـــــــــــــــــــــــــــنا     كشفٌ وآياتٌ تفض المُشكلا

ويُبين عن بحثٍ وتحقيقٍ وعن نهج     الالى سلكوا الطـــريق الاعدلا

وهي قصيدة تضم عدة أبيات، عَنونها صاحبها بـ "إلى أنصار التهذيب!"، وصف فيها حالة المجتمع المرتبطة بالجمود والمتعلقة بالقديم، والصعاب التي يواجهها أنصار العلم والتجديد، ثم فرحة الانتصار بتحقيق المُراد، كما يقول:

بزغ الرقي على (الطويلة) فانبرت    تــــــــعلـــــــــــــــــو المجرة والسماك الاعزلا

نهضت بحمدِ الله فيها أمـــــــــــــــــــــــة    ستكون واسطــــــة النهوضِ المجتلى

ويُلقب الحضارم سيئون بـ "الطويلة"، وهي موطن باكثير والمقصد من البيت أعلاه.

لم يكتفِ أنصار الجهل والجمود بمحاربة فِكر باكثير الجديد ونهجه الإصلاحي، بل قادوا المعركة إلى حياته الشخصية، وكانوا السبب الأول في منعهِ من الزواج من الفتاة التي أحبّها (نور سعيد عوض باسلامة)، وذلك بعد أن حرّضوا والدها عليه، ولم يحصل له مُراده إلا بعد تدخل علّامة حضرموت عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف، وبعد انتظارٍ يقرب من عامين. ويشاركنا أبو بكر حميد مآل هذا الزواج فيقول: "ولكنه حتى لمّا تزوج من يحب لم يهنأ طويلًا؛ إذ لم يدم هذا الزواج أكثر من ثلاث سنوات، أنجبت له فيه زوجته الحبيبة ابنته خديجة ثم توفيت بعد مرض عضال في 20 مايو 1932م، فجُنَّ من وقع الحدث، وغادر سيئون هائمًا على وجهه في قرى وادي حضرموت حتى وصل المكلا في 17 يونيو 1932م، ومنها غادر إلى عدن ليبدأ هجرته الطويلة التي انتهت به إلى الاستقرار في مصر منذ سنة 1934م حتى وفاته بها سنة 1969 رحمه الله". وحين عاد حضرموت بعد غياب 36 عامًا كان أوّل ما فعله، -كما قال د. حميد- البحث عن قبر (نور) في مقبرة سيئون، وبعد تعرّفهِ عليه، كان يزوره بعد فجر كل يوم ليقرأ عليه بعض القرآن. يقول باكثير واصفَا تلك المرحلة في لقاء له على تلفزيون الكويت: "هاجرتُ حضرموت لسببٍ عاطفي، ومنذ ذلك الحين لم أعد إلى حضرموت، وتجولتُ في أطراف اليمن والحبشة وفي الصومال، ثم استقرّ بي الحال أكثر من عامٍ في الحجاز".

التُقطت هذه الصورة لباكثير قبلَ وفاتهِ بثلاثة أيّام، حيث كانت في 7 نوفمبر وقد توفي في 10 نوفمبر 69م


لم يكن تهميش باكثير مرتبطٌا بتهميش وإقصاء حضرميّته التي ناضل لأجلها، بل هُمِّش أيضًا حين تجاوزوه في ساحة الأدب والفن، بل إنهم حين يريدون التعريف به، يربطون اسمه بأسماء أدباء آخرين عاصرهم وتواصل معهم وكتب في زمنهم! كأنّ هذا المجال مقصورٌ عليهم، وإن تجرأ أحدٌ ودخل فلن تقوم له قائمة، وإن قامت فسيبقى تحت فضلهم ومنّتهم، والتي لا وجود لها في حقيقة الأمر، ولا تعدو أن تكون سوى افتعال ومبالغة مكسوة بهوس وتقديسِ الأدباء المعروفين في تلك الفترة، وهو توجه يحملُ نظرة دونية لكلّ من وُجد خارج إطارهم، بل يكفي أن لا تكون أنت هُم حتى لا يُعتدّ بأدبك وشعرك ونثرك.

ووصل بهم الأمر أن تطاولوا على أسبقيته العلمية في الشعر المرسل ونسبوهُ لهم وتنازعوا في سرقة السرقة! يقول باكثير في لقاء له على تلفزيون الكويت عن توقعه الشخصي حين نظم "روميو وجولييت" كأول تجربة في الشعر المرسل: "أيقنتُ حينئذٍ أنّ هذا الضرب من الشعر سينشهر، سيكون لهُ انتشاره، وإن لم أِشهد ذلك إلا بعد مرور قُرابة 15 عامًا". وللدكتور عبد الله بن حسين البار قولٌ أجاد في إنصاف علي أحمد باكثير، يقول: "باكثير كتب مسرحياتٍ هي من الإتقان والإحكام الفني المسرحي، والتكنيك الذكي في المسرح ما لا يقفُ عليهِ إلا مخرجٌ مسرحيّ يُقدّر هذه الأعمال؛ ولذلك كان كبار المخرجين المسرحيين يحرصون على إخراج مسرحيات علي أحمد باكثير، بل كانوا يُقدّمون مسرحياته، رغم عددٍ كبيرٍ من المسرحيات أمامهم، إلا أنهم يُؤثِرون أن يقدموا مسرح علي أحمد باكثير.".

ويقول الأستاذ سعيد جودة السحار في كلمةٍ ختامية لرواية (سَلّامة القَس) -وهو الناشر: "تعتقد (مكتبة مصر) أن الأستاذ الراحل علي أحمد باكثير برغم ما بلغه من مكانة مرموقة بين أدباء العربية، لم ينل بعد كل ما يستحقه من التقدير الذي يؤهله لأن يكون في القمة بين جميع الكتاب المعاصرين. ذلك لأنه -وصديقه الراحل عبد الحميد جودة السحار- كانا هدفًا لحملات ظالمة أحيانًا، ولإهمال متعمد أحيانًا أخرى، من بعض من كانوا يتحكمون في النقد في الصحف والمجلات في تلك الأيام، أيام غياب الحرية، وتحكم الماركسيين في أقدار الكتاب؛ فقد وجهت إلى كل منهما تهمة أنه "يؤمن بالغيبيات" وأنه "غير تقدمي"، كأنما الإيمان بالله والتمسك بالقيم الروحية يحطان من قدر الكاتب ويزدريان بأدبه".


لا نستطيع فصل باكثير عن همه القومي، والذي وُجد متناثرًا في أعماله الأدبية، وفي ذلك يقول هو عن نفسه: "الدافع الأول لي على الكتابة لا يزال حتى الآن هو الدافع الأول، الدافع الأول هو: بلورة القومية العربية، بلورة الإحساس بالوحدة العربية، هذا الإحساس كان يتملّكني عندما كنت أقولُ الشعر، وكان يتملّكني عندما بدأتُ في كتابة المسرحية" فَـ "حتى المسرحية البعيدة الموضوع عن القومية العربية جعلتها إطارًا للدعوة إلى القومية العربية".

كما أنه ليس عدلًا فصلهُ عن هويته الحضرمية التي ناضل لأجلها طويلًا، والتي حملها في كلّ مكان، في مولده بإندونيسيا، وأثناء عودته الأولى إلى حضرموت، ثم ترحاله بين اليمن والحبشة والحجاز، واستقراره الطويل في مصر، إلى حين عودته الأخيرة إلى الديار الحضرمية. كان ارتباطًا متينًا، لم تزده سنوات البعد إلا قوة، وتشهد لهُ أبياته المليئة بالحبِّ والحزنِ والحنين.

ستبقى حضرموت حاضرة في باكثير، ما بقيَ شعرهُ ونثرهُ، وستبقى حقيقة مؤكدة كالتّاريخ، فمن يستطيع أن يُزيل هذه الأبيات من مسيرته؟

أنا لا أخافُ الموت يا قومي     من ســـــــــــــــــفري إلـــــــــــيكم

كم ذقتـــــــــــــهُ لما بعـــــــــــــــــدت    وذبتُ في لــــــــــــهفٍ عليكم

من غـــــــــــــربتي نجـــــــــــــــــــــوتْ      عُدتُ لـــــــــــــــــــــــحــضرموتْ

هـــــــائنذا أمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوتْ     شـــــــــــــــــــــوقًا لحـــــــضرموتْ

وتكتسب هذه الأبيات خصوصيتها من أنه قالها قبل وفاته بفترة قصيرة، حين زار حضرموت بعد غيابٍ طويل في مصر، لكنه لم يهدأ له بال من هذه الزيارة، وازداد قلقًا على قلق، فوفقًا للدكتور أبو بكر حميد استقبل باكثير من قبل عبد الفتاح إسماعيل (وهو من رجال الدولة الذين يقدرون الأدب، ويهتمون به وبروّاده، وقد كتب الشعر) حين عاد بعد الاستقلال إلى عدن 1968م، واحتفت بهِ عدن احتفاء كبيرًا، ومكث بها 4 أيام، لكنهُ لحظ وجود توجه يساري في الدولة، فغادرها فورًا إلى حضرموت، تحديدًا سيئون، ووصلها في 10 أبريل، وحينها أدرك وجود المدّ اليساري في حضرموت أيضًا مُمثلًا في النزاع بين أعضاء الجبهة القوميّة في حضرموت.

أو من يستطيع أن يغض الطرف عن عاطفته وحنينهُ حين قال:

لكن (وادي سر) سُرعان ما نادى    يا ساكني المهجر طُوبى لمن عادا

لا شيء في الدنيا كالصحبِ والآلِ    ما أجمل اللقيا في الوطــــــــــــــــنِ الغالي

أو تغنّيه عن صباه وشوقه للطويلة:

آهٍ لسيئون وأيــــــــــــــــــــامها    هيهاتَ يا صالحٌ أن تُنسى

أذكرها اليوم فأبكي لها    وكانت البـــــــــــــــــهجة والأُنسى


وهل هناك قوّة تقدرُ على تجاوز هذا الحُبّ من أدبِ باكثير؟ 

والآن حــــدّثـنـي عـــــــــــــــــــــــن حضرموت    فإنّ ذكــــــــــــــــراهـــا تثيرُ الـشـــــــــــــــجنْ

لـــم أنجو مما خـــلتُ أنّي نجـــــــــــــــــــــــوتْ   ما زال في قــــلبي حنين الوطـــــــــــــنْ