الفنُّ الكنسيّ كثافةٌ وجذور

كثيرًا ما أسرني الفنّ الكنسـي. تحضرني الآن لحظات تأمّل تلك الرسومات، محاولة استيعاب شخوصها، حجمها، تنوعها، دقتها، جماليتها.  كنتُ أستمتع بالمشاهدة وحسب، أبحثُ أحيانًا إن بالغت اللوحة في شدي، وأحيانًا أخرى أعتمد على ما لدي منَ القليلِ منْ معلوماتٍ أوليّة. إنّ هذا الفن يحتّم وقوع الولع، ويزيد من حماسة المهتمّ بالبحث في جذور هذا الارتباط بين المسيحية والرسم على وجه التحديد. لكن، هذهِ المرة الأولى التي أحاول فيها ولوج هذا العالم، أن أعرفهُ أكثر، أعرفه بأعين من يؤمنون به، ومن ساهموا في ترسيخه حتى صار كالقرينة للمسيحية. لقد كانت رحلة مثيرة، لا تُملّ، كل معلومة تحيلُ لأخرى، كل دلالة يقف خلفها كم مهول من التراكمات المعرفيّة، لم ألتقط فيها كل الأبعاد والحوادث والتفاصيل، لكنها أكدت لي أنّ المعرفة جزءٌ أصيل من إعطاءِ الجمال حقّه.

في البداية، ولتقديمِ توضيحٍ موجز وبسيط، أذكر تعريف (مجلة معابر) الذي أوردته للأيقونة: "الأيقونة كلمة يونانية الأصل، تعني، حرفيًّا، صورة. وهي عبارة عن عمل فني ذو طابع ديني غالبًا ما يكون من أصول كنيسة أورثوذوكسية شرقية. وهي عادةً، صورة مسطحة تصور موضوعًا دينيًّا كالصليب والملائكة و/أو شخصية مقدسة كيسوع ومريم والقديسين".

ليس الفن -الرسم- قرينة الديانة المسيحية، بل ربما كان لكل ديانة -سماوية كانت أو مبتدعة- رسومها الخاصة. فالإسلام -فيما بعد- ارتبط بشكلٍ وثيق مع رسم الزخارف والنباتات والأشكال الهندسية، في حين ارتبطت المسيحية بالأرواح، وتدرجت في ذلك سواء على صعيد الشخوص أو الأمكنة، فرسمت البشـر منهم، ومن تعتقد فيهم الألوهية، وذلك في الأرض والسماء العاليّة. في المقابل، لم تكن بداية الأمر هيّنة كما يعتقد الأغلب، فقد رُفضت هذه الرسومات أحيانًا، ورُبطت بالوثنية من باب تحقيرها، ولوضع حد لتمادي من يعظمونها، وكانت "حرب الأيقونات" نتيجةً لهذا الرفضِ الذي ربما كان الرفضُ الإسلاميّ للرسم سببًا لها، وقد كانت من ورقات الرفض التي قام عليها الإصلاح البروتستانتي فيما بعد. قد يظن المشاهد العابر أنّ هذه الرسومات والأيقونات وُجدت بوجود المسيحية، وأن وجودها لم يُحدث بلبلة في الساحة العقائدية المسيحية، في حين أنّ العكس هو الواقعِ الذي لا يظهر كثيرًا. فلم تكن في بدايتها تمثل صورًا شكلية بشـرية بل كانت رموزًا غير بشرية، والفن المسيحي الروسي لا يشبه الأوروبي الغربي ولا القبطي المـصـري في بعض التفاصيل، فَحين يتمادى صُنّاع الفن الكنسي في أوروبا الغربية في تصوير الجسد والأعضاء، لا يفعل الأشقاء في الشرق -ونعني به روسيا- ذلك.

وحين طغت بوادر الإصلاح، وانفجرت ممثلة في الإصلاح الكنسـي الشهير (الأرثوذكسي/البروتستانتي) كان للفن هنا وجود مهم، فقد كان الإصلاح البروتستانتي قائمًا على دعائم عدة، وحجج جمة، منها مسألة الأيقونات وتقديسها، إذ رفض لوثر ذلك بشدة. في المقابل، تمسك رؤوس الأرثوذكسية بهذا التطرف الفني، واعتبروه علامة تمييزٍ لهم عن بقية الكنائس، وعدوه انتصارًا لهم: "هذا هو انتصار الأرثوذكسية برفع الأيقونات". لكنّ النظرة تختلف عند التماثيل المجسمة، فهي لم تكن محببة كما الأيقونات: "لا نقبل التماثيل، لأن التمثال يجسد ما هو مادي بالأبعاد الثلاثية (تجسيم)".

فالبروتستانت رفضوا تقديس الأيقونة، ومن أوجه هذا الرفض؛ أن مجلس هييريه المسيحي المعقود في عام 754م بدعوة من قسطنطين الخامس المعادي للأيقونات والذي عدّها تجديفًا في العقيدة المسيحية، هذا المجلس فقد شرعيته بعد انتصار الأيقونات، بينما بقيت بعض الكنائس البروتستانتية تؤيد وتؤكد شرعيته، وتستند عليها في موقفها الرافض للأيقونة. وحين كان يؤكد الطرف الآخر تمسكه بالأيقونات، كان يُرفق ذلك بتوضيح لا يفارق هذا الموقف، توضيح يُبعد عنه شبهة الوثنية، كما جاء في المجمع المسكوني السابع: "بإكرامها بالسجود احترامًا للذين صُوِّرت عليهم لا عبادة لهم لأن العبادة إنما تجب لله وحده دون غيره".


قسطنطين الخامس المعروف بمعاداته للأيقونة، والذي قال صراحةً: "لا يُمكن تصويره"



تبريرُ الفن

كما قُلنا، رُفضت الأيقونات في البداية، وكانت حديث رؤوس القوم، ولإيصال مدى الرفض نكرر ربطها بـالوثنية، لكن جاءت بعض الأصوات التي أضاءت الطريق أمام هذا الكم المهول من الرسومات، وتم تطويع الدين لإثبات ما يمكن تسميته بـ "وُجوبيّة الفن"، جاء في بحث (لاهوت الأيقونة والتمثال-ميلاد جبارة) ما يؤكد ذلك: "في العهد القديم، لم يكن الله قد ظهر للعيون، بل كان يظهر بأفعاله وأقواله وقيادته لمسيرة الشعب المختار إلى أرض الميعاد، لذلك حرمت الوصايا العشـر صُنع أي رسم أو منحوت لله بسبب الخوف من الوقوع في الوثنية. فالوثنية هي تصنيم وتأليه لأهواء البشر، الوثنية عبادة إله نحن خلقناه، ولكن إله الكتاب هو إله يكشف لنا ذاته كما هو وليس كما نظنه ونريده، فبعد تجسد المسيح (الله الرب ظهر لنا) صار ممكنًا أن نرسم للابن أيقونة لأننا رأيناه و"وجدناه".

لم تكن المسيحية في بداياتها وتوسعها معقلًا للفن كما الآن، إذ ارتبط تصوير الأيقونات بأنه يحمل توجهًا وثنيًا ورُفض بناء على ذلك، وما لبثت الأسباب التي تحببه وأحيانًا توجبه في التوافد سراعًا سراعًا، إذ آمن أتباع الديانة المسيحية بتجسّد الإله في البشر –تعالى الله عن ذلك- وذلك تحديدًا في سيدنا عيسى عليه السلام. يقول يوحنا الدمشقي: "في الحقبة القديمة لم يكن تصوير الله ممكنًا لأنه لم يكن اتخذ جسدًا، أما الآن، ظهر الله بالجسد وعايش البـشـر، فإنني أصور الله الذي يمكنني أن أراه، والذي أصبح مادة من أجلي. ولن أنقطع عن احترام المادة التي اكتمل بها خلاصي". هُنا علاقة متينة، تمّ ربطها بالإيمان لخلقِ هذه المتانة، فاللوحة الفنية أو الجدارية ليست فنًّا بذاتها وحسب، بل هي تجسيدٌ عَقَديّ، وتصوير للمصير الذي يرجوه المؤمن، فالأرثوذكسية تصفُ الأيقونة بأنها: "نافذة على الجنة". يؤكد الدمشقي ويقول: "الأيقونة تجتذب الأنظار وتجعل الحقيقة التي تمثلها أقرب إلينا، وأحب إلى عقولنا، وأعمق وأسرع وأبقى تأثيرًا في نفوسنا"؛ لأجل ذلك تمّ تحميل الأيقونات مهمة تشبه التبشير، تحديدًا في الأوساط الأمية، إذ مثّلت الأيقونات (الرسومات) بابًا إيمانيًّا مهمًّا لغير المتعلمين، وتمّ توظيف هذا البُعد لصالحها، فهي تقف مقام الكتاب للشخص القارئ، في حين تكفي اللوحة الأُمّيّ للإيمان، ولتعزيز هذا الإيمان وتثبيته.

وقد وضحت (مجلة معابر) عبر موقعها سبب الارتباط المسيحي بالأيقونات، بالرغم من وجود رفضٍ مسبقٍ لها، وموقف صارم تجاهها، فذَكَرت: "ولما كانت المسيحية منبثقة في الأصل من اليهودية التي تحرم التصوير، فإن الأيقونة أو الصورة إنما تعود إلى تأثر المسيحية بالديانات الأخرى التي ترعرعت في وسطها، مما أدى، من الناحية الثيولوجية، إلى تبريرها فيما بعد من قبل آباء الكنيسة في قرونها الأولى من منطلق الاعتقاد المسيحي القائل بتجسد الألوهية في المسيح، ما يعني تجاوز المنع الذي كان موجودًا في العهد القديم. يقول القديس باصيليوس الكبير: "إن التعبد أمام الأيقونة يتجاوزها إلى الأصل الذي تمثله". تجيء هنا لفظة "تبرير" فتوقع في النفس الشك، هل كان الدافع الأول لذلك جماليًّا أم إيمانيًّا؟! إنهما لا ينفصلان، البُعد الجمالي باعِثُها، وربما وُظّف الدين لخدمة الفن والفنان.


صورة تمثّل وقائع حرب الأيقونات


تأليهُ الفن

سعت الرسومات دائمًا لتمثيل شيءٍ لا إنسانيّ في سيدنا عيـسـى. إنها محاولة الدمج بين اللاهوت والناسوت، ربما لذلك كان يقف خلف أشهر فناني الرسم باباوات الكنيسة، فالغرض بالدرجة الأولى دينيّ. لذلك أيضًا نجد اللوحات التي ترسم سيدنا عيسى عليه السلام -تحيطه بـشـيء من الهالة، ليست الدائرة المستديرة المشعة وحسب، إذ نجدها لدى مريم العذراء، والقديسين، بل سموّها يفوق كلّ الشخوص وكل عناصر الصورة، حتى إنّ البابا كان يشترط على الرسام أنْ لا شيء يعلو جسد المسيح في اللوحة. هذه الكريستولوجية العالية في الرسومات تؤكد لنا اختصاص الكنيسة بهذا الفن، من هُنا كانت الكثافة حكرًا للمسيحية، ولأجل ذلك، وفي سبيله، تمازج الدينُ بالفنّ، والفنّ بالدين.

جاء في أحد شروحات أيقونة الميلاد -والتي رُسمت عدّة مرّات- أنّ "الحذاء الساقط عن القدم والذي يُشير للطبيعة الإلهية للسيد المسيح، فهو نادرًا ما يسير على الأرض! إن طبيعته البشـرية تظهر في القدم الأخرى حيث ترتدي القدم الأخرى الحذاء تمامًا على نحو مستقر". وأيضًا في حديثٍ مُجمل عن الأيقونات، يقول: "الأيقونات التي فيها الطفل الإلهي عريان تقريبًا بلا ثياب هي تهدف أن تؤكد أنه إنسان بشري وله ناسوت، إنسان كامل وهي تريد أن تؤكد على هذا المعنى بسبب أنه الوسيلة لعبور الخلاص إلينا". مرة أخرى، يمتزج الفن باللاهوت المسيحي الذي يقول بثنائية عيسـى عليه السلام، دوّن الفن وأكد رغبة الكنيسة بإثباتِ زعمها ألوهية وإنسانية المسيح، أو ما يدعونه بالطبيعة الواحدة، وذلك في تفاصيلٍ صغيرة في الرسومات إلّا أنها تجد طريقها لتعبر لأعمقِ الطرق، حتى تصل مرحلة الإيمان، وقد كان هذا هو المطلوب!

إنّ الرفض البروتستانتي للأيقونة إنما جاء من هذا الباب "التأليه"، فهم يُنكرون رفع منازل الأشخاص، فلا شفاعة عندهم لأنه لا وسيط بينهم وبين الله، حتى مريم العذراء، وحتى القديسين، لذلك تداخل هذا الرفض مع مفهوم الأيقونة، فهي تُحيط عناصرها بهالةِ القداسة والسماء، وتلعب الأيقونة دورًا بارزًا في طلب الشفاعة بما تضمه من شخصيات يُعتقد أنها ستكون بمثابة حبل الوصل بين العبد وربه، وما تحويه من رموز جمّة تدعّم هذا الظن، ومن يشاهد بدقة العَظَمة التي تحيط بكلّ جوانب أفراد الأيقونة، يُدرك الرغبة المستميتة في محاولة التأليه، ولا يتفق البروتستانت مع مفهوم الشفاعة، بل يرفضونه، ومن هُنا جاءت وتجمّعت أسباب الرفض الكلي للأيقونة والتي بدورها تُحتّم التأليه. لقد أدرك البروتستانت، وقبلهم من خاض "حرب الأيقونات" هذا البُعد التأليهي لمفهوم الأيقونة، فكان الانقسام الكنسي الشهير، وكان فيما بعد الإصلاح المسيحي الكبير.

لا أستطيع أن أصف مشاعري حين أرى تلك اللوحات، ولا أن أجد سببًا لهذا الارتباط، وهذه الرغبة التي تحثّني على الاستزادة، ولا أعرف تبريرًا صادقًا ومقبولًا، تسكتُ أمامه كُلّ الأطراف، وتقرّ به على مضض، إنهُ قولُ هيغل: 

"ذلك هو، على ما يقال، الهدف النهائي للفن، وذلك هو المفعول الذي يفترض فيه أن يسعى إلى الوصول إليه. لو نظرنا إلى الهدف النهائي للفن من المنظور الأخير، ولو تساءلنا بوجه الخصوص عن التأثير الذي يفترض فيه أن يمارسه، والذي يستطيع أن يمارسه فعلًا، للاحظنا أن مضمون الفن يحوي كل مضمون النفس والروح، وأن هدفه يكمن في الكشف للنفس عن كل ما هو جوهري وعظيم وسامٍ وجليل وحقيقيّ وكامن فيها. إنه يزودنا، من جهة أولى، بتجربة الحياة الواقعية، وينقلنا إلى مواقف لا نعرف شبيهًا لها في تجربتنا الشخصية. كما ينقل إلينا تجارب الأشخاص الذين يمثلهم؛ وبفضل مشاركتنا في ما يقع لهؤلاء الأشخاص نصبح، من الجهة الأخرى، قادرين على أن نحس إحساسًا أعمق بما يجري في داخلنا".

الفن فقط، الفن وحده، هو الذي أدخلني عوالمَ جديدة ومتشعّبة، عوالم لم أتصور يومًا أنني سأراها ببصيرتي قبل بـصـري، أو أن أَلين عندها، أن تميل نفسي لتقبّلها، وأن تفسح المجال لها حتى تعبر أمامي. لقد كان الفنّ خير رفيق، كصاحبٍ طيّب، يحبّ أن يستمع ويفهم، أن يجد الأعذار لك، وكما عَبَرَت تلك اللوحات أمامك يجعلكَ تعبرُ أنتَ أيضًا أَمامَها، هوَ يعرف مقدار صعوبة ذلك فيهوّن عليك، هيغل مرة أخرى، سيُحسن الوصف:

 "هكذا يُعلِم الفن للإنسان عن الإنساني، يوقظ مشاعر راقدة، يضعنا في حضـرة اهتمامات الروح الحقيقية. هكذا نرى الفن يفعل فعله من خلال تحريكه جميع المشاعر التي تجيش في النفس الإنسانية، في عمقها وغناها وتنوعها، وبدمجه كل ما يجري في المناطق الباطنة من النفس في حقل تجربتنا".