فلسفة اللغة

ما هي اللغة؟

طالما عاش الإنسان مغتربًا إلى أن وجد اللغة فكانت له موطنًا روحيًا تؤمن له كل الحاجات الفطرية التعبيرية الروحية والنفسية والوجدانية، ترى ما هي إذًا؟

عرفها كثيرٌ من العلماء أنها أصوات ليست كأصوات الطبيعة أو الحيوانات تتضام مع بعضها لتكون كلمة ثم مجموعة الكلمات تكون جملة إلى أن يعبر الشخص عن حاجته. نظريات كثيرة حاولت تفسيرها وماهيتها ومتى وجدت، ربما قليلٌ من حاول تفسير الغاية من وجودها وقيل الإنسان هو من وضعها وقيل هي من الله وغير ذلك، ولكن في رأيي مهما نشأت نظريات ما زلنا كل مرة نكتشف شيئًا جديدًا في الذات اللغوية كما نكتشف شيئًا جديدًا في الذات الإنسانية، فوجودها سر كما وجود الإنسان ما زلنا نبحث في فضول غامر عن هذا السر الوجودي الكبير.

لغة الإنسان البدائي

يقال إن الإنسان البدائي لم يمتلك لغة وقد ظهرت مع الوقت والتطور، وكأن الإنسان كان مجرد بهيمة تصدر أصواتًا لحاجاته ثم يكبر ويجد لغة له بغير كيفية والحقيقة بعيدة عن نظرية التطور التي تحتمل الخطأ أكثر من الصواب، فالله كرم الإنسان بالعقل وإن كان الإنسان البدائي موجودًا في إحدى الغابات فهذا لا يمنع امتلاكه لغة، لأنه مثلاً يرى الأشياء المادية كشجرة فيرسمها، ما الذي ألهمه بذلك سوى أفكاره التي كانت بحاجة إلى معرفة الأشياء من حوله؟ تمامًا كالأطفال يصدرون الإيماءات والأصوات ويشيرون بيدهم إلى كل شيء حولهم ويبدأون بالتعرف إلى العالم شيئًا فشيئًا، إذًا فالرسم لغة، والإيماء لغة، وصرخة وحدة الإنسان البدائي لغة، ونظراته وفضوله المشتعل ونشوته بوجود الأنثى كل هذه لغة. ولغة الكلام احتوت كل هذه المعاني الإنسانية الوجدانية التي أظهرها لحاجة روحه إلى التعبير عن حاجته للمعرفة والتواصل وسائر الحاجات الإنسانية.

سر الكلمة

وجدت اللغة بوجود الإنسان، التفكير تكون في الإنسان والتفكير لا يستطيع الركود بعقل الإنسان فكان ولا بد أن يخرج بمعاونة اللغة، لا وجود للإنسان دون وجود لغة ولا يمكن العكس كذلك. وإلا ما سر احتواء اللغات على هذا الكم الهائل من المعاني الإنسانية؟ وما سر الكلمة وما تخفيه وراءها؟ كلمة واحدة لا علاقة لها بالخطر قد تشكل خطرًا وتهديدًا على حياة شخص ما، وكلمة واحدة تمزق الميثاق الغليظ بين الزوجين، كلمة تشعل الضمير في الإنسان فيحترق بنيران الذنب ثم يتوب ويدرك معنى المغفرة والخير فيفعله، كلمة تطير بالروح إلى السماء وكلمة تنفيها عن أوطانها كأنما الكلمات مفاتيح سحرية للمعاني العميقة! وكأنها قطرة من إكسير سحري توضع في بحر الروح فتقلبه وتغيره تمامًا! ولا يمكن احتواء اللغة كل المعاني في الكون وهذا لا يعد نقصًا فيها لأن الله جعل كمال الأشياء في الدنيا بنقصها، لا بد من وجود معانٍ لا تصلها، لأن التوازن الكوني موجود في كل شيء كما فسره لنا توفيق الحكيم في التعادلية، حتى في اللغة والمعنى هناك شيء مخبأ في الغيب.

بنيت الحضارات على الكلمة

على مر الأزمان استطاع الإنسان بقوة عقله وفكره واللغة بناء الحضارات، وكما قال فرويد "بدأت الحضارة عندما قام رجل غاضب بإلقاء كلمة بدلًا من حجر" وهنا مقصده أن الحضارة قامت على أساس مهم وهو العلاقات الإنسانية، وما كانت لتتكون لولا وجود اللغة، فمكنون العلاقات الإنسانية أدى إلى إقامة مجتمعات عبر كل واحد فيها عن أفكاره وشيئًا فشيئًا تعبير الإنسان عن حاجاته تطور به إلى الصناعة وكلما عبر الإنسان عن فكره تطورت الحياة وتجددت ووصلت إلى ما وصلنا إليه. وأشير أيضًا إلى الحضارات التي بنيت على اللغة كحضارة الإغريق الذين اهتموا باللغة ودراستها منذ القدم وقدموا فلسفاتهم وأفكارهم وابتكروا علومًا فلسفية ارتقت بهم والشعر والمسرح، والعرب من بعدهم فالشعر منذ الجاهلية كان الحضارة والرمز الذي يرتقي بهم، لامتياز العربية بسمات بلاغية وتعدد أساليب ووفرة المصطلحات ما جعلها لغة قوية في التعبير والقرآن العظيم خير مثال على قوتها، المعجزة التي أعجزت أبلغ الشعراء والخطباء على قوة بلاغتهم، وأيضًا الشعر الذي عبر عن كل حاجات الإنسان العربي وطموحاته وأحلامه وعلومه وفكره وكل ما يمكن التعبير عنه، هذا الشعر الظاهرة الإنسانية السامية التي أدت رسالة الخير للبشرية، هكذا وباللغة أنشأت لنا حضارة ظلت آثارها قائمة إلى يومنا هذا.