عن المكان والزمان

نحن فيها وهي فينا

تحتوينا الأماكن حينًا من الزمن، ونحتويها نحن إذا غادرناها ونحملها معنا حنينًا وذكريات. ليست كلها عزيزة، بعضها كرهناه وتركناه لكنه لم يتركنا، وبعضها لم نلتفت له ولم نلاحظه إلا حين صار ذكرى. بعضها تفصلنا عنه الحدود والمسافات، وبعضها لا يمنعنا عنه سوى خوفنا من أن نلتقيه فلا نعرفه أو لا يعرفنا. أترانا نحنّ للمكان أم الزمان؟

مفهوم عصيّ على التعريف

الزمن هو البعد الرابع عند الفيزيائيين وبعض الفلاسفة، وهو أساسي لتحديد كل نقطة في وجودنا. ما فائدة أن نتفق على اللقاء في المطعم مثلًا دون تحديد موعد؟ وما معنى أن نتحدث عن مصر إن لم نحدد الزمن المقصود؟ فمصر اليوم لا تشبه مصر الفراعنة. وبنفس الطريقة لا يمكن أن يكون اشتياقك لمكان ما منفصلًا عن الزمان. وأيّاً كان تعريفنا للزمن ومهما كانت فلسفة الزمن التي نعتنقها؛ الأبدية أو الحاضرية أو غيرها، وسواء أكنا نعتقد أن الماضي موجود وحقيقي كالحاضر تمامًا أو أن الماضي والحاضر والمستقبل مفاهيم اخترعناها ولا وجود لها خارج وعينا، فإن الحديث عن الزمن مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالوعي والإدراك البشري.

السفر إلى الماضي

العقل البشري حتى هذه اللحظة هو الوحيد القادر على السفر عبر الزمن بالعودة إلى الماضي أو تخيل المستقبل. نحن نتذكر كثيرًا، ولكن يندر أن نعيش لحظة من الماضي بكل ما فيها من مشاعر، وعادة ما يتم ذلك من خلال شيء مادي محسوس -كما هو الحال في أفلام الخيال العلمي حيث يتم السفر عبر الزمن من خلال كهف في الغابة أو آلة في مختبر- مثل أن نمسك بأيدينا قطعة ملابس قديمة أو نشعل شمعة عطرية أو نسمع أغنية أو أن نزور مكانًا له مكانته وخصوصيته. نسترجع حينها شخوصًا ومشاعر فقدناها منذ زمن، ويكون الشعور حقيقيًا جدًا في بعض الأحيان وإن لم يدم طويلًا. الحنين كما أراه هو حزن البشر على قصر مدة استحضارنا لهذه اللحظة الحقيقية بما فيها من مشاعر، وعلى إدراكنا أنها فينا ولا نستطيع الوصول إليها.

متاحف الذكريات

ميزة الأماكن هي أنها أكبر منا حجمًا، تحتضننا ونشعر بأنها شهدت ما شهدناه وعاشته كما عشناه وأنها ربما تُشاركنا الحنين إليه. هي أشبه بمتحف للذكريات، لا نحن إليه بل إلى موجوداته. أما عن الحنين إلى زمان مضى، وباعتبار أن الزمان مرتبط بوعينا به وإدراكنا له، فنحن بحنيننا إلى الماضي نحنّ إلى وعينا الماضي أو إلى ذواتنا في ذلك الزمان. كذلك المستقبل، عندما نتخيله ونتخيل مكانًا فيه فإننا في الحقيقة نرسم صورة لذاتنا المستقبلية التي نرجوها. أنا مثلًا أحلم بلقاء كاتب معين، وأود لو يحصل ذلك في أي مكان، لكنني أفضل أن ألتقيه في مكان إقامته في ذلك البلد الذي يفصلني عنه بحر وبلاد، لأنني أطمح لأن أكون تلك المرأة التي قطعت آلاف الكيلومترات لتحقق حلمها.

اغتراب الذكريات

زرت مؤخرًا مكانًا قضيت فيه عدة سنوات من عمري وشهد العديد من الأحداث المهمة في حياتي. اعتدت أن تكون كل زيارة إلى ذلك المكان بمثابة عبور بوابة إلى الماضي. كانت كل الشخصيات والأحداث تعود إلى الحياة أمام عيني خلال ثوانٍ، لكن آخر مرة لم تكن كذلك، وشعرت بغربة في ذلك المكان لأول مرة في حياتي. المكان لم يتغير، والزمان الذي كنت أشتاق إليه لم يتغير أيضًا، أنا التي تغيرت. اختلف وعيي واختلفت نظرتي لكثير من الأمور بما فيها ذلك الزمان الذي كنت أحن إليه كثيرًا. إن انقطاع علاقتي بذلك المكان، واختفاء حنيني إلى ذلك الزمان دليل على أن علاقتي بهما ما هي إلا علاقتي بنفسي.

حيث تحدث الحياة حقًا

حياتنا رحلة، والأماكن والأزمنة هي إحداثيات لنقاط مررنا بها في مسار الرحلة. تبدأ رحلة كل واحد منا به وتنتهي به نفسه. لا شيء مختلف، ولا شيء متشابه. وعندما نستعرض حياتنا نستعرض ذواتنا، كيف كانت في نقطة ما وكيف صارت في أخرى، ونحدد هذه النقاط بإحداثيات المكان والزمان. ما الحياة إلا ما يدور في رأس كل واحد منا. كل شيء حقيقي، ولا شيء حقيقي.