لماذا نحب قراءة الرسائل؟

رسالة قصيرة 

إلى قارئ هذه السطور،

لعلّك تقرأ هذه السطور الآن لأنك، مثلي، بالكاد تقاوم قراءة أي رسالة تقع بين يديك. ولعلّك سألت نفسك مرارًا لماذا تحب قراءة الرسائل وربما كتابتها أيضًا؟ وتساءلت عن سر الحماس الذي ينتابك عندما تقع بين يديك رسالة من كاتب إلى حبيبة أو إلى صديق أو حتى إلى مستقبِل مجهول. لعلّك تريد لهذه الرسالة أن تطول وأن تطول من خلالها جولتك في عقل كاتب الرسالة ورحلتك مع أفكاره، حتى وإن لم تجد عنده جوابًا لتساؤلاتك. إن كان الأمر كذلك، فامضِ معي لنتأمّل فن الرسائل في هذا المقال.

جلسة خاصة

قلّبت في عقلي بعضًا من الرسائل التي قرأتها في حياتي، ووجدت أن أول ما تبادر إلى ذهني هو ذلك الشعور بالحميمية. فعندما تقرأ رسالة ما فأنت تستمع إلى حديث خاص في جلسة سرّية، بين اثنين تجمعهما علاقة تجهل في الغالب تفاصيلها، فتبدأ البحث عن هذه التفاصيل في الكلمات ونبرة الحديث. وإذا كانت اللغة وعاء المشاعر والأفكار، فإن لغة الرسالة وعاء شفاف؛ تكاد تهمله، مهما كان جميلًا، ويخترقه بصرك إلى الجوف بحثًا عن المغزى والسبب والمقصِد.

وربما يُدرك الكاتب هذه الحقيقة فتراه يتمتّع بحرّية التركيز على الهدف أكثر من الأداة. وربما لهذا السبب نجد في الرسالة ما هو أكثر من كشف تفاصيل العلاقة بين الكاتب والمرسَل إليه، فهي تكشف جوانب من شخصية الكاتب لم نكن لنعرفها من خلال أعماله، ولا حتى سيرته الذاتية أو مذكراته، وتخبرنا الكثير عن حالته النفسية أثناء كتابة عمل من أعماله فتتغيّر نظرتنا لذلك العمل. الرسالة هي ما يبوح به الكاتب إذا مُنح فرصة الكلام لجمهور ينتقيه بنفسه، يُسِرُّ فيها لشخص بما يريد أن يعرفه هذا الشخص عنه، وغالبًا ما يكون هو الحقيقة الكاملة وبكل صدق وعفوية، وفي بعض الأحيان تكون هي الحقيقة مجمّلة خصيصًا لهذا الشخص دون غيره، ما يضفي مزيدًا من السحر والغموض عليها.

الرسائل كشكل من أشكال الكتابة

ربّما ينطبق كلامي السابق أكثر على المراسلات الفعليّة بين كتّاب وأشخاص حقيقيين يرتبطون معهم بعلاقات صداقة أو حب أو قرابة. لكنّي أراه ينطبق أيضًا على الرسالة كأحد أشكال الكتابة الأدبيّة. فعندما يختار الكاتب سرد الأحداث من خلال رسائل تكتبها الشخصيات فإنّه يضيف إلى الرواية الحميميّةَ والصدق والعفويّة أو حتّى التجمّل المقصود المذكور آنفًا، وكذلك يصوّر من خلال الرسائل بشكل غير مباشر حاجزًا بين الأشخاص لا يُرى في الأحاديث والحوارات المعتادة، هو حاجز الفهم وسوء الفهم. فكاتب الرسالة أيًّا كان يُدير طرفيّ الحوار بنفسه، فتراه يقول الجملة ويتخيّل الرد ويرُدّ عليه. وقد يصيب في توقّعه فيشهد القارئ جانبًا جميلًا من جوانب علاقاتنا الإنسانية وهو القدرة على فهم الآخر، وقد يخطئ فيه فيجد القارئ نفسه وجهًا لوجه مع واحد من ألدّ أعداء العلاقات الإنسانية وهو سوء الفهم. في الرسائل تتجلّى العلاقات الإنسانية بكامل تعقيداتها، ومقيِّداتها ومحدداتها.

رسائل مشهورة

ليست الرسائل نادرة في تاريخ الأدب العربي والعالمي، إلا أن بعض الرسائل حازت شهرة أكثر من غيرها. ففي العالم العربي اشتهرت رسائل غسان كنفاني وغادة السمان التي أحدثت ضجة عندما نشرتها غادة بعد وفاة غسان، وأثارت جدلًا أخلاقيًا حول أحقيّة غادة بنشر مراسلات خاصة دارت بينها وبين الكاتب الراحل. تكرر الأمر بعد عقود وعادت غادة لإحداث الضجة وإثارة الجدل عندما نشرت رسائل الشاعر اللبناني أنسي الحاج لها بعد وفاته.

ومن الرسائل الشهيرة الأخرى رسائل الكاتبة الفلسطينية مي زيادة والكاتب اللبناني الأصل جبران خليل جبران، والتي استمرت لمدة عشرين عامًا فكانت بمثابة عالم يلتقي فيه العاشقان دون أن يلتقيا على أرض الواقع ولا لمرة واحدة.

وفي العالم الغربي اشتهرت عدة رسائل لأدباء وفنانين وفلاسفة وسياسيين، منها رسالة العالم الشهير آينشتاين لابنته والتي يحدثها فيها عن الحب، لا الفيزياء. ورسائل نيتشه لأصدقائه ومنهم لو سالومي، المرأة التي أسرت بحبها فيلسوف القوة. ورسائل الفنانة المكسيكية فريدا كالو لحبيبها الفنان دييغو وكذلك لعائلتها وأصدقائها وحتى طبيبها، والتي تمكّن القارئ من فهم ما مرت به هذه الفنانة من معاناة وألم وبذلك تقرّبه من أعمالها الفنيّة.

وكذلك سلسلة رسائل الكاتب الروسي الشهير دوستويفسكي التي بدأها حين كان في الثانية عشرة من عمره عندما كتب رسالة لوالدته، وأملى آخرها على زوجته حين كان على فراش الموت، مما يجعلها أقرب ما يكون لعملية تأريخ لظروف حياة الكاتب العبقري وأحواله النفسية المرافقة لها. هي بمثابة رواية كتبها دوستويفسكي وكان هو البطل فيها.

رسائل في الأدب

أما عن الأعمال الأدبية التي اختار كتّابها سرد الأحداث من خلال الرسائل، أو التي شكّلت المراسلات جزءًا مهمًّا منها فهناك الكثير من الأمثلة، مثل رواية بريد الليل للكاتبة هدى بركات الحائزة على الجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2019، وكتاب صاحب الظل الطويل للكاتبة جين ويبستر والذي عرفناه في العالم العربي من خلال مسلسل الأطفال الذي حمل نفس الاسم، وكتاب P.S: I love you للكاتبة سيسيليا آهيرن.

رسائل صوتية

يحتوي تطبيق Storytel على العديد من الكتب التي اتّخذت طابع الرسائل وكذلك على مراسلات لكتّاب مشهورين، مثل كتاب بريد الليل، ورسائل دوستويفسكي، ورسائل فريدا كالو، ومختارات من رسائل جبران خليل جبران. وحتى "صاحب الظل الطويل" التي ترويها الفنانة إيمان هايل لتطبيق Storytel حصريًا، وهي الفنانة التي أدت دور البطلة جودي في مسلسل الأطفال الذي عرض في تسعينيات القرن الماضي وعرفنا من خلاله تلك الرواية الشهيرة.