اباضيّو حضرموت: من الحضور البارزْ حتّى الزوال الخافتْ.. قراءةٌ في النموِّ والأفول
إنّ هذه المادة لا تسعى لإقرار حقيقةٍ مذهبية، وليست الدخول الأوّل إلى هذا الباب، بل هي جزء من تراكمية يحتاجها تاريخ حضرموت، وإننا نسير بشكل متصل ومتواصل حين نكثّف القراءة والبحث والكتابة، ولا بد أن تصب كلّ الأعمال في صالح البلاد، فنحن نكتبُ لأجلها. لأجلِ أن يرى تاريخها النور. إننا بحاجة لذلك.
وبعد، فإنّ الكاتبة تعتذر عن وضع همزة الاباضية نظرًا للاختلاف اللافت في وضعها عند من دوّن عن الاباضية سواء أكان من الدائرة الاباضية أم خارجها. ولكنها للأمانة العلمية، تنقل الهمزة كما جاءت عند مختلف المصادر المذكورة في المادة، ويستطيع القارئ ملاحظة الهمزة التي تعتلي الألف مرة وتكون دونه مرة أخرى.
حضرموت.. البِدايات
تقول المراجع التي توثّق للاباضية في حضرموت إنّ القرون الإسلامية الأولى لهذه البلاد كانت اباضية خالصة، وما يدعّم هذا القول، ما جاء في كتاب (حضرموت بين القرنين الرابع والحادي عشر للهجرة) لسالم فرج مفلح، حيث ذكر قول الإمام السخاوي الأشعري العقيدة تـ 902هـ والذي يشير إلى حضرموت بأنها من البلدان (التي لا حديث يروى بها ولا عرفت بذلك) وذلك في القرن العاشر الهجري، ويربط صاحب الرؤية تلك الإشارة باستمرار الأوضاع غير السنية في حضرموت، ممثلة في الاباضية والمعتزلة، وذلك -حسب قوله- لعدم عنايتهما بالحديث وعلومه إلا ما وافق مذهبهما.
كانت حضرموت حتى في زمن ما قبل الحجاج بن يوسف الثقفي تحت حكم الإسلام المركزي مع بقاء نفوذ كِندة فيها، مع الحجاج "توالى على حضرموت من ثقيف واحد بعد واحد، وفعلوا في أهلها الأفاعيل الشنيعة" وكان آخر واحدٍ منهم: القاسم بن عمير الثقفي وهو الذي قررت كندة عزله، "فانتهضوا لعزله وللاستقلال ببلادهم"، "وأول من برز لذلك الملك طالبُ الحقّ عبدُ اللهِ بن يحيى الكِنديّ".
يظهر لنا هُنا أوّل ذكر لابن يحيى الكندي، وهو ظهور ليس ببعيدٍ عنه، بل شبيهٌ به، ومقدمة لما سيحدث فيما بعد.
في التعريف عن ابن يحيى جاء في كتاب جواهر الأحقاف:
"هو من بني عبدالله –الملقب الشيطان- ابن الحارث بن عمرو بن معاوية بن الحارث الولادة بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة، ولعله من بني عمير بن أبي شمر. كان يقول قبل أن ينهض ويخرج على مروان بن محمد الأموي آخر خلفاء بني أمية: لقيني رجل فأطال النظر إليّ وقال: ممن أنت؟ فقلت من كندة، فقال من أيهم؟ فقلت من بني شيطان، قال: والله؛ لتملكنّ ولتبلغنّ خيلك وادي القرى، وذلك بعد أن تذهب إحدى عينيك. فذهبتُ أتخوف ما قال وأستخير الله، فرأيت باليمن جورًا ظاهرًا وعسفًا شديدًا وسيرةً في الناس قبيحة، فقال لأصحابه: "ما يحلّ لنا المقام على ما نرى ولا يسعنا الصبر عليه".
أما سالم بن حمود بن شامس السيابي فيعرفه بالتالي:"عبدالله بن يحيى الكندي كان من حضرموت، وكان مجتهدًا عابدًا".
وفي موقع تادرات (مركز الدراسات الإباضية) جاء التعريف بابن يحيى أكثر تفصيلًا من ناحية مصدرية تلقيه العلوم، وفيه تأكيد على معالم شخصيته الرافضة للظلم، يظهر ذلك في النص الآتي: "إمامُ الشراة، وأحد أقطاب المذهب الإباضي في عهود تأسيسه، لم تشر المصادر إلى تاريخ ولا إلى ظروف نشأته الأولى، بينما اهتمت بمناقبه وأعماله، والراجح أنه وُلد في حضرموت، وبها تلقى علومه الأولى. انتقل مع أبي الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري إلى البصرة، ليأخذ ممن عاصرهم من التابعين وعلى رأسهم أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة وضمام بن السائب" يضيف: "بعد عودته تولى منصب القضاء لإبراهيم بن جبلة، عامل القويسم على حضرموت، إلا أنه لم يهدأ له بال، لما رآه من الجور الظاهر، والعسف الشديد.". وعنهُ كذلك: "أطنبت المصادر في ذكر صفاته الخلقية، فهو شيخ الزهد والورع، عادل في سيرته، متورع عن أموال المسلمين في خزائن بني أمية، إذ سارع إلى توزيعها على أصحابها من الفقراء والمساكين. ولعلّ ثورة طالب الحق من أهم العوامل التي قوضت أركان الدولة الأموية، وعجلت بأفول نجمها".
وعن تشكّلات الانطلاقة فكانت بالتعاون الصريح مع اباضية البصرة، فجاء في كتاب باحنّان المذكور (جواهر الأحقاف): "قال ابن جرير: حدثني العباس بن عيسى العقلي قال: حدثنا هارون بن موسى الفروي قال: "حدثني موسى بن كثير مولى الساعديين قال: كان أول أمر أبي حمزة المختار بن عوف الأزدي السليمي من البصرة، أنه كان يوافي كل سنة مكة يدعو الناس إلى خلاف مروان وآل مروان، قال: فلم يزل يختلف في كل سنة حتى وافى عبدالله بن يحيى في آخر سنة (128هـ)، فقال له: يا رجُل؛ أسمع كلامًا حسنًا، أراك تدعو إلى حق، فانطلق معي، فإني رجل مطاع في قومي، فخرج حتى ورد حضرموت، فبايعه أبو حمزة على الخلافة، ودعا إلى خلاف مروان وآل مروان". يتابع عن فترة حكم ابن يحيى: "وقام بالأمر ابن يحيى، فنشر العدل والأمن وبنى المساجد، وأطعم الفقراء والمعسرين، فأحبه الناس وكثر جمعه، واحتشد حوله الأنصار والأعوان، وهابته القبائل، فأكبروا فيه همته وورعه وصلاحه وتقواه، وسموه طالب الحق".
لم يتغير من طالب الحق شيء حين امتدت ثورته لصنعاء وحكمها بعد أن انتصر على واليها، يقول باحنّان: "أقام طالب الحق بصنعاء أشهرًا، أزال في خلالها المظالم والمفاسد، ونشر العدل والأمن، وأحسن السيرة، وألان للناس جانبه، فأحبوه وأثنوا عليه، ومدحه الشعراء، وأتتهُ الشراة من كل أرجاء اليمن".
إنّ للثورة -بطبيعتها- قاعدة شعبية، تحتضن المبادئ وتهتف بها وتموت لأجلها، في ثورة ابن يحيى لافت للمتتبع هذا النجاح وهذا الامتداد، ولا بد أن تكون هناك وِحدة شعبيّة ومذهبيّة ساعدت على تحقيق هذا النجاح الذي يصنّف بأنه: "أوّل ثورة في الإسلام". ومصداقًا لذلك يقول الباحث سالم فرج مفلح: "قامت ثورة الإمام عبد الله ين يحيى الكندي الأباضية في حضرموت سنة -129هـ، وسادت حضرموت، دون إراقة قطرة دم واحدة، ثم اتجهت تلك الثورة إلى صنعاء واستولت عليها، ثم اتجهت إلى الحجاز واستولت على مكة والمدينة في طريقها إلى الشام لإسقاط دولة بني أمية". وفي هذا الصدد يقول السيابي: "كانت كندة لطالب الحق يدًا ولسانًا وسيفًا وسنانًا، ولذلك أصبح السيد الوحيد تؤيده الأباضية بكل معاني التأييد، وكذلك أصبحت للدعوة الأباضية في تلك المنطقة صولة وطولة".
كانت لثورة طالب الحق أثر كبير على محيطها الاباضي، بل بفعله ذلك ساهم في حفظ التراث الاباضي لنا فيما بعد، فكان للدور العُماني والمغربي الأثر الواضح في ذلك، ولعلّ أشهر عملية يمكننا من خلالها تأكيد ذلك، هي العناية التي أولاها اباضيّو عُمان والمغرب العربي للشاعر إبراهيم بن قيس الهمداني الحضرمي، إذ خرجت نسخ ديوانه من عندهم ولم تخرج من حضرموت، موطنه الذي قال فيه حين عرّف عن نفسه بنفسه: "والأوطان أرضُ الحضارمِ".
أما عن امتدادات الثورة، فيقول سالم فرج مفلح: "قيام الثورة الصفرية في عمان بقيادة الإمام شيبان اليشكري، متزامنة مع ثورة حضرموت، وكذلك قيام الدولة الرستمية الأباضية في المغرب سنة-140هـ التي استمرت طويلًا حتى قضى عليها الفاطميون سنة-296هـ.."، ويقول في موضع آخر: "بعد القضاء على إمامة طالب الحق الكندي، استمر التواصل بين أباضية حضرموت والمغرب، ولعل أبرز من ظهر في تلك البلاد من أهل حضرموت الإمام الحارث بن تليد الحضرمي سنة-131هـ، كما كان من ثمرة ذلك التواصل عناية أباضية المغرب بالتراث الأدبي والعلمي للإمام أبي إسحاق الهمداني الحضرمي الأباضي المتوفي في أواخر القرن الخامس الهجري".
معركة قديد.. نصرٌ أدى إلى هزيمة مُفنية
شهد عام 130هـ وَقعة قديد، والتي انتصر فيها جند طالب الحق انتصارًا ساحقًا، وكانت بقيادة أبي حمزة وبين أهل المدينة. وقد قُتل فيها جمعٌ كثير. "وقال ابن جرير أيضًا بروايته عن العباس أنه قال: وأنشدني بعضهم في قديد:
ما للقديدِ وما ليَهْ ... أفنتْ قديدُ رجاليَه
فلأبكينّ سريرة ... ولأبكينّ علانيةْ
ولأبكينّ إذا شَجَنْتُ ... مع الكلابْ العاويةْ
بعد ذلك النصر دخلت القوات الاباضية المدينة دون قتال في 13 صفر 130هـ. ولم تكن المدة التي أقاموا بها طويلة، لكن أبو حمزة قد خَطَبَ فيها خطبًا عدة. "قال أبو وزير: إن الخطاب الذي ألقاه أبو حمزة المختار في مسجد المدينة هو من بين النصوص التاريخية التي تلقي ضوءًا على عقيدتهم وطريقة دعوتهم إليها".
ونظرًا لأهمية الحدث، وأهمية ما جاء في الخطبة أُورِدُ هنا بعض الأقوال التي أراها مهمة من خطبته:
"إنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشرًا ولا بطرًا، ولا عبثًا ولا غدرًا، ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد عُطلت، وعُنِّف القائل بالحق، وقُتل القائم بالقسط.. ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعيًا يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن. فأجبنا داعي الله. ثم لقينا رجالكم بقديد، فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكمِ القرآن، ودَعَونا إلى طاعة الشيطان وحكم آل مروان، فشتان -لعمر الله- ما بين الرشد والغي، وأنتم يا أهل المدينة، إن تنصروا مروان وآل مروان.. يسحتكم الله بعذابٍ من عنده أو بأيدينا، ويشفِ صدور قومٍ مؤمنين".
إنّ هذا النصر، وهذا الدخول إلى مكانٍ كالمدينة والخطبة فيها بكلام صريحٍ وثقيل المعنى، قد ألّب مروان بن محمد على القوم المنتصرين، فعزم على رد الهزيمة بصاعين وإنهاء ذلك الوجود الذي ثار عليه بالسلاح. يقول باحنّان: "لما بلغ مروان بن محمد انتصار قوم طالب الحق يوم قديد واستيلاؤهم على مكة والمدينة، جمع وانتخب من عسكره أربعة آلاف، واستعمل عليهم ابن عطية، وأمره بالجد في السير، فقاتلهم حتى قتلهم". يتابع: "وقيل: إن ابن عطية غزا إلى حضرموت بعد أن قتل طالب الحق واستولى على صنعاء، فأثخن في القتل في أهلها".
نظرة في التوثيق الحضرمي للعصر الاباضي
مُلاحظ على المصادر التي تتناول الاباضية في حضرموت أنّ قُربها ونفورها من تلك الفترة يعود لخلفيات الكاتب المذهبية والعقدية، وهذا -ومع الأسف- مما يدعونا، بل ويضطرنا للتشكيك، في مدى صدقية تلك المصادر التي دُوِّنت استنادًا على مشاعر كاتبها، ونحن نأسف لذلك لأننا نتحدث عن مصادر قليلة العدد تتعلق بتلك الفترة المهمة من تاريخ حضرموت لكننا نفعّل الشك العلمي بغرض الوصول إلى أرضية تاريخية سليمة المنطق عن حضرموت. ومن المثمر الإشارة إلى أنّ هناك تفصيلًا مهمًّا عند الحديث عن مذهبية حضرموت في قرونها الإسلامية الأولى، ذلك أننا نتحدث عن وجودٍ اباضيّ ومعتزليّ وزيديّ، لذلك وجب أن أسوق هنا تعليق سالم فرج مفلح حول هذا الموضوع، وفيه يقول: "ولعل القارئ الكريم يستغرب مثل هذا التعايش الاجتماعي والعلمي بين الأباضية والمعتزلة-الزيدية في المجتمع الحضرمي، غير أن ذلك الاستغراب ينتهي إذا أخذنا بعين الاعتبار أن زيدية حضرموت لم تكن علوية الهوى، بل هي زيدية (عثمانية) كما قال عنها الإمام السخاوي. هذه (العثمانية) تتسع برحابة صدر لذلك التعايش، بل هو أساس (العثمانية)، هذا من ناحية، ومن أخرى، فإن المعتزلة يقدمون الأباضية والخوارج على أهل السنة في الفضل والعبادة".
"حدث صراع قبلي في حضرموت، وهو من دلائل وجود الإباضية في حضرموت بل واستقرار المذهب فيها. وبالرجوع إلى السيرة التي كتبها الصلت بن مالك الخروصي إلى الإمام الحضرمي أحمد بن سليمان تظهر حالة الانقسام القبلي، والاقتتال الدموي، وتؤكد تلك السيرة أن سبب الخلاف لم يكن انقسامًا بين الإباضيين من ناحية مذهبية وما شابه، بل تعصبًّا وحمية قبلية، وجاء في السيرة أن حل هذه الفتنة يظهر بالوقوف بجانب الإمام وعدم خذلانه".
إنّ هذه المادة تُظهر وخلافًا للوجود الاباضي المستقر، حصول استقلالية القرار الحضرمي عن العُماني، إذ يتضح أنّ التوصية العُمانية جاءت خلافًا للحالة القبلية حينها، ومؤيدة للإمام الحضرمي أحمد بن سليمان، وهي إشارة لا بد من الوقوف عندها للقول بعدم التبعية الحضرمية لعُمان حتى وإن اتحد المذهب، لكننا نقول كذلك عن علاقة حضرموت وعُمان إنها: علاقةٌ ترصد حقيقة وواقعية تأثير الموقع الجغرافيّ على سير الحياة بكل مفاصلها، مرورًا بالدين والسياسة، وهذا القرب كان سببًا في حكم حضرموت لمناطق من عُمان في فترات تاريخية، وكذلك حكم عُمان لمناطق حضرمية. إلا أننا الآن نتشارك موروثًا شعبيًّا متشابهًا في بعض الأمور، وأسلوب حياة متقاربًا جدًا، وعُمان كانت حاضرة دومًا في أشعار أبي إسحاق إبراهيم بن قيس، حضورًا قويًّا، بل وعاطفيًّا كذلك، وثّق من خلالها هذه العلاقة بتناسب شديد مع تلك الظروف.
وحين استنجد أبو إسحاق الهمداني بعُمان، حين اتكأ على وتد راسخ، وحين استند على جدار عالٍ متين، فإنها لم تخذله، حين قال مفاخرًا واثقًا بها:
يخوّفني أن المعزّ ملاذه ... بمصرَ وما خوفي لأهلِ المظالمِ
إذا وفده ولّى إلى مصر رائدًا ... مضى وفدنا قصدًا لخير المعالمِ
ليعلم أي الحزب أسبق نصرة ... وأيهما أولى بفعل المكارمِ
لم تخذله عُمان حتى بعد قرون من ثقته تلك، فوثقت إرثه الشعريّ.
أما في كتاب (إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت) يقول المؤرخ عبد الرحمن بين عبيد الله السقاف عند حديثه عن أحد محدّثي شبام، وهو عبد الله بن أحمد بن محمد بن عمر باكثير الشبامي: "ووجود اسم عمر في عمود هذا النسب مما يتأكد بهِ ما قررته في قول شيخنا المشهور، وشيخهِ أحمد الجنيد: إن العلويين كانوا يجتنبون اسم أبي بكرٍ وعمر؛ لأنّ أهل حضرموت شيعةٌ -من تخصيص التشيع وبالعلويين ومن على شاكلتهم، وأكثرُ أهلِ حضرموتَ إذْ ذاك إباضيةٌ". وضمن حديثه المستمر عن شبام جاء ذكر مسجد الخوقة، قال: "من مساجد شبام القديمة، وكان في العهود السالفة مقرًّا للإباضية، ورد ذكره في حوادث سنة (591هـ) عند شنبل، فقال: (وفي سنة "591هـ" أُزيلت الإباضية من مسجد شبام المعروف بمسجد (الخوقة) ا هـ)".
وجاء كذلك فيه: "وفي سنة 119هـ نجمتِ الخوارج، وتفرّعت عنها الإباضية التي بقيت منها بقيةٌ مذكورة في حضرموت حتى أواخر القرن الثامن كما ذكره ابن خلدون في (ص170 ج3) من "تاريخه"". وعن ذي أصبح يقول: "هي من قدامى بلدان حضرمَوت، لها ذكر عند الهمداني وغيره. وكان بها كثيرٌ من الإباضية كما ينطق بذلك ما سبق في شبامٍ من شعر إمامهم إبراهيم بن قيس".
وفي مقالةٍ لـسند بايعشوت نُشرت في صحيفة الأيام تحت عنوان: (قراءة لكتاب "صفحات من تاريخ اباضية عمان وحضرموت") للباحث عبدالرحمن جعفر بن عقيل تحدّث فيها عن الأسباب الورائية لنفي شخصية الشاعر إبراهيم بن قيس، فذكر: "في كتاب صفحات من تاريخ اباضية عمان وحضرموت للباحث عبدالرحمن جعفر بن عقيل: "فنّد آراء المتشككين بشخصية أبو إسحاق إبراهيم بن قيس الهمداني الحضرمي وبيّن أنها واهية وليست من العلم في شيء، بل كانت ضمن أغلب البحوث التي كتبت إبان فترة الصراع بين الحركة العلوية المناهضة للحركة الإرشادية وكان مركزها مهاجر الحضارمة بشرق آسيا، إذ طغت العصبية المذهبية على حساب الحقيقة الضائعة".
ويأتي هذا التعليق ردًّا على الإلغاء الذي تعرض له شاعر حضرموت إبراهيم بن قيس الحضرمي، وممن تزعموا هذا التوجه المؤرخ الحداد حيث قال: "إبراهيم الأباضي أكاد أجزم بأنه لا حقيقة له، وأن حكايته مفتعلة، وأن أشعاره قد نظمها شعراء أباضية زنجبار وعمان والشيخ الباروني، واستعانوا في إيراد بعض الأسماء بكتاب صفة جزيرة العرب للهمداني والأنساب للسمعاني".
بدورهِ يعلق سالم فرج مفلح حول هذا الإنكار قائلًا: "كل ذلك يصبح غير ذي معنى، لأن الإنكار نفسه يصبح هو الآخر غير ذي معنى، حين نعلم أن نسخ مخطوطات ذلك الديوان قد تفرقت بين المغرب العربي وعُمان، وهي أقدم من عصر الباروني إذ إن أقدم نسخة اعتمدت في تحقيقه، إنما هي نسخة جزائرية تعود إلى سنة -1147هـ وأخرى عمانية تعود إلى سنة -1195هـ". يتابع في فقرة أخرى: "ولهذا فإن إنكاره ذاك يفقد موضوعيته ومنطقه العلمي، وإنما جاء إنكاره فقط لينسجم مع قوله بذوبان الأباضية في حضرموت كإذابة الملح". يُشير فرج مفلح بذلك إلى قول المؤرخ الحداد حين أراد اختراع مخرج للنقلة المذهبية في الأراضي الحضرمية فقال: "في القرن الرابع الهجري أذاب الله الأباضية كإذابة الملح".
ويوثّق كذلك تناقضًا وقع فيه المؤرخ الحداد فيقول: "أما قوله الآخر، فنجده يتناقض مع قوله الأول بذوبان الأباضية، إذ وجدناه يعترف ببقاء الأباضية حتى مطلع القرن التاسع، بعد أن كان أذابها كإذابة الملح، وهكذا، نرى أن ما دفع مؤرخنا الحداد إلى ذلك الاعتراف، إنما هو ضغط الحقيقة التي لابد أن تظهر حتى في شكل (سقطات)، هذه السقطات تشكل قاعدة التناقض والغموض والاضطراب في الكتابة التاريخية الحضرمية المعاصرة". يأتي ذلك حين ذكر صاحب الرؤية قول الحداد فيما يلي: "أما المؤرخ علوي بن طاهر الحداد، فقد أراد حسم الأمر مبكرًا، فقد قال: (بسيطرة الخوارج كلاب النار وشر الخلق والخليقة على حضرموت خلال الثلاثة قرون الأولى من الإسلام، ثم إن الله أذابهم كإذابة الملح)، ثم نجده في موضع آخر يقول: (وكان الشيخ محمد أبو بكر باعباد –ت- 801هـ والشيخ الفقيه القاضي المؤرخ عبدالرحمن بن علي بن حسان –ت- 818هـ وغيرهم يناضلون الخوارج)".
إنّ الباحث في تلك المرحلة التاريخية من حضرموت يتوصّل لحقيقة مفادها أنّ المذاهب في حضرموت كانت بعيدة كل البعد عن السنية، بل وحتى ليست أشعرية، فالغلبة المذهبية حينها كانت للاباضية، مع وجود معتزلي ملحوظ وواسع في كبرى المدن الحضرمية، وفي ذلك يقول فرج مفلح: "سلوك الحملة الأيوبية تجاه حضرموت يقطع بأنها ومجمعها العلمي التريمي لم تكن على المذهب الأشعري ولم تكن سنية الاعتقاد، وأنّ هدف تلك الحملة عليها كان هدفًا عقائديًّا محضًا، استهدف رجال العلم والدين خاصة"، وذلك إشارة إلى الحملة العسكرية البشعة التي قام بها القائد الأيوبي أبو عثمان الزنجبيلي على حضرموت، واتفقت المصادر الحضرمية على همجيتها ودمويتها بحق الحضارمة على اختلاف مستوياتهم، ويذكر سالم فرج توثيقهم كالتالي: "يقول عنها الشاطري: (وفيها فني أعداد كبيرة من أبناء القبائل، وأعقبها مباشرة مجازر ونفي علماء البلد وصلحائها وحكامها)، وقال المؤرخ بامخرمة في حديثه عن الزنجبيلي: (ثم غزا حضرموت أشرًا وبطرًا وقتل عالمًا كبيرًا من فقهائها وقرائها)، ويقول المؤرخ الفقيه علي بن سمرة الجعدي المعاصر لتلك الحملة: (قتل الزنجبيلي فقهاء حضرموت وقرائها قتلًا ذريعًا)".
ومن وجوه النفي المذهبي الذي تعرضت له حضرموت، ولكن هذه المرة مع شخصية من المعتزلة، وفي ذلك يقول سالم فرج: "قام الأيوبيون في ذلك القرن أيضًا بسجن الشاعر التكريتي ومصادرة أمواله، لا لجناية ارتكبها، ولكن لأنه من أعلام حضرموت في الاعتزال، ومن خاصة الإمام المعتزلي الأكحل والي ظفار حينها، وعندما أرادت المراجع السنية إبعاد وإقصاء البعد المذهبي لاعتقاله ومصادرة أمواله، قالت إن الملك الأيوبي (طغتكين) اغتاظ من قول التكريتي في مدح الإمام الأكحل: (هو تاجٌ والملوك حذاء)، ولعمري فإن ذلك عذر أقبح من ذنب، وتبرير واضح الصنعة والاختلاق، فلو كان من شيم الملوك والأمراء معاقبة الشعراء على مدائحهم في الآخرين، لامتلأت سجون بلاد الإسلام بالشعراء، ولكنا اليوم ندرس فيما ندرس نوعًا من الأدب الإسلامي، لعل اسمه سوف يكون: أدب القبض والاعتقال".
وفي تدخل فجٍّ آخر يظهر لنا إقحام رموز مذهبية لفرضها على الشخصية المذكورة، نجد ذلك حين أُدخل اسم الإمام الغزالي في وصية الإمام بافضل، ويقول سالم فرج في ذلك: "والغرض من كل ذلك هو القول بأشعرية الأوضاع المذهبية والسياسية في حضرموت كلها في ذلك العهد، خاصة وأن الإمام الغزالي لم يكن حاضرًا شخصًا ولا ثقافة في الحياة الفكرية في حضرموت في القرن السادس الهجري".
إن حديث بافضل عن تبدية العقل متوافق تمام التوافق مع القول بمعتزليته، يقول ماهر بن عبد العزيز الشبل في كتابه (موقف ابن رشد من الأشاعرة): "وأول من قرر معرفة الله نظرية وليست فطرية هم المعتزلة، وتلقفها عنهم الأشاعرة، ولذلك اعترف السمناني -من متوسطي الأشاعرة- بأن القول بوجوب النظر بقيةٌ بقيت عليهم من مذهب المعتزلة".
ثم إنّ استمرار أشعرية بعض المكونات الحضرمية حتى الآن ما أرى إلا أنها دليل على تاريخ معتزليّ راسخُ العقود، إذ تتفق المراجع الحضرمية على وجود كثافة علمية في تريم في فترة القرن السادس الهجري، وتصفهم وصفًا يشير للقارئ باطلاعهم على تفاصيل ذلك المجمع العلمي الكبير، إنّ قولهم بوجود ثلاثمئة عالم ومفتٍ يدل على عظيم منزلة تريم العلمية حينها -وهي رمزية لا زالت تريم محتفظة بها مع تعاقب المذاهب عليها- لكنّ هذه المراجع لا تشير إلى مذهب هؤلاء العلماء، ولا ظروف تلقيهم العلم، بل ولا حتى إلى أسمائهم! يبدو خلف هذا التصرف نوايا مبيّتة لا يجب أن نحسن الظن فيها. إنّ هذا الإخفاء المذهبي لتلك الجماعة من العلماء، وقع في فخها من هم خارج حضرموت كذلك، يظهر ذلك في رسالة جامعية تحدّثت عن صوفية حضرموت بعنوان: (الصوفية في حضرموت نشأتها، أصولها، آثارها.. عرض ونقد) لـ "أمين بن أحمد بن عبد الله السعدي".
وفيها يوثّق كذلك لعلماء تريم، فأورد فيها ما تقوله المصادر الحضرمية: "وكان بتريم إذ ذاك ثلاثمئة مفتٍ". و"وكذلك فقد تضافرت النقول على أنه وجد بتريم ثلاثمئة مفتٍ في عصر واحد".
يتابع السعدي حديثه، إلا أنه ينتقل للإمام بافضل الذي طالته قوى الإخفاء فيقول عنه –نقلًا عن إدام القوت: "وكان لنهضة بغداد العلمية؛ والبحث في المسائل الدينية صدى عظيم في حضرموت وأثر حسن من الحضرميين، فقد ذكر المؤرخون دور بعض العلماء الذين خرجوا من حضرموت إلى العراق لتلقي العلم أمثال سالم بافضل الذي مكث أربعين سنة يطلب العلم بالعراق فعاد إلى حضرموت بأحمال الإبل من الكتب فأحيا العلم بحضرموت بعد أن كاد أن يندرس".
يتابع صاحب الرسالة: "وكذلك بدأت الحركة العلمية في تريم ومنها تسربت إلى شبام فإلى الهجرين ثم إلى الشحر، وكان العلماء ينشرون علومهم في صورة محاضرات ومواعظ يلقونها في المساجد، وازدادت الحركة العلمية وأقبل عليها الناس، فبدأوا ينشئون مكاتب خاصة للتعليم في سيئون، والغرفة، وشبام، وهينن، والهجرين، ودوعن، والشحر، فكان طلبة العلم يؤمّون مدينة تريم من كل أنحاء حضرموت ومن عدن وصنعاء وزبيد، وكان العلماء والأدباء على وفاق، متبعين الكتاب والسنة بعيدين عن خرافات الصوفية وشركياتها من تبرك وتوسل واستغاثة".
لا يسعني هنا أن لا أذكر أبيات ابن قيس الاباضي الحضرمي حين تغنّى بنفوذ مذهبه في مناطق حددها فقال:
فأين الأُلى إن خوطبوا عن دقائقٍ ... من العلم أنّبوا سائليهم وسارعوا
فقلتُ لها: هم في شبام ومنهم ... بميفعةٍ قوم حوتهم ميافع
وفي هينن منهم أناس ومنهم ... بذي أصبح حيث الرضى والصمادع
بوادي حضرموت منهم جماعة ... وأرض عمان سيلهم ثم دافع
هذه الكثافة العلمية كانت سببًا لغزوٍ أيوبيّ وهؤلاء العلماء الذين تغنّت بهم مصادر حضرموت ومَن كتب عن حضرموت راحوا ضحية تصفية مذهبية من قبل الدولة الأيوبية.
أعقب المد الأيوبي مد رسولي، واجهته مكونات حضرموت بمقاومة شرسة أخرى ممثلة بالاباضية والمعتزلة في حضرموت وقد تمكنت من إثبات نفسها في منطقة الوادي بينما بقي للوجود الرسولي قوة في منظقة الشحر الساحلية كما يقول سالم فرج.
وجه هذا التغييب القبيح
كان لهذا التغييب الذي تعرض له تاريخ حضرموت وهذه الفجوات الهائلة التي حدثت عن قصد وتعمد دور سلبي في نفوس الحضارمة اليوم، بل إننا سنبقى رهن تلك الممارسات الشريرة والتي حين يتجرأ أحد على القول لها يشير بأنها حدثت بفعل "الأخلاف" عمومًا، أو أنها حدثت وحسب! إنّ في هذه الإشارة الخجولة دليل على أننا لم نقوَ بعد على التصريح بوجود تاريخ يخالف ما تعلمناه وعرفناه، دليل على سطوة المؤرخين حتى الآن، إن جزءًا من الجهد في هذا المضمار يستحق بل ويجب أن يُوجه لكشف الأسماء التي لعبت بتاريخ ملايين البشر، التي غيّبت -عنهم- حقيقتهم لإثبات حقيقتها فقط.
كان من تداعيات هذا الإخفاء أن تشير المصادر إلى استعانة السلطان بدر الكثيري المعروف بـ (أبو طويرق) بمرتزقة من خارج حضرموت، وتكرر دائمًا على استعانته الوثيقة بهم في تثبيت حكمه وأنهم القوى الوحيدة في حضرموت، القوى العسكرية الوحيدة للسلطان حينها! وكأن حضرموت خالية من أبنائها، من رجالها وعسكرها، وكأن لا أحد يستطيع حمل السلاح من حضرموت، وأنّ أبوطويرق لم يجد كفؤا في حضرموت فاستعان بمرتزقة من خارجها المحيط بها والبعيد. إنّ هذا التدوين المنقوص يسيء إلى حضرموت والحضارمة، يسيء للتاريخ والحاضر، ومن المؤسف أننا نرى الآن من يقوم بتوظيفه لصالحه للطعن في أبناء حضرموت، فهذه المصادر تتجاوز سبب وجود مرتزقة بدر الكثيري، بل وتتعامل مع الأمر كأنه شيء بديهيّ لا يستحق حتى الوقوف أو التعليق عليه، بينما في الحقيقة هناك بُعدٌ مذهبيّ لهذا السكوت وهذا التجاوز وهذا العبور الذي يدّعي الهدوء،
إنّ السلطان أبوطويرق أحدث انقلابًا مذهبيًّا في حضرموت، بل وحتى في أسرته الكثيرية التي انقسمت حينها حدّ الاقتتال، فقد كانت كل القوى المحيطة به اباضية ومعتزلة وزيدية، بل إنه بتصرفه هذا أوجد وِحدة بين متصارعين سابقين، فوّحد القوى المذهبية الحضرمية واصطفت جميعها ضده لمواجهة مذهبه السني، إنّ هذه الحقيقة المسكوت عنها توضح سبب استجلاب أبوطويرق مرتزقة من الخارج لأنّ أبناء حضرموت -الذين يخالفونه مذهبيًا بل وحاربوه لهذا السبب- لن يرغبوا بخوض معركة يكونون فيها القاتل والمقتول على حدّ سواء. وفي ذلك يقول سالم فرج مفلح: "ويبدو أن بدرًا رأى ما هو عليه من حالة الضعف والانكسار، فنراه يكثف من العناصر غير الحضرمية في جيشه"، وفي موضع آخر يقول: "إذ ما كان لهم أن يقاتلوا إخوانهم أباضية الساحل". ويقول عن توحّد قوى حضرموت المذهبية: "ومما لا شك فيه أن انكشاف المشروع الانقلابي السني العقائدي للسلطان بدر قد دفع بالأمور في البلاد إلى ذلك الانفجار المقاوم له، على طول وعرض البلاد، ومن أقصاها إلى أقصاها".
بقاءٌ يتجاهلُ الزوال
يقول "إريك فروم" في كتابه (الإنسان بين الجوهر والمظهر): "إنّ دينًا بعينهِ، طالما هو قادرٌ على تحريك السلوك، ليس مجرد مجموعة معتقداتٍ وشرائع، ولكنّهُ إيمانٌ مغروس بجذورهِ في البناء الخاص للشخصية الفردية. وطالما هو دين جماعةٍ من البشر فإنّ له جذورًا في الشخصية الاجتماعية أيضًا. هكذا يمكن اعتبار موقفنا الديني وجهًا لبنية شخصيتنا، فهويتنا تتحدد بما نكرس أنفسنا من أجله، وما نحن مُكَرسون من أجله هو الذي يحرك سلوكنا".
حين أخفت كتب التاريخ -ومن يقف خلفها من مؤرخين- مذهبية حضرموت السابقة، لم تستطع إخفاء امتدادات تلك الحالة على شخصية الإنسان الحضرمي، ذلك أنّ المعتقدات التي تبقى عقودًا راسخة لن يقدر التغييب على أن يزيلها كاملة، فقد بقيت منها باقية، يذكرني هذا الحديث بعلاقة الأشاعرة بالمعتزلة فهم وفقًا للتوصيف السني أقرب الحالات الكلامية لهم، إلا أنهم يحرصون على تأكيد هذه العبارة حين يتحدثون في تفاصيل الخلاف: "بقيت فيهم بقية من مذهب الاعتزال"، فالانغماس المعتقدي الأوّل يصعب الانفكاك منه كليًّا، والبذور الأولى دائمًا تجد مكانًا لتنبت منه.
وفي معرض حديث سالم فرج عن (إحياء ما بين العشاءين) لدى كل من بافضل والغزالي أورد تفصيلًا مهمًّا، وفيهِ يُشير إلى بقاء الإرث المذهبي السابق حتى الآن، فيقول: "قراءة نصف سبع القرآن كل ليلة ما بين العشاءين، ثم قراءة النصف الآخر قبل الفجر، بحيث يتم ختم القرآن مرة كل أسبوع"، ويؤكد فرج مفلح على ارتباط هذه الطريقة بالأسلوب المعتزلي الذي يولي جلّ اهتمامه للقرآن الكريم، وأما عن رمزية المكان (المسجد)، فيضيف: "العناية الفائقة التي يوليها المعتزلة للقرآن الكريم وعلومه من جهة، ومن أخرى: لما أولاه معتزلة حضرموت للمسجد من أهمية كبيرة وتحويله إلى مدرسة جامعية لنشر الاعتزال وعلومه بين العامة، وهو الأمر الذي مكن من استمرار طريقة الإمام بافضل في إحياء هذا الورد إلى يومنا هذا". وفي سياق حديثه المتصل عن إخفاء الأخلاف لتراث الأسلاف ومذهبهم يضيف نقطة مهمة في هذا المحور، إذ يشير إلى أنّ تجاوزهم عن بعض الأمور، أو تمريرهم لها إنما جاء عن اعتقاد منهم بأنّ ذلك مرتبط بمذهبهم الحالي، أو على علاقة بأشعريتهم.
وأما جانب الزهد الحضرمي فيقول: "مدرسة الزهد الحضرمية المعاصرة لم تكن إلا امتدادًا لمدرسة الزهد الاباضي والمعتزلي التي سادت حضرموت حتى القرن العاشر الهجري. جاء فكرهم الزهدي خاليًا من أية مفاهيم أو رموز صوفية حتى في شكلها الجنيني المبكر، وهذا أمر طبيعي طالما أن المذهبين ينكران التصوف ويحاربانه باعتباره بدعة في الدين".
ونقلًا عن أبوبكر العدني بن علي المشهور حين ذِكره لشخصيتين بارزتيْن حتى الآن يقول: "إن التربية التي نشأ عليها هؤلاء الشيوخ، خاصة الفقيه المقدم والشيخ سعيد العمودي (من شيوخ القرن السابع هـ) جعلت تصوفهم تصوفًا خاصًّا. وهذا يؤكد تفرد مدرسة حضرموت عن غيرها من المدارس".
في ختام هذا المبحث، قد يقول قائل إن قولنا بإخفاء التراث الاباضي والمعتزلي لحضرموت واهم، أو إنه لم يكن هناك أكثر مما جاء، لكنني أسرد ما قاله سالم فرج مفلح في هذا الصدد، ففيه الكثير من الصحة المنطقية، يقول: "خلال رحلتنا من القرن الخامس حتى العاشر الهجري، كان لنا عدة لقاءات مع التراث المعتزلي، غير أننا لم نوفق في العثور على شيء من التراث الأباضي، سوى ما كان من ديوان الإمام أبي إسحاق الهمداني الذي حفظته لنا أباضية المغرب وعُمان، والقصيدة الرائية للفقيه ابن عقبة الهجراني". يبرر ذلك بما يلي: "التراث المعتزلي رغم استهدافه من قبل الأخلاف بالإخفاء والإفناء، إلا أنه ما يطبع ذلك التراث من عمق فكري وعقلي، مكن بعضه من الإفلات من محرقة النصوص لاستغلاقها عليهم، فتركوها وشأنها، أو أن تكون تلك النصوص هي اليوم جزء من التكوين الفكري والعقائدي للأخلاف أنفسهم، ولهذا أبقوها، ظانين أنها من أصول مذهبهم الأشعري"، ويوضح أنّ الاختفاء التام للتراث الاباضي جاء بسبب وضوح كتاباتهم مقارنة بالمعتزلة، فيقول: "غير أن الأمر ليس كذلك بالنسبة للتراث الأباضي، إذ أن هذا التراث يعتمد بشكل مباشر على الكتاب والسنة، ونسبة النظر والفكر فيه محدودة ومحكومة بهما، رغم تميز الأباضية بالثراء الفكري والاجتهاد، خاصة وأن الأباضية ينكرون أولوية العقل التي يقول بها المعتزلة، ولهذا فإن تراثهم لا بد أن تكون مذهبيته واضحة جلية، كان سهلًا على الأخلاف معرفته وتمييزه، ومن ثم إخفاؤه وإفناؤه".
إضافة لذلك، فإنّ الإشادة التي نالها علماء تريم، والمذبحة الأيوبية التي وثقتها المراجع وأكدت على أنها قتلت العلماء، والعقود التي قضاها الإمام بافضل في العراق في ذروة مرحلتها العلمية، ثم كتبه التي جاء بها على الإبل من العراق إلى حضرموت، وقصيدته الفكريّة التي تذكرها المراجع كلها. كل ذلك وغيره، يشكّل دلائل وثيقة على أنّ البيئة العلمية في حضرموت حينها لم يفُتها الاشتغال بالتأليف والتدوين. وماذا عن قصائد إبراهيم بن قيس الحضرمي؟ التي حين بقيت اتُهِم هو بأنه لا وجود له! لم يكن قولهم هذا إلا رغبة في استمرار التغييب، ورغبة في تسفيه المشكلة، وإنكار حجمها المهول. إنّه ادعاء يطعن -بالضرورة- في مدى علمية أولئك العلماء.
ولا يسعنا إنهاء الحديث في هذه المادة دون ذكرِ المؤرخ الحضرميّ الأمين، زارع بذور الشكّ الواجبة، والذي لم تفتهُ فجوات التاريخِ الحضرميّ، وحين لم تفته، لم يسكت عنها، بل كتبَ ونشر، إنه المؤرخ: (سعيد عوض باوزير). يقول عنه د. صالح علي عمر باصرّة في كتابه (دراسات في تاريخ حضرموت الحديث والمعاصر): "انتقى باوزير ثلاث شخصيات حضرمية هي: وائل بن حجر الحضرمي، والأشعث بن قيس الكندي، وعبد الله بن يحيى الكندي. ومن خلال هذه الشخصيات الثلاث عرض باوزير أهم ملامح تاريخ حضرموت في هذه الفترة الزمنية ومنها: دخول حضرموت في الإسلام، وحروب الردة، ومساهمة حضرموت في الفتوحات الإسلامية، ودور حضرموت في الصراع السياسي والمذهبي الذي شهدته دولة الخلافة الأموية، بل ومحاولة حضرموت نقل مركز الخلافة إلى مدينة شبام بدلًا من دمشق وتحت غطاء مذهبي جديد هو المذهب الإباضي".
يؤكد باصرّة هذا التميز الذي اتصف به باوزير في عملية التأريخ، يقول: "لقد دخل باوزير ميدان علم التاريخ وهو يدرك أنه سوف يصطدم بسجلات قديمة وحديثة وُضعت تحت مؤثرات عاطفية وعنصرية ومذهبية، أو وُضعت عن غفلة وسذاجة وحسن نية. ولكنه واجه هذه الصعوبة بخبرته كقاضٍ في محكمة العدل، فلقد تعامل مع السجلات بكل وقائعها كقاضٍ لا يعطي حكمه إلا بعد فحص ومقارنة وتدقيق".
ولكننا فقدنا باوزير قبل أن يُفقدنا الموتُ إيّاه، فقد توقف عن الكتابة في حقل التاريخ، يقول صاحب الكتاب سابق الذكر: "إن عدم استمرارية الكتابة التاريخية عند المرحوم باوزير تثير الاستغراب والتساؤل. إن سر توقف الباوزير في مجال تخصصه لا يعلمه إلا الله والباوزير نفسه". وباوزير أجاد وصف ذاتهِ وصدقَ فيهِ حين قال: "كنتُ أحد الذين رضوا لأنفسهم أن يكونوا من المغامرين بالنزول في هذا الميدان الشاقِّ غير الممهّد بما أقدمتُ عليه من محاولات سابقة في هذا السبيل".
ربما لم تكن المصادر خير معينٍ لنا في التنقيب والبحث عن فتراتٍ من تاريخ حضرموت، لكن جاءت القلة التي أزالت بعضًا من الغموض -جاءت- بقوّةٍ تشبه الوفرة، فكانت مثالًا على البعض حين يشمل الكل، ومثالًا على أنّ للكلمات -وإن قلّت- دورًا شديد الأهمية في توثيق الحوادث لذلك الزمن، وأوحت حروفها ببعدٍ تاريخيّ لا يمكن تجاوزه. أذكرُ هنا كلمة ابن يحيى الكنديّ حين همّ بإعلانِ ثورتهِ وخوضها واقعًا على الأرض، حين قال: "ما يحلّ لنا المقام على ما نرى، ولا يسعنا الصبرُ عليه"، تُظهر هذه الكلمة عزيمة الكنديّ، ورمزيته الخاصة، وتعودُ فتظهر حين نرى امتداد ثورته إلى صنعاء، حين حكم وعدل، ولم يسرق.
إنّ كلّ ما كُتب عن عبد الله بن يحيى الكِنديّ -معَ قلته لا كثرته- لن يستوفيَ كلمته تلك، لأنها: شرحتهُ. وثّقتهُ وعبّرت عنه. لأنها أظهرتِ الرغبةَ والسبب. تحدّثت عنه دون تقصير، كانت بكلّ المراجع التي دوّنت عنه.
وربما كان مصيرنا الأبديّ هو التمسك برفيعِ الكلم، مُختَصَرَهُ وشَامِلة؛ كـكلمةِ طالب الحقّ تلك. وأشعار إبراهيم ابن قيس التي لم تتركنا وحيدين أثناء العبورِ المظلم لتلك الممرات المهجورة، كلّ بيتٍ شعريّ له بمثابة ظلّ استراحةٍ من عناءِ البحث أحيانًا، بمثابة جدارٍ نستند عليه يحفّزنا لإكمال هذا المسير، بمثابة عصًا تتحسس الطريق حين يرغب صاحبها بالمغامرةِ والولوجِ في (تلك العتمة الباهرة).
إنّ العلاقة القُدسية والارتباط الخفيّ مع طالب الحق وابن قيس تتجاوز كلمة الأول وأشعار الأخير. إنها عودةٌ إلى الجذور، جذوركَ الأولى، أصلك، ماضيكَ الذي لا يكذب، الماضي المتصل.
لم يكن ابن يحيى بعيدًا عن الإنسان الحضرمي الحالي، بل هو قريب، وشبيهٌ به حدّ الموت، ابن يحيى الذي تجاوز تأثيره حدود بلاده -حضرموت- شهِدت أرض أخرى وفاته، وحضنت تربة أخرى جسده. ابن قيس الحضرمي الذي زانت حضرموت بأشعاره وزانت أشعاره بحضرموت لفظته هذه البلاد فيما بعد، تمامًا كما تفعل الآن، وحتى ديار المنفى لم تتغير كثيرًا، فقد كانت الهند، إحدى المهاجر الآن.
لم يتغير شيء، وصدقَ سالم فرج مفلح حين قال في مقدمة دراسته: "فانظر في حاضرك من داخله، ترى ماضيك".
المراجع
الكتب
- 1) حضرموت بين القرنين الرابع والحادي عشر للهجرة/العاشر والسابع عشر للميلاد بين الأباضية والمعتزلة (مشروع رؤية)، سالم فرج مفلح، دار حضرموت للدراسات والنشر، المكلا، ط1، 2006م.
- 2) جواهر تاريخ الأحقاف، محمد بن علي بن عوض باحنّان، دار المنهاج، ط1، 2008م.
- 3) إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (معجم: جغرافي-تاريخي-أدبي-اجتماعي)، عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف، دار المنهاج، ط1، 2005م.
- 4) دراسات في تاريخ حضرموت الحديث والمعاصر، د. صالح علي عمر باصرّة، دار امسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، ط1، 2001م.
- 5) موقف ابن رشد من الأشاعرة، ماهر بن عبد العزيز الشبل، تكوين للدراسات والأبحاث، ط1، 2017م.
رسائل جامعية
6) الصوفية في حضرموت (نشأتها، أصولها، آثارها.. عرض ونقد)، أمين بن أحمد بن عبد الله السعدي، دار التوحيد للنشر، الرياض، ط1، 2008م.
مقالات وأبحاث
- 7) قراءة لكتاب صفحات من تاريخ اباضية عمان حضرموت، صحيفة الأيام، سند بايعشوت.
- 8) الصراع القبلي في حضرموت في القرن الثالث الهجري، عبدالكريم محروس ميزان، العدد الخامس من مجلة حضرموت الثقافية.
كتب الكترونية
9) الحقيقة والمجاز في تاريخ الأباضية في اليمن والحجاز، سالم بن حمود بن شامس السيابي، 1980م.
مواقع
10) موقع تادارت، مركز الدراسات الإباضية، عبد الله بن يحيى بن عمر الكندي، أبو يحيى (طالب الحق).