حرية التعريف عن النفس
إذا أردت أن تعرّف عن نفسك، ماذا تقول؟
عادة ما يكون الهدف هو كتابة السيرة الذاتية لأغراض الدراسة أو التوظيف وبالتالي فإن تعريف الشخص بنفسه يكون بسرد خبراته العلمية والعملية، وعادةً ما يلتزم الناس بقواعد كتابة السيرة الذاتية التي تعلمك أن تميّز بين ما ترغب بقوله وما يجب عليك قوله. ويحدث أحيانًا أن يكون عليك أن تعرّف عن نفسك لأغراض غير متعلقة بوظيفتك فتصبح عندها خبراتك العملية بلا أهمية، كأن تكون طبيبًا وتقيم معرضًا للوحاتك الفنية. حينها ستلجأ في الغالب إلى تعداد هواياتك واهتماماتك وكل التجارب التي أوصلتك لتلك النقطة، فإذا كان المسار الذي أوصلك لها واضحًا ومنحوتًا بالتدريب والممارسة فالمهمّة هيّنة، وإلا فحظًا طيبًا في فصل المؤثرات التي جعلتك ما أنت عليه الآن وتحديدها. فما نحن إلا حصيلة كل ما مررنا به في حياتنا.
لكل مقام مقال
لا شك أن هناك عدة عوامل وقواعد تحدد من خلالها الطريقة التي تعرّف بها عن نفسك، وقد يكون أهمها المتلقي أو الجمهور الذي تقف أمامه. وغالبًا ما ترجح كفة "ما يحبّون سماعه" على "ما أرغب بقوله حقًا" لأسباب أظنّها مفهومة للجميع، بل إن موازنة الكفتين تعتبر مهارة بحد ذاتها. لا زلت أذكر مقابلتي الأولى بعد التخرج عندما سألتني مديرة الموارد البشرية عن أهم ثلاثة أمور في حياتي وأجبتها بأنها عائلتي، وعملي أو دراستي، ومبادئي. أظنه من البديهي والطبيعي أن لا يكون عملي أول تلك الأولويات الثلاث لكن مهارة الموازنة تلك كانت تتطلب أن أؤكد أنني أعدّدها بدون ترتيب. ولو طُلب مني الآن أن أعرّف عن نفسي ككاتبة هذا المقال لاحترت في ما يجب علي قوله، فأنا لم أحترف الكتابة ولم أحصل على شهادات فيها، وكنت حينها سألجأ لأسلم الكلمات وأبسطها: خريجة صيدلة تحب الكتابة والتدوين. لكنني أعلم أن جزءًا منّي كان ليشعر بالخيانة. ذلك الجزء الكامن في داخلي مثل جبل جليدي راسخ تحت السطح بالكاد يظهر للعيان عُشره.
خبرات غير معترف بها
بعض الخبرات لا ذنب لها سوى أنّها لا تصب في مصلحة الرأسمالية. أسقِطت من مناهج التنمية البشرية القائمة على أساس أنّ كل ما لا يزيد إنتاجيتك مضيعة وقت، و أن كل إنتاجية لا يمكن قياسها بالأرقام واعتمادها بالأختام لا يعول عليها. ورغم جَور هذا المبدأ الذي يجرّد البشر من إنسانيتهم ويعاملهم كآلات تدير عجلة الاقتصاد الرأسمالي إلّا أنني أتفهم أن يسود في عالم الأعمال في ظل غياب وسيلة أخرى لقياس القيمة التي يمكن أن يقدمها الفرد لأي منشأة اقتصادية. لكن ما حدث هو أن هذا المبدأ انسحب على باقي جوانب حياتنا حتى أصبح تقدير الفرد لذاته وتقييمه لنجاحه يعتمد غالبًا بوعي أو بلا وعي على الأرقام والشهادات والإنجازات على طريقة النظام السائد. لنأخذ الأمومة مثالًا، فعلى الرغم من كونها واحدة من أهم التجارب وأعظم الخبرات في حياة المرأة إلا أنّه ليس من الشائع في أي سياق أن تعرّف النساء العاملات أو الكاتبات أو الفنانات عن أنفسهن بكونهن أمّهات. لا أجد مشكلة بذلك إن كان بإرادتهن الحرة، بل إنّي أتفهم الدوافع وراء رغبة بعض الأمّهات بتحييد الأمومة كوسيلة للدفاع عن ما تبقى من ذاتٍ قديمة يفتقدنها ويشعُرن أنّها ضاعت منهن يوم أصبحن أمّهات، ولكنّي هنا أدافع عن حقهن في الحديث عن أمومتهن كخبرة يفتخرن بها دون الخوف من أن يعتبر ذلك افتقارًا للمهنية، أو أن يُقبل من باب المجاملة أو التعاطف، ولا أن يقتصر على من كان أحد أبنائها ناجحًا ومشهورًا وكأنّ أمومتها نالت شهادة أو اجتازت امتحانًا فاستحقّت الإشادة.
كنز مكنون
الأمومة مدرسة، أو بالأحرى درس، فيه الأم تُعلّم وتتعلّم. وهي مؤسسة تتكرر الأيام فيها وتتشابه حد الملل، لكنّها رغم ذلك زاخرة بخبرات فريدة وغير متكررة. أدركتُ عندما عدت إلى العمل بعد انقطاع لسنوات تفرغت فيها لتربية ابنتي أنني اكتسبت الكثير من المهارات في تلك الفترة وتعلمت الكثير من الأمور دون أن أعلم. لقد تعلمت فن ترتيب الأولويات وتنظيم الوقت، وأصبحت أكثر مهنية وتضاعفت إنتاجيتي لأنني كنت أبذل كل ما في وسعي ليكون ما أنجزه في عملي وما أكتسبه فيه من خبرة يستحقان حقًا حصة من وقتي. وعندما تفرغت للتربية مجددًا قادتني الأمومة، ولا شيء سواها، إلى الكتابة. ذلك الكنز المكنون الذي غفلت عنه لسنوات. أؤمن أنّ كل إنسان يُمنح مع ولادته مجموعة من "الأدوات" ليستعين بها في رحلته في هذه الحياة، يغفل عن بعضها ولا ينتبه لوجوده إلا إذا اشتدّ الظلام حوله وتحسّس ما بداخله راجيًا العون. وبعضها الآخر يتجلّى بهيًّا إذا ما سطع عليه نور الوجود. وأنا مدينة للأمومة، بنورها وظلامها، بنعمة اكتشاف الكتابة.
لأجل كل هذا، ووفاءً مني لنفسي، دعوني أعرّف عن كاتبة هذا المقال: علا خليل، خريجة صيدلة وأمّ لطفلين، تحبّ الكتابة والتدوين.