لوحةُ الرقص

يقول الشاعر:

وراقصٍ مثل غصنِ البانِ قامتـهُ         تكادُ تذهبُ روحي من تنقلهِ

لا يستقرّ لهُ في رقصهِ قــــــــــــــــــــــــــــدم         كأنما نــــــــــار قلبي تحت أرجلهِ

ويقول مصمم الرقصات ديفيد توماس:

"فإنّ الخطوات في قاعة الرقص تكون سهلة مثل استنشاق الهواء النقي".


لا شيء أبسط من هذه الأوصاف للرقص، وفي مقابل هذه البساطة، لا شيء أصدق من هكذا وصف، التنقل، وعدم الاستقرار، واستنشاق الهواء!

بالعودة للرقص في كلّ موطن، ومشاهدة من يقومون به بشكله السليم والمتقن، والخالص بذاتهِ دون حركات دخيلة لا مفهومة، بالعودة لذلك، أشعرُ أنني أشاهد لوحة فنية، لوحة كاملة التفاصيل ومتقنة العناصر، وما يشدني أنها لوحة متحركة، وكلّ حركة فيها مدروسة، وتأتي سلسة تدخل القلب كما لو أنها لا تقصد ذلك أبدًا!

ما يدلّ على ارتباط الرقص بالموروث والبيئة المحيطة بإنسانِ الأرض هو الاختلاف الكبير بين رقصات الأمم والشعوب، في بعض الأحيان يشترك الرقص في سماته، لكن في أحيان كثيرة تكون الاختلافات أكبر من أن نحصيها، هناك شيء ما، بقدر ما تتفق البشرية على خصوصية الرقص التعبيرية، وعلى لغة الرقص، إلا أنها تفضّل أن يكون لها رقص يُمثلها، يُشبه أرضها، وجغرافيتها، وطبيعتها، وظروفها، ومكتسباتها، وتاريخها، كل رقصة أصيلة ما هي إلا تصوير لتاريخٍ متجسد في جسد الراقص، تاريخٌ يتحركُ أمامنا، تاريخُ أمةٍ كاملة يؤديها فردٌ واحد.

لا يمكن تحديد وقت محدد للرقص، لكنهُ رفيق البشرية، فمتى كانت أوقات الفرح والحزن، وفي الطقوس، والعبادة، والاحتفالات كان الرقص حاضرًا، فهو السلوك الطبيعي الذي يفرضه حماس البشر، ومشاعرهم التي لن يعبّر عنها شيء كما يفعلُ الرقص. فيما يلي قراءة لجوانب مختلفة من الرقص، بداياته، وأنواعه، وتعميماته المغلوطة.

المفاهيم الخلفية للرقص

يصعب تحديد وقت بعينهِ بدأ فيه الرقص، أو التوافق على أنّ أمة واحدة بدأت الرقص، لا يمكن ذلك أبدًا؛ إذ يشترك الرقص مع مفاهيم أخرى كالجمال في أنه رغبة بشرية ملحة، تستدعيها الفطرة البشرية دون تكلف ولا تقليد ولا تلقين، لذلك حتى إن زُعم أنّ إحدى الحضارات هي أول من بدأ الرقص، فما هو إلا زعم واهٍ، لا أصل له ولا دقة في حكمه. يُضاف لهذا الأمر، أنّ الرقص ممارسة حركية، وفي الغالب لا توثيق لها، أي لا ارتباط لها بالتوثيق الحجري، أو برسومات الكهوف وما شابه ذلك. فالرقص ممارسة بشريّة قديمة، لم تؤرخ بداياتها، ولم تُحتكر في أرضٍ واحدة، لأنّ البشريّة بمفهومها الشامل لم تكن حكرًا على حضارة واحدة، معَ ذلك جاء في بحث مطوّل عن الرقص بعنوان: "تاريخ الرقص كشكل فني" أنّ: "في اللوحات الصخرية في كهوف فرنسا وإسبانيا، من أصل 1794 رسمًا -512 تصور أشخاصًا في أوضاع مختلفة ولحظات من الحركة، والتي تتكرر بشكلٍ دوريّ"، وفي فقرةٍ أخرى من البحث: "حتى الآن، لا يوجد إجماع حول أسبقية ولادة الرقص أو الأغنية أو الموسيقى، هناك شيء واحد لا جدال فيه -ظهور الرقص مرتبط بإدراك الإيقاع كمرافقة لسلسلة معينة من حركات الجسم".

معَ أنّ أهداف الرقص، وحركته، ومحرّكه الدفين في دواخل كلّ البشر كانت منذ القدم واحدة، إلا أنّ الاختلافات حاضرة ولا بدّ من ذلك، فوفقًا للبحث سابق الذكر فقد: "كانت الرقصات الأولى في العصور القديمة بعيدة عما يسمى الآن بهذه الكلمة. كان لديهم معنى مختلف تمامًا"، في المقابل كان الرقص كسائر الأشياء؛ قابلًا للتطور، "كان رقص القرون الوسطى لا يزال عملًا مرتجلًا إلى حدٍّ كبير. لم تكن هناك قواعد ثابتة للرقص. كانت الحركات أبسط. في أواخر القرون الوسطى، تم التمييز بين رقصات البلاط والرقص الجماعي القروي. كان الرقص الشعبي لا يزال مرتجلًا، بينما أصبح رقص البلاط أكثر أخلاقًا".

في تتبع سريع للرقص، يظهر لنا قدرة الكلمة على ضمّ النقيضين، أي: الفرح والحزن، الحياة والموت، السعادة والألم، نرقص في الأفراح، ونرقص حين نغضب، وحين نودع، وحين نلتقي، وحين نموت هناك من يرقص كمدًا علينا، فحين تفقد اللغة كل كلماتها أمام هيبة الموت، وتفشل كل تعبيراتها في صياغة الحزن، وتذبل إيماءات وجهنا عن التصريح بحجم المأساة، عند ذلك يحدث الرقص، معَ ذلك، تختلف ثقافة الرقص عند الموت من مكانٍ لآخر. في غانا هناك يقين بوجوب السعادة عند هذا الحدث، وقد شاهد معظمنا مقطع تشييع أحدهم وهو في التابوت والحملة يرقصون أثناء ذلك، لا يمكن فصل الرقص عن الموروث القديم، فرقصة التابوت الشهيرة إنما حدثت بسبب اعتقادات شعبية سابقة وقديمة، يقول الصحافي أيمن الغبيوي نقلًا عن أحد السكان حول رقصة التابوت إنهم: "يعملون على إسعاد الميت وذويه بالرقص أيامًا بالتابوت احتفالاً به، لأنه على مقربة من لقاء الله، وهذا لا يكون إلا بمقابل من المال يدفعه ذوو الميت للفرقة الراقصة المتخصصة في إحياء مآتم العزاء".

وفي مدغشقر، ووفقًا لمجلة ناشيونال جيوغرافيك العربية (عدد أغسطس 2020)، فإن الرقص مع الموتى يعد من طقوس ما يسمى بإعادة الدفن (الفاماديهانا)، "هذا الطقس، الذي يمارسه سكان المرتفعات الوسطى على وجه الخصوص، يتطلّب من المشاركين في الحداد استخراج الجثث، وتنظيفها، وإعادة تكفينها والرقص معها قبل إرجاعها إلى قبورها".

لكنّ الرقص عند الموت في دول أخرى يحدث بقلة، ويحدث لا للاعتقاد الأفريقي، بل لفشل الإنسان في استيعاب الكارثة التي حلّت به، لا تستطيع كل النفوس تلقي خبر الموت بنفس الطريقة، ما نشترك به جميعنا هو الحزنُ الأكيد، لكنّ الطريقة والوقع يختلفان، وهنا يأتي الرقص، كتعبيرٍ دقيق، ينتشل الإنسان من خيبة اللغة والكلمات والمشاعر، يأتي الرقص ليخفف وقع الموت، ليحاول تدارك ما يمكن تداركه،. إنها محاولة بقاء، محاولة وقوف.

لا يمكن تعريف الرقص، وإن حصل فسيكون حينها تعريفًا جامدًا، كالمحاولات المستمرة والبائسة لتدريس أيقونات ونقرات الحاسب على سبيل المثال، فمع كل محاولة للترجمة نثبت عجز اللغة عن المواكبة، إلا أنني أحب توصيفًا ورد في مقالة على مجلة حكمة تحت عنوان: (الرقص بوصفه "تفلسفًا") لـ دومينيك بازنار، ت: عبد الوهاب البراهمي: 

"والرقص هو اللعب بالتوازن الدائم لجعل حركة عادية جمالية. إنّ الرقص هو فنّ التمفصل، ولغة تفكّك الحركة للإمساك على نحو أفضل باللحظات والتمتّع بالمعنى العميق، مثل الإلقاء المسيّر من أجل الإحساس بشعر أو نص جميل. ليس الرقص إذن فنّ المكان فحسب، بل هو أيضا فنّ الزمان، فنّ السرديّ، وفنّ تاريخ. إنّ هذه الأحاسيس هي نفسها لدى راقص مبتدئ كما لدى راقص محترف".

تختلف الحركة والمصطلح ثابت: (رقص)

في سياقات علم الإنسان، لا يمكن فصل موروث الإنسان عن بيئته الجغرافية، قد تحدث بعض الممارسات الدخيلة والغريبة عن المجتمع، لكنها تبقى من حتميات العولمة وحسب، أي لا علاقة لها بالموروث القديم، في الرقص أيضًا، تظهر معالم البيئة والأرض على حركات البشر، وحتى نظرتهم للرقص تعتمد على مرجعيتهم الدينية، وفلسفتهم في الحياة.

في إندونيسيا تتنوع الرقصات، لكنّ إحداها وهي (رقصة الأقنعة) تمثّل نموذجًا صريحًا لمعنى الرقص الأصيل، وفقًا لموقع (إندونيسيا اليوم) تشير هذه الرقصة لفلسفة تطوّر الإنسان، وهي تحمل بين حركاتها ورموزها المستخدمة معاني سامية تصل للإيمان، بل حتى واحدنية الإله. تقوم هذه الرقصة بشكل أساسي على القناع، وتُستخدم عدة أقنعة أثناء الرقص، يتم تغييرها بشكلٍ سريع ومرن، وحتى الألوان الخاصة بالأقنعة تحمل أبعادًا مختلفة للشخصية الإنسانية، وتهدف هذه الرقصة الخاصة بمدينة شيريبون إلى التركيز على عدة مبادئ سامية، منها: مساعدة المحتاجين، والاستمرار في العمل، والوقوف بثبات، ومراعاة قيمة التعاطف وممارستها، بالإضافة لقيمة الاحترام، وغيرها من المبادئ.

وحين نذهب للصوفية نجد الرقص وُظف وفقًا للهدف الصوفي الأسمى، وذلك في كلّ التفاصيل الخاصة برقصة المولوية، بداية من اللبس قماشهُ، وألوانه، وصولًا للكلمات المرافقة والتي تؤدى ضمن فرقة إنشادية، بل وحتّى الآلة المرافقة وهي الدف المفتوح. يقول (إمام مدير) المتخصص بفنون هذه الرقصة أن للمولوية هدف أصيل، وأنّ حركته ورقصته التي قد تبدو غريبة للبعض هي الوسيلة التي تمكنه من بلوغ هدفه، ويفسّر ذلك: 

"يسعى الصوفي في دورانه إلى السمو والارتقاء، فما يرتديه الراقص أو اللفيف (تنورة، عنتري، دفوف)، يرمز إلى الذنوب، لذا يتخلص من زيه أثناء الرقص، تنورةً بعد الأخرى، تعبيرًا عن التطهر والتخفف من الذنوب، حتى يصل إلى (المدد)، أو ما يمكن تسميته ارتفاع الروح إلى السماء".

يُشار للمولوية على أنها إرثٌ روميّ، أي من جلال الدين الرومي، أفغانيّ الأصل وتركيّ المنشأ، والمتدرب على يد العالم شمس الدين التبريزي، وعن هذه الرقصة تقول د. عواطف صلاح عبد العال حسن في بحثها (الدلالات الضوئية وأثرها على اللوحة الفنية لرقصة المولوية): "يُرى أنّ مفهوم المولوي جاء من أن الحركة في الكون تبدأ من نقطة وتنتهي عند ذات النقطة لذلك تكون الحركة دائرية. وعندما يدور راقص اللفيف حول نفسه فكأنه الشمس يلتف حوله الراقصون وكأنهم الكواكب". هذا الارتباط بالفلك والرغبة في الصعود، إنما هو دلالة على أنّ الرقص فعلٌ أسمى من أن يمتهنه الرعاع وأن تُفسده الإغراءات وتمحي جوهره الرغبات الدنيئة. حتى حين يبتعد الرقص عن التوجه الديني أو الصوفي، فهو لا يبتعد كثيرًا عن المفاهيم الأصيلة، لم تُمتهن كرامة الرقص إلا حين سُرق لمنحى جنسيّ شهوانيّ، وحين سلّع جسد المرأة، وابتُذلت من خلالهِ الأجساد.

الأب وابنه يرقصان المولوية في دمشق (اندبندنت عربية)


أما الجاز، فهو تمثيلٌ حيّ للتمازج بين الثقافات، وصبّها متداخلة في قالب الرقص، ففي البدايات كانت موسيقى الجاز حكرًا على الأمريكيين من أصول أفريقية، وما لبث أن وضع قدمه حتى أصبح من الكلاسيكيّات الأمريكية، ليس ذلك فحسب، بل انتشر حول العالم، فشمل التأثير أوروبا، والعالم العربي، واليابان، وذلك بواسطة إدخال الجاز في الفن الموسيقي لكلّ ثقافة، وربما لأجل ذلك قال زياد الرحباني بعبور الجاز في كل الحضارات. أما رقصات الجاز فهي المُراد بحديثنا، فكما مثّلت موسيقى الجاز تداخل الثقافات والحضارات، شكّل رقص الجاز الشيء ذاته في لوحة حركية ذابت فيها أنواع مختلفة من الرقص، بما في ذلك الباليه، وذلك بواسطة (باتسي سويزي)، وقد أنشأت شركة هيوستن جاز باليه.

بالرجوع لخصوصية المكان الذي نشأت فيه موسيقى الجاز، يمكننا استيعاب الظروف التي ساعدت على هذا التمازج والذوبان الذي يصعب معه فصل كل حركة ونسبها لموطن واحد، نشأ الجاز في نيو أورلينز، وهي مدينة أمريكية ساحلية، ولطالما كانت قابلية مدن الساحل هي الأعلى في ضمّ مختلف الثقافات وتقبلها، وبل وقدرتها على جعلها جزءًا من هُوية الوطن، يصف (عبد الكبير الميناوي) في صحيفة الشرق الأوسط بدايات الجاز، فيقول:

 "وهكذا بدأت الموسيقى الأوروبية، رويدًا رويدًا، تختلط بالإيقاعات والألحان التي احتفظ بها الزنوج وتوارثوها، جيلًا بعد جيل، لأنهم كانوا يرددونها أثناء العمل في حقول القطن وأثناء سمرهم في ميدان الكونغو. كما أخذ الزنوج يستعيدون هذه الإيقاعات من خلال صنع الطبول الضخمة التي تسمى (تام تام) أو (بامبولاس). وامتزجت تلك الألحان الأفريقية، أيضًا، بالألحان التي تعلموها في الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية، مع صرخات عذاب العبودية وتعبيرات روحهم المكتئبة المتأثرة بالموسيقى الوثنية والموسيقى الأوروبية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت".

 في وسط هذا كله، نشأ الجاز يحمل أبعادًا كثيرة، سياسية وجغرافية وحقوقية، فمزج بين جذور أفريقية، وواقع أمريكي، وامتداد أوروبي (إسباني/فرنسي/إنجليزي)، وظهر في أرض غريبة، ضمن ظروف استعباد ظالمة، فتأثر بذلك، وكانت بداياته مع إلغاء نظام العبودية، هذا كله وأكثر، ساهم في خلق خصوصية الجاز، سواء في الموسيقى أو الرقص.


ثقافة الرقص في جنوب الجزيرة العربيّة

تتميز مناطق جنوب شبه الجزيرة العربية، ببعض الجوانب المشتركة، ويحبّ البعض أن يصهرها في قالب ثقافي واحد، مع أنّها تصل في بعض الجوانب لفروقات تحتّم الإقرار والتصديق بالاختلاف، إلا أن الرقص هُنا من بين المشتركات المهمة والمثيرة، فالتشابهات كثيرة، كالمهرة وظفار مثلًا، ويستطيع أبناء هذه المناطق حضور مناسبات بعضهم البعض دون أن يشعروا بوجود فجوة إيقاعيّة في حركاتهم، وفي بعض الأحيان حتى دون وجود اختلاف يُذكر في بعض هذه الحركات.

في حضرموت يُطلقون على المكان الذي يضمّ عدّة الصوت والغناء، والمؤدين: "مَـدَارَة"، في هذه المدارة يخرج اثنان لتأدية الرقص، والرقص عند الرجال يُسمى: "شَرْح"، وعند النساء: "زَفِين"، وأهمّ عناصر المدارة صوت المزمار، يقوم المؤدون "المشترحين" بتحويل الصوت والدّان الحضرمي إلى شيء ملموس، وذلك في حركات دقيقة، ورشيقة، وسريعة، وفي أثناء ذلك يكونون في نشوة الطرب، من لا يتقن ذلك لا يدخل، وإن دخل لا يبقى كثيرًا، فاللوحة بحاجة لمتقنٍ ومحترف.

وكما في الانسياب المثير في رقصة التانجو، وتداخل المؤدين في جسدٍ واحد، يحدث كذلك في رقصة الشرح، وهو من الأمور التي طالما استوقفتني، إذ كيف لاثنينِ -وفي بعض الأحيان لا يعرفان بعضهما البعض- أن تنساب حركاتهما بهذا الشكل المبهر والسلس، كيف لهما أن يذوبا في شيء واحدٍ متحرّك بمرونةٍ أعجز عن وصفها؟ تذكر جولي سيدفي في مقالتها (هل يمكن اعتبار جسد شخص آخر امتدادًا لجسدك؟) على مجلة ساينتفك أمريكان، أنّ: "الجزء الأكبر من جاذبية التانجو ينبع من هذا الانصهار النفسي الواضح الذي يحيل شخصين إلى وحدة واحدة"، وتضيف: "وقد جادل العديد من الناس بأن التانجو ليس مجرد صورة من صور الرقص، بل هو أيضًا تجسيد وترجمة لعلاقة بين شخصين؛ وقد استغرق الأمر وقتًا ليواكب العلم الفنّ، ولكن ثمة إطار عمل علمي الآن يمكن أن يزدهر بداخله هذا المفهوم الرومانسي ويصبح مفهومًا بشكل أكثر تعمقًا".

لوحة لرقصة التانجو تمثّل الوحدة بين الجسدين


في المجمل، يشترك سكان جنوب الجزيرة العربية في ثقافة الرقص بواسطة أرجلهم، في حين يسمي الحضارم الرقص بالشرح فهو في جنوب السعودية يسمى: "لعب"، يطربُ الحضارم على المزمار ويحبون سماعه مباشرة، صوتهُ في المدارة حاضر وبقوّة، في بعض التجليات يكون التشابه كُلّيًا وقريبًا من أن يكون مثاليًا، لكن أحدهم أدرك تفصيلة صغيرة يؤديها الحضارم، مسكة اليد، إما بواسطة الكف، أو الساعد، أو العضد، في الغالب تتم حين تكون الذروة، يضعُ يدهُ، ورفيقُ الرقصة يلتقطها بانسجام لا يُحدث أي توقف، تأتي للحفاظ على الوزنية، فهم في حالة تسارع مهيب، بحاجة لنقطة توقف ممثلة بالاستناد اليدوي.

يمكن للرقص أن يستحضر الوطن، في الحالة الحضرمية، كل مدارة للرقص هي وطن مُصغّر، بل حتى التي تقام داخل حضرموت، هي شكل من أشكال الوطن المرغوب، الوطن الذي يحلم به الراقص، فجزء من المدارة يضم المحاورات الشعرية، وهي كلها ذات بعد سياسي/وطني/استقلالي، وهي حالة تصف القدرة التي يمتلكها (الرقص) بوصفه مفهومًا أشمل من مجرد حركة متناغمة، وأسمى من أنْ يُسلّع الأجساد، ويمتهن النساء، ليس كذلك وحسب، بل يدخل الرقص ضمن طقوسٍ مثيرة ولها أبعادها الدينية، وهنا أستحضر الرقص الخاص بعد قنيص الوعل الذي يحمل مكانة عالية في حضرموت، ولها ارتباط بديانة حضرموت القديمة (الثالوث السماوي)، يستطيع المشاهد -حتى الذي لا ينتمي لأرض حضرموت- أن يلحظ الأبعاد الورائية لحركة الراقصين وهم يحملون رأس الوعل، الخطوات البطيئة، والأصوات، والبخور -وللبخور خصوصيته في أرض حضرموت- كل شيء في تلك المدارة يوحي لعظمة لا يحملها مصطلح الرقص إذا ما وُضع في قالبه السطحيّ والمهين، لم يرقص الإنسان للشهوة، ومتى فعل ذلك ينحطّ هذا الفعل للتسليع والتشييء ويغدو حينها فعلًا مباشرًا ومزعجًا. 

ترتدي النسوة في حضرموت هذه الزينة الفضية في القدم، وتسمى (حجل)، والهدف منها إحداث الصوت أثناء الزفين


لماذا لا نقبل مصطلح "رقص شرقي"؟

كسائر المفاهيم المتشابكة، وُظّف الرقص في العالم العربي بصورة مهينة، مهينة مرتين، الأولى له بذاته، الثانية للمرأة. فقد أُلبس الرقص رداء الدونية واللاتحضريّة، أما التوظيف السيء الآخر فهو تسليع المرأة وجعلها أداة إشباع وإغراء للرجل، أداة خدمة، ومتعة، وما يثير الاستغراب أنّ النسوة ذاتهنّ طبّعن هذا التصور، ففي المناسبات العربية صار شبه متعارف عليه أن الفتاة ترقص لتجذب عين أم الرجل، فمن لديها رغبة رقص أصيلة تكبحها حتى لا يُظنّ أنها تعرض جسدها. في وسط هذا التطبيع المجتمعي، صار تداول هذا الأمر على أنه نكتة شهير بكثرة، فيقال: "قومي ارقصي ولدها دكتور"! ويضحك المستمعون لهذا القول الذي يحمل بينه البين كوارث جمة.

ينقل أحمد عبد اللطيف عن مقالة لإدوارد سعيد تحدث فيها عن الرقص الشرقي والرقص الغربي، وقد اختصر الرقص الشرقي كله بـ "الرقص الشرقي"، أي أنه اختصر رقص نساء العرب جميعهنّ بالرقص المصري، مقابل الباليه كممثلٍ للرقص الغربي، سياقات التعميم هذه مغلوطة ومرفوضة، إذ بجولة قصيرة وأمينة على ثقافة الرقص عند نساء الوطن العربي يتضح أنّ لكل جهة أو موطن ثقافتها المختلفة عن تعميمات الرقص الشرقي.

أحمد عبد اللطيف نفسه في ورقته المعنونة بـ (الجسد في الرقص الشرقي: من الإيروتيكا إلى البورن) حلل وضع الرقص الشرقي استنادًا إلى راقصات مصر في القديم القريب، والآن، فيقول: 

"لقد انتقل فن الرقص من فن جمالي يمجّد الجمال الأنثوي إلى حركات تسعى لتسليع الجسد في ظل سياق سوسيوثقافي بائس، وربما من خلال دراسة الفنون وتراجعها يمكن فهم تاريخ مصر الحديث، إذ كان الفن المصري، خاصة الجماهيري منه، انعكاسًا للسياق العام".

أعتقد أنّ "الرقص الشرقي" مهما اختلفت صوره، ومهما تنوّعت الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمن يقمن به يبقى أحد عناصر تسليع جسد المرأة، فلا رقص شرقي يمجّد الجمال الأنثوي، بل هو دائمًا يحقق رغبة الرجل في النظر الفاحش. وفي موضع آخر يصف مآل هذا الرقص بقوله: "رداءة الفن/فن رديء".

عوضًا عن هذا التعميم على كل أبناء العالم العربي (النساء تحديدًا)، ففي مصطلح "رقص شرقي" تعميمٌ استشراقيّ مرفوض أصلًا، بالإضافة لكلّ ذلك، يرسّخ المصطلح الصورة الموجودة في الوعي المشترك للمرأة: سلعة، أداة، شهوة، رغبة، متعة، فهو مهين من كلّ الجوانب، ولا أجد أنّ انحطاطه الحالي ينفي انحطاطه في العصور التي يدّعي مؤيدوه أنها كانت راقية، وتمثّل رقصًا راقيًّا، فلا رقي في تسليع المرأة، وحصرها في فن يلبي شهوة العربيّ ورغبة الغربيّ. ومن التعدي أنّ يُقال: "الرقص الشرقي" ليشمل بذلك أبناء العرب، فهو لم يكن حاضرًا في مكانٍ غير مكانه، وحين تتفاعل أي فتاة بجسدها مع لحنٍ يُخضع جسدها لصوته، هي تفعل ذلك بفطرتها، والملاحظ حينها أنها حركات منسابة، وبسيطة، لا تكلّف فيها ولا إغراء.

وفي مقالة لأسامة فاروق بعنوان: (الإمبريالية والهشك بشك.. كيف اخترع الغرب الرقص الشرقي!) يتناول هذا الرقص الذي يقول أنّ الغرب نسبه للشرق -وهي أول سلّمة لرفضه- فيقول مرة: "رقصٌ مصريّ" ومرة يعود للتعميم المكرر: "رقصٌ شرقي"، ألا ينطبق مسوّغ الرفض هذا على التعميم في مصطلح "الرقص الشرقي" أيضًا؟ ندرك أن الرقص المصري تداخلت فيه هُويات وانتماءات مختلفة،  لكن هذا لا ينفي أن مصر هي من ضمت هذا الرقص وتبنته بتفاخر، بل قد ربطه المؤرخون بحضارة الفراعنة، مستندين إلى كون منطقة البطن محلّ الإخصاب، فهل كانت حضارة الفراعنة تشمل الشرق الأوسط بالمساحة التي يعنيها مصطلح الشرق الأوسط الآن؟

من الملفت أن تخرج أصوات مصرية تشير للرقص الشرقي على أنه مصري فقط، ففي هذا أمانة، يشير فاروق لما ورد في كتاب شذى يحيى (الإمبريالية والهشك بشك..) من تحاملها على رأي سلامة موسى حول مقارنته بين ما وصفته بالرقص المصري والرقص الأوروبي: "الملفت مثلًا، ما كتبه سلامة موسى في الخمسينيات، إذ رأى في الرقص المصري "شناعة من الشناعات"، وفي مقارنته بين الرقص المصري والأوروبي يقول: "وصفتُ الرقص المصري بالانحطاط لأن الراقصة تنظر لأسفل، أي أن إحساسها جنسيّ، لكن المرأة الأوروبية التي استقلّت وعملت وكسبت واشتركت في المجتمع، نجد أن لها كبرياء يمنعها من هذا التمثيل الجنسي السافل، وفرق عظيم بينها وبين الراقصة المصرية، فإنها تنجذب للسماء وتنظر لأعلى في حين تنجذب الراقصة المصرية نحو الأرض وتنظر لأسفل كتفيها وبطنها". في الحقيقة لقد تحامل سلامة موسى بحقّ على الرقص المصري، نستطيع إرجاع ذلك لمرحلة الانبهار بالغرب التي كان يعيشها المجتمع آنذاك، فكلّ غربيّ ما هو إلا ملمحٌ من ملامح العلوّ والسموّ، في حين أنّ نظرته كانت شبه عمياء عن بعض الرقصات الغربية التي تحمل أيضًا بعدًا جنسيًّا لا يمكن إغفاله أو التجاوز عنه، أو حتى تبريره بمبررات الحضارة، لكن ما يُهمنا هنا قولهُ "رقص مصري" وليس شرقيّ.

بالعودة لحركات ما يسمى بالرقص الشرقي، وتركيزه على تحريك أماكن جسدية محددة، وارتداء لباس محدد، وتحزيم الأرداف، بل تتجاوز بعضهنّ الحدود لملامح الوجهة، بالعودة لذلك، لا يمكن تصوير هذا النوع من الرقص حتى ضمن الفن الأيروتيكي، يقول أنتوني آشلي كوبر (شافتسبري) أنّ: "الاستجابة التي يستثيرها الجمال هي نتيجة تأمل عقلاني ورفيع، وتبعد تمامًا عن المتع الفظة التي نتلقاها عبر حواسنا" ما ينفي حتّى احتمالية أن نضع "الرقص الشرقي" في قائمة الفنون الجميلة، فما هو إلا "متع فظة"، تذكر مجلة الحكمة في مادة (الفن الأيروتيكي) لـهانز مايس، ت: رفيدة جمال –تذكر- مصطلح شوبنهاور das Reizende والذي قررت ترجمته بمصطلح (مثير)، فتقول: "يقول شوبنهاور أن هذا المثير ينبغي اجتنابه بكل السبل في الفن؛ إذ إنه يبعد المشاهد عن التجرد البحت الذي يتطلبه فهم الجميل، حيث يثير إرادته عن طريق عناصر تعجبه بشكل مباشر. ومن ثم لا يظل المشاهد موضوع بحت للمعرفة، بل يصير موضوعًا خاضعًا للرغبة وفي حاجة إليها. وهذا مناقض لهدف الفن؛ الذي ينشد تسهيل التأمل اللاإرادي للأفكار. ويرى شوبنهاور أن المثير: "في الرسم التاريخي وفي فن النحت يتكون من أشكال عارية، أو شبه عارية، ومعالجة كاملة تستثير شعورًا شهوانيًّا في المشاهد".

لا نستطيع موافقة نيتشه في الإلحاح الجنسي عند مشاهدة الفن الجميل، فهو يقول أن الحاجة للفن الجمالي تحيل ولو بطرق لا مباشرة إلى "مباهج الجنس"، لكن بالرجوع لمفهوم الجنس المعقد، فليس الفن وحده هو من يثيره، فبالعودة لدراسة بيرنهاردت ج. هروود بعنوان (تاريخ التعذيب) ت: ممدوح عدوان، نجد أن المثيرات الجنسية قد تكون في أحطّ وأرذل المنزلات، فبعد المحاولة الفاشلة التي قام بها روبرت فرانسوا داميين لاغتيال الملك لويس الخامس عشر تعرض لموجات متتالية من التعذيب، وكانت كلها في حضور جماهيري كبير، يقول: "ومرة أخرى مُزِّق لحم الضحية بالكماشات وخضع للتعذيب ذاته الذي واجهه فيما سبق؛ هذه المرة لإمتاع المشاهدين. وكان يصرخ ويزعق طالبًا للرحمة. وأُثير الجمهور بالعرض الوحشي الذي يجري أمامهم إلى درجة أنه في الوقت الذي كان فيه بعضهم يتساءلون إلى متى سيصمد هذا التعيس البائس كان آخرون قد انتشوا إلى درجة أنهم بدؤوا فعلًا يتضاجعون على الأرصفة". ما نعنيه بهذا الاستدلال هو أنّ النهاية التي تؤول للجنس لا تعني أنّ المنطلقات تكون بالضرورة فنّيّة وجماليّة.

في الواقع.. يُدرك المجتمع الخلفيات الحقيقية للرقص "الشرقي"، ويلمحون لوجود إغراءات في هذا الفعل، فيعودون لذكر أسماء يدّعون أنها مثّلت رقصًا لا إغرائيًا، ينتفي ذلك مع المظهر الذي تعتمد عليه الراقصة سواء أكانت راقية أو مبتذلة كما يقولون، وربما قولهم هذا لا يبتعد عن كونه مجرد حنين للماضي، حنين لكلّ قديم، وهي محاولة يائسة للخروج من واقعٍ مرير وقاسٍ يصعب تحمله، ويصعب تصديقه، فيظن الشخص أنّ هذا الجنون ما هو إلا عرضٌ حديث، لم يعشه الأجداد قبلنا، ويغفل –أثناء هذه المداواة الذاتية- عن أنّ هذا الفعل أصلٌ واحد لا يقبل التجزيء.

يمثل الرقص حالة مشتركة بين اللاوعي والوعي، بين الصعود للسماء والتمسك بالأرض، إنه تسامٍ بشريّ، في أبهى وأحلى صوره، عند كُتّاب كثر، حين يصلون لنهاية شيء ما، وحين تنتهي بهم الطرق لجدار صامت، يجدون في الرقص حلهم الأمثل، والمآل المفترض للوصول النهائي، الوصول الكلي. يرقص الإنسان في غربته، يظن حين يفعل ذلك أنّ قدماه عادت لأرض الوطن، وأنّ المتفرجين هم أبناء جنسه، الذين يفهمونه، يفهمون كل حركة يقوم بها، يفهمون الموسيقى التي يرقصها، إنه فهمُ الشعور، يشعرون بهِ، يُحوّط حينها بكل هذه المشاعر التي يتوهمها، يرقص أكثر، وأكثر، يتسامى عن الأرض حتى لكأنه يطير عنها، لمساته الخفيفة السريعة لها تحيله لِكائنٍ يطير، لفراشة، لا تستقرّ، كما هو أيضًا.. لا يستقرّ أبدًا، وكما يقول فنان حضرموت أبوبكر سالم بلفقيه: "أنا بكلّ المدن مريت"، بالتوازي مع كل مرور وعبور وعدم استقرار؛ أنا بكلّ المدن رقصت!

لقد كتبتُ هذه المقالة بعد جولات كثيرة في الدان الحضرمي وهو الذي يدور دائمًا حول الهجرة والغربة.. فن البلاد كله قائم على المهجر، هل يعقل الكمّ المهول الذي وُثقت به كل مدن وقرى وشوارع وطبيعة حضرموت في أشعار الشعراء وألحان المغنين. بعد ذلك، هل يمكننا أن نفصل مدارات الرقص عن الوطن، هل يمكن للشرح أن لا يحمل بُعد الحنين، ورغبة الوصول، ووفاء المحبة، لم يشترح أحدهم دون أن تحضر حضرموت أمامه، لم تزفن إحداهنّ دون أن تستدعي قدماها ارتباطات قديمة وشاعرية، لم يكن الرقص في حضرموت في أي يوم من الأيام مفصولًا عن الأرض حتى حين رُقص في مشارق هذه الأرض ومغاربها، في الحقيقة، لقد ألهمتني مدارة أحدهم للكتابة عن الرقص بمنظور أعمّ، كانت مدارة ساحرة في كل تفصيلة وكل نقلة وكل حركة، كان التناسق بين المشترحين لا يشبه إلا لوحة، لوحة فنية، أسميتُها لوحة الرقص.