في القولِ والفعل.. نظرةٌ على موروثِ حضرموتَ الشعبيّ
يُعلمنا (الموروث الشعبي) أنّ خلف كلّ كلمة نقولها تاريخ طويل، وارتباطٌ متين بالأرض، فهو بوابتنا لعبور ثقافة الوطن، وانتماءات الشعوب الدينية والثقافية، ومرجعياتهم على مدّ تنوعها وغرابتها -قياسًا على واقعنا الحالي، من خلاله نُبصر المعروفَ المجهول، وبواسطته ندرك أسرار الأرض، وجوهر كلّ فعل. فوراء كل سلوك تجذّر لعادات موغلة في القدم، عادات ومعارف تجاهلتها كتب التاريخ لكنها اختلست طريقها إلينا في كلمة، أو حكاية، أو قصيدة، أو مثل وتعبير، أو رقصة وحركة، أو أغنية ولحن.
هكذا هو الموروث الشعبي. يجيء بحضور يليق به، عميقٌ وكثيف حتى رغم بساطة قالبهِ، قدومٌ يلفتُ الانتباه، ويشدّ الألباب، ويندهُ في النفس صوتَها القديم، وجودها الأوّل، ورغبتها في الاستمرار، رغبتها في أن تبقى في تفاصيل حياتنا، وما أثمنَ هذا البقاء.
واحديّة المفهوم تؤلّف بين مختلف التسميات
ليس غريبًا أن تختص كل جماعة بشرية بسلوك/ممارسات/معتقدات (قولية وفعلية)، وليس كثيرًا أن يكون خلف بعض السلوكيات الآن ماضٍ قديم، وعلاقة ارتباط تحتاج أن يُعلن عنها فقط، وإلا فهيَ مُعاشة، تحتاج أن نؤمن بوجودها، دون أن ننكر ما نحنُ عليه الآن. حين نتحدث عن ممارسات تمسّ المعتقد الإيماني السابق للديانة الحالية يبدو هذا الحديث ثقيلًا على مسامعهم، حتى إن كانوا ما يزالون يمارسون نفس العادة، مع تحوّلها من طقسٍ دينيّ إلى تراث مجتمعيّ. يظهر هذا بصورة جليّة على حيوان (الوعل) وعلاقته بالإنسان الحضرمي وهو ما سنخصص عنه الحديث فيما بعد. هذه الممارسات شاهدة على حضارة سابقة، وعلى وجودٍ فريد، وعلى ماضٍ لا يبدو أنه عابر، وتذكرنا أنّ ثقافة الإنسان عبارة عن تراكمات قديمة، وكما يقول د. عبد الوهاب المسيري: "فالإنسان ظاهرة مركبة إلى أقصى حد"، بالضبط هذا ما نحتاجه! أن نتجاوز قوالبنا الجاهزة، وتفسيرات أفعالنا المبسطة والسطحية، التي تنفر من الغوص في أعماق إنساننا السابق خوفًا من الوصول لنقطة لا نريد سماعها. فحضورنا الحاليّ بكلّ تفاصيله يدعّم ما ذهب إليه المسيري.
هذه الأشياء مجموعة، والموجودة في "التفاصيل" يُطلق عليها: "الموروث الشعبي"، ومن المسميات أو المرادفات التي أوردها د. إبراهيم أبو طالب عن الموروث الشعبي ما يلي: "فقد تعددت المصطلحات الدالة على ذلك الميدان العلمي وتنوعت كترجمة لمصطلح "الفولكلور" فكان منها مثلا: (حكمة الشعب، وعلم الشعب)، ومنها ما عبَّر عن مضمونه ومجال اهتمامه مادة وعلمًا مثل: (المأثورات الشعبية) وهو المصطلح الذي اعتمده مجمع اللغة العربية، وكذا (الفنون الشعبية)، و(الأدب الشعبي)، و(الموروثات الشعبية)، و(التراث الشعبي)".
ومن تعريفات الفولكلور المميزة والتي تشير للنقلة في حالة الشعب من مرحلة أفرزت هذا الموروث إلى مرحلة التعايش معه/نسيانه/الخجل منه، يقول: "الفولكلور هو بقايا القديم، وثقافة ما قبل التمدين، أو "الموروثات الثقافية" في بيئة المدينة الحديثة". كذلك جاء في تعريفٍ آخر: "المأثورات الروحية الشعبية، وبصفة خاصة التراث الشفوي، وهو أيضًا العلم الذي يَدرس هذه المأثورات".
وعن حضور هذا المعنى (مع غياب ذات المصطلح قديمًا) نذكر هنا قول القلقشندي في كتابهِ (صبح الأعشى) عن مصطلح "الأوابد" الذي أشارت إليه (هيام الملقي) كـمُقابل لمصطلح الفولكلور، يقول: "أمورٌ كانت للعرب في الجاهلية بعضها يجري مجرى الديانات وبعضها يجري مجرى الاصطلاحات وبعضها يجري مجرى الخرافات".
•ومما جاء في معجم المعاني عن معنى "أوابد" ما يلي:
• (أوَابِدُ الكَلاَمِ: غَرَائِبُهُ
•أوَابِدُ الدُّنْيا السَّبْعُ: خَوارِقُها وَعَجائِبُهَا
•كَانَتْ لِلْعَرَبِ أوَابِدُ: الدَّوَاهِي، أيْ مَا حَمَى اللَّهُ بِهِ الدِّينَ وَحَذَّرَ عَنْهُ الْمُؤْمِنِينَ)
الأمثال الحضرميّة كأنموذج للتراث الشفهي
يمتاز الموروث الشعبي بمرونةٍ لا تتيحها نماذج ثقافية أخرى وهي التي تتسم بصرامة القالب وضرورة تفوق القائل ونخبوية المتلقي، بينما يتيح الموروث الشعبي حرية النقل والإضافة بل حتى تغيير القالب، لأن الهدف هو نقل المضمون، أن يبقى حاضرًا في وجدان الأجيال، وتعقيد مسار الوصول لن يتيح للموروث البقاء. وهذه المرونة التي يتمتع بها الموروث الشعبي تساعد القائل والفاعل على تشكيله وفقًا لذائقته وخلفيته المعرفية، وذلك بالطبع دون المساس بجوهر القول أو الفعل، يبدو هذا واضحًا في القصة والأسطورة والرقصة، فالتراث يتيح للعنصر الفرد إظهار ذاته، وفي هذا يقول د. إبراهيم أبو طالب: "ولما كان الفولكلور يجري في الذاكرة والفعل والتراث الشفوي، فمن الطبيعي ألّا يتخذ شكلًا ثابتًا، فهو بالأحرى نماذج تقريبية يعتورها التغيير من وقت إلى آخر في نفس الجماعة، أو بواسطة الشخص نفسه".
كانت (عمتي فايزة العَمودي) مصدرًا أوليًّا في عملية جمعي للأمثال الحضرميّة، إلا أنها كانت تضيف لي بين فينة وأخرى معتقدات شعبية، كهذا المعتقد الذي استذكرَتْه من والدتها حين شاهدته: "كناسة الليل تكنس الرزق" وكذلك أقوال، وحكم ورثتها عن السابقين. وَسْطَ هذهِ المادة التي تنقلها لي شفويًّا كانت تشير بأنها ربما زادت كلمة من عندها، أو غيرت لفظًا، وفي نفس الوقت تؤكد لي أنّ المعنى بقيَ كما هو، لم تغيره كلمتها المضافة، أو صياغتها المختلفة له. وهذا ما عنيته بمرونة الموروث الشعبي. يقول د. إبراهيم أبو طالب: "ومن هنا يستمد مفهوم الشعبي دلالة أعمق على البقاء والتأصيل والحرية في التداول والإضافة للفن القولي الشفاهي التلقائي الذي ينتقل عبر الأجيال بحريَّة يرفض القيود، وبخلود يستعصي على الفناء والموت، وهو تعبير عن علاقة الإنسان بالإنسان وبالطبيعة من حوله معبِّرًا بهذا الأدب عن أحاسيسه وتجاربه وإبداعاته المتنوعة نثرًا وشعرًا".
نظرةٌ على المتشابهِ الحضرميّ مع العربيّ
في هذا السياق، من المثمر الإشارة إلى التشابه الحاصل في الثقافة العربية، يحيلنا هذا لواحدية الموروث الثقافي (ربما في جزء منه)، وللأسس المشتركة بين هذه الأوطان الممتدة، ويظهر ذلك جليا في الأمثلة والحِكم، حيث أنك تجد مُقابل شعبي أو بالفصحى للمثل الذي تنتجه لك بيئتك المحلية.
من المتشابهات التي لحظتها أثناء عملية جمعي من المصادر المباشرة، وخلال بحثي، قولنا في (دوعن حضرموت): "إلقِي الحَميِّر عند الفرس إمّا تعلّم وِلّا درس" ويُقال: "قرِّب الحمار من الردهة ولا تَقُلْ لهُ سَاء"، ونحنُ نقول أيضًا في معنى مشابه آخر: "رُوّها الما ولا ادُّرّها"، أي: أرِها –الدابة- مكان الماء دون أن تجبرها عليه.
وفي المعنى العام المتشابه أذكر قولنا في حضرموت: "كُل كِسْب يِوَافِق دُون كِسب الذنوب" (يستخدم تعبير "يوافق" كمرادف لـ "مفيد")، ويُقال: "الإثم حزَّازُ القلوب".
ويُقال: "القَرنبى في عين أمها حسنة"، ونقولُ نحن: "كُلًّا بشكله يِطرَب حتى الحَنَشْ والعقربْ" (الحنش هي الأفعى).
ومن المتشابهات أيضًا فيما يتعلق باللسان والكلام، يقال (حكمة): "من غلبت عليه شهوة الكلام تصرفت فيه ألسنة الملام"، ونقول في حضرموت: "يا لساني قَعِي حصاني"، وكذلك: "اللسان عطب الإنسان".
ويُقال في منح الغريب دون القريب: "غَمامُ أرضٍ جادَ آخرين" ويُضرب لمن يُعطي الأباعد ويترك الأقارب، ونقول في حضرموت: "مَاحد يِلْقِي سقايةْ وأهل بيته ظما".
وعن معرفة الصديق الحقيقي من خلال المواقف يقال: "عند النازلة تعرفُ أخاك"، أما في دُوعن_حضرموت فنقول: "لَك تِشرق بريقك، تشوف عدوّك من صديقك" والمعنى العام، هو أنك حين (تشرق) سترى حقيقة من حولك إن كانوا حقًا أصدقاء ومحبين أم أنّ في جوهرهم الدفين عداء لك، وأيضًا نقول: "صاحبك في الضيق، مَا اِصحاب الوسع واجدين".
وهُناك حكمة من مقطعـيْن: "العِثارُ مع الإكثار والزَّلَلُ مع العَجَل"، فمن المقطع الأول أتذكر قولًا حضرميًّا مشابهًا وهو: "من بغا كُلّهْ فَاتهْ كُلّهْ"، ونعني من خلاله أنّ رغبة المرء في السيطرة على كل شيء ستجعلهُ يفقد كل شيء. أما من المقطع الثاني فيحضرني قولنا التالي: "الراضةْ من الرحمن والعجلةْ من الشيطان"، والراضه تعبير حضرمي يعني الهدوء في العمل/عدم الإسراع، ومنهُ وصفنا للشخص بأنه "رَيِّض" أي أنّ سكينته هادئة.
وتقديرًا مني للجهد الذي بذلته في جمع الأمثلة، وتقديرًا وامتنانًا لمن شاركوني هذه الأمثلة، واستحضروا قيمة التراث الشفوي حين رغبوا بتوثيقه دون أن يعبر كما يعبر عادة. عبورُا سيفضي في يومٍ من الأيام إلى النسيان، لأجل ذلك؛ أدوّن هنا بعضًا مما جمعته دون ذكر تشابه عربيّ.
- "يا باحث الحفرة لا تغوّط شراقيها، خافك تقع فيها" المعنى العام دعوةٌ للشخص الذي يحفر حفر الشرّ وتصيد الأخطاء بعدم الإيغال في الحفر، لأنه قد يكون هو ضحيتها.
- "كُل صغَيّر رحمة إلا صغيّر القُرُص" (رَحْمَةْ) تعبير حضرمي يُطلق في المجمل على استلطاف ومحبة الطرف المقابل، (القُرُص) هو الخبز صغير الحجم، وهكذا يكون المعنى العام أنّ كل مخلوق وكل جماد صغيرٌ حجمه يكون رحمة ونتودد له إلا الخبز الصغير، فلا أحد يحب أن يقلّ طعامه.
- "يا ولدي قَع صقر قبل ما تلفحك الصقور" (قَع) تعني هنا: "كُنْ"، والمعنى العام: كن صقرًا قبل أن تقضي عليك الصقور.
- "كُل أرض اِرمها بحجرها" أي تعامل مع كل جنس وفئة على حسب نمطها وعاداتها.
- "با نيّة طاق با نيتين" أي أن الطيب صاحب النية الواحدة غلب الشرير صاحب النيتين.
- "رِزق المحاريم للمغاريم" (مغروم) تعني المجنون في لهجة حضرموت، والمعنى العام: من يحرم نفسه من رزقه سيذهب في يوم من الأيام للمجانين، ولن يستفيد حينها من تخبئته للمال وحرمان نفسه.
- "وَصِّي الولد ما الوالد معنّى" المعنى العام: وصي الأبناء على البر بالوالدين، وليس الآباء لأنهم يقومون بالتربية والبر بأبنائهم بشكلٍ فطريّ.
- "لُومَا الغيرةْ ما حبلت عيشه خميره" المعنى العام: أنّ الدافع الذي جعل (عيشه خميره) تحمل هو الغيرة فقط.
- "مِنْ مَا جَا مَعَك، صِرّ مَعُه"، قد تكون هذه حكمة، ومعناها توجيه الفرد لأن يكون ليّنًا مرنًا في تعامله مع الأشخاص، وتدعو للدبلوماسية في التعامل مع المحيط العام.
- "مِن كِثْروا حِبَّاهْ كَلَوا عشاه" يعني أنّ الشخص الذي لديه أحباب كُثر سيقللون من عشائه وطعامه، ذلك أنه سيستضيفهم في بيته بشكل دائم.
- "الكَلَحْ في الوجه ولا تِمِغّاص في البطن" المعنى العام: تعامل بشكل صريح مع الناس وأخبرهم بما يزعجك حتى أمام وجههم، لأنّ ذلك أفضل من أن تخبئ الحزن في الصدر ما يولد مغص البطن.
- "لا معك غداك، لا تفَسِّر من عشاك" (لا الأولى) في لهجة حضرموت تجيء بمعنى إذا، (تفسر) تعني هنا تقلق، ومعناه العام يصب في التوكل على الله سبحانه وتعالى، فمن يسر لك الأول سييسر لك الثاني. وفي مقال آخر مشابه نقول: "ادخل البحر وقُل يا نية" وفيه إشارة لمدى توكل القائل وحسن ظنه بالله تعالى.
- "بيّتوها جمر تصبح رماد" أي أن المشاكل المشتعلة مهما كانت مهولة ستحولُ إلى رماد حين يمر عليها الوقت.
- وعن قيمة الجار نقول: "جارك القريب خِير من خُوك البعيد" وَ"دُوِّر للجار قبل الدار".
- "علِّم بلّم في المتبلّم يصبح ناسي"، أي أن بعض الأشخاص لا طائل من تكرار التعليم عليهم، فهو لا يثمر فيهم أبدًا.
- "جيت بعلّمك سِيرتي، ضيّعت سيرتي مع سيرة الحمام"، يُضرب للشخص الذي ذهب ليُحسّن من سلوك/تصرف شخص آخر فنسي سلوكه الأصلي.
- "كلمة قَطْبَتْ عشرة" حين تزن الكلمة الواحدة الخطب الطويلة نقول هذا القول لصاحبها، وفي مقام الكلمة نقول أيضًا: :الأوّلَهْ (الأولى) بنت النبي، والتاليةْ بنت إبليس"، وفيه نعني ضرورة عدم الرجوع عن الكلمة الأولى التي يقولها الشخص.
- وفي تقدير طلب الحاجة، واستدراك حالة الطلب وحرجها نقول: "اِنْطُه (أعطِهِ) طالِبُهْ ولا شاربه".
- وفي جبر الخواطر نقول: "دخلت دار العدوّ عشان الصديق".
- "ساعة من غنيّ، وِغْنَتْ" الغنيّ هو الله تعالى، وفي ذلك إشارة إلى أنّ الرزق الذي يُنزله الله حتى إن كانت مدة نزوله فقط "ساعة" فإنه يُغني العبد، كلحظات نزول المطر.
الوَعل.. من طقسٍ دينيّ إلى عُرفٍ اجتماعيّ
يقول مرسيا إلياد نقلًا عن د. نديم نجدي في كتابه عن الاستشراق: "كل ثقافة تتكون في النهاية من سلسلة من التفسيرات والتقويمات المستجدة لأساطيرها، أو لأيديلوجيتها المخصوصة حيث لا توحي الأسطورة بالوهم، بل تعبّر عن الحقيقة بلا منازع، لأنها لا تتحدث إلا عن واقع الحياة". تزورنا هنا علاقة الإنسان الحضرميّ بحيوان الوعل، وحضوره في تفاصيل كثيرٍ من حياته، بداية من احترامهِ وهيبته في نفوسهم، مرورًا برمزيته التي تضفيها قصنهُ على القانص، وما يلي ذلك من طقوس احتفالية طويلة.
يحظى حيوان الوعل، برمزيّة خاصة عند الحضارم، بل تطال هذه الرمزية من يقوم باصطياده (قنصه)، وأسوق هنا تعريفًا سريعًا عن هذا الحيوان نقلًا عن (محمد عوض منصور باعليان) في مادتهِ المنشورة بعنوان: ((أسلحة صيد الوعل ووسائله في حضرموت في ضوء المعطيات الأثرية والنقشية)): "والوعل، بعين ساكنة أو مكسورة أو مضمومة هو (تيس الجبل)، والجمع أوعال ووعول، والأنثى وَعِلَة بفتح الواو وكسر العين، والوعلة: المكان المرتفع والمنيع من الجبل، يقال توعل الرجل إذا صعد الجبل واتخذ مكانًا منيعًا. ذُكر الوعل في نقوش المسند بالاسم نفسه في صيغة المفرد (وعل) وصيغة الجمع (أوعل). كما جاء ذكر الوعل في سفر التوراة باسم الآيل وصفة (تيس الجبل) ضمن مجموعة البهائم التي يؤكل لحمها منها البقر والمعز والضان والظباء. وينتمي الوعل المعروف في العربية الجنوبية إلى فصيلة الوعل النوبي، أو ما يُعرف بالماعز البري أو تيس الجبل".
والتساؤلات حول قدم عادة قنص الوعل في حضرموت ليست وليدة اليوم، والاعتقاد بارتباطها بطقوس دينية ليس حديثًا عبثيًا، بل إنّ الدلالات لتقف مع هذا الاعتقاد، حيث جاء في مادة باعليان: "كان يمارس بهدف الاستسقاء، وربما كان تقديم الوعل أو الحيوانات المصادة كقربان للمعبودات من الشعائر الدينية التي يؤديها ملوك جنوب الجزيرة العربية سنويًا طلبًا لهطول الغيث في أوقات الجفاف". وفي موضع آخر: "كما نحتت صور الوعول على تاج عمود حجري من حصن العر الواقع شرق تريم والمؤرخ بين القرن الأول والثالث الميلادي. ولا شك أن تلك المنحوتات تعكس أهمية الوعل ومكانته في الحياة الدينية في حضرموت القديمة بوصفه رمزًا لمعبودهم الرئيس سين".
الآلهة في حضرموت
بالرجوع إلى أصل المعبود في ديانة حضرموت القديمة نجد أنه ينطوي تحت ما يُعرف بـ "الثالوث الكوني" المتمثّل في القمر والشمس والزهرة، ومع الإشارة إلى أن الإله القومي والحامي لحضرموت حينها كان "سين" والذي يرمز للقمر فإن التمثيل له والذي سيخطر على ذهن بشر تلك الأزمنة رغبة منهم في خلق تماثل شكلي سيكون على هيئة رموز حيوانية. وهنا يأتي "الوعل" بقرنيهِ الشامخين، والتي ما زالت دلالتهما جليّة في المجتمع الحضرمي حتى يومنا هذا.
كان الإله "سين" والذي يشير إلى القمر هو الإله القومي في حضرموت، يليه الإله "حول"، حيث يرمز للمرور الوقتي خلال السنة، وقد احتلّ منزلة رفيعة في مجمع الآلهة الحضرمي، فهو يأتي بعد الإله "سين" ومن المثمر الإشارة إلى أنّ رمزية الإلهين ما زالت حاضرة في نفوس الحضارمة مع التأكيد والتشديد أنها جُردت من جوهرها الديني، لكنّ حضورها حتى الآن، واستمرارها في الأحاديث يدل على ماضٍ قديم، ماضٍ قُدسيّ، يرفض الزوال الكليّ، هذا اللا انمساخ يعود لخصوصية هذا التاريخ، وارتباطه بالديانة القومية لمملكة حضرموت قديمًا، أسوق هنا أبرز مثاليْن على هذا الحضور، حين يكرر الحضارمة القولين التاليين: "يَا سِين يَا سِين" / "يَا سِين عليك" وَ "حول يا حول".
معلومٌ للقارئ الآن أنّ خلفية القوليْن تشير لمرجعيّة دينيّة موغلة في القدم، فالأول يُقال في الغالب للأطفال، وأيضًا في سياق مدح الشخص، والثناء عليهِ، أو في المقام الذي يناسب قولنا الآن: "حافظ عليه" حافظ إشارة للحفيظ الله سبحانه وتعالى، بينما "سين" إشارة للإله سين استنادًا على الموروث الديني القديم لحضرموت، بينما يأتي ذكر "حول يا حول" حين نزول المطر، ونقلًا عن دراسة جمال محمد ناصر عوض الحسني في توضيح ما هية (حول) يقول: "وطبيعة الإله حول، فهو إله قمري، ويذكر Ryckmans. G أن حول يعني "الدائر المتحول نسبة إلى مروره بمراحل اكتماله من هلال إلى قمر والعكس"، ويذكر Jamme. A بأن الاسم هو مصطلح يعبر عن السنة كاملة، (حول)، يُكمل باعليان ويقول: "ويظهر أن (حول) له علاقة بالقمر وحساب الزمن، وبذلك يتضح أن لفظة (حول) تعني السنة كاملة، وهو رأي أتفق فيه بما جاء عند Jamme. A خاصة وأن حساب الزمن كان بواسطة القمر".
وعن خصوصيته يُكمل: "ومن خلال النقوش القليلة التي ذكرت الإله حول يبدو أنه كان إلهًا رئيسيًا في ديانة حضرموت القديمة، وتأتي مكانته بعد الإله سين، وذلك منذ القرن السابع قبل الميلاد، كما تدل النقوش الإهدائية للإله حول في مدن وادي حضرموت" وكيف لا وقد قُدمت له الإهداءات كما الإله سين، إذ تشير إحدى النقوش إلى تقديم الإهداء للإلهين سين وحول، وذلك في معبد أليم في شبوة (باعتبارها عاصمة حضرموت قديمًا)، ويضيف الحسني في دراسته: "ولكن أعمال المسح الأثري التي قامت لها البعثة الأثرية الفرنسية عام 1978-1979م، دلت على بعض المعابد التي خصصت للإله حول، منها:
- معبد في مدينة حريضة
- معبد في مدينة تريم
كما أن البعثة اليمنية السوفيتية، بيّنت معبدًا له في مدينة ريبون، وأثناء قيام البعثة الأثرية الفرنسية بأعمال التنقيب الأثري بمدينة مكينون، تم التعرف على معبد على سفح جبل في وادي جب، وقد عثر على عدد من النقوش فيه، ويذكر أحدها اسم الإله حول".
لا تنتهي الحفاوة بقنص الوعل.. بل ما زال للقصةِ "طقوس"
الحديث عن الوعل يُفضي بنا لذكر طقوس صيده (الما قبل والما بعد) وأسوقُ هذا الوصف نقلًا عن مصدرين مباشرين (محمّد عْبُود العمودي) و(صالح بايوني العمودي):
في حال نجحت عملية الصيد تكون العودة للوادي محفوفة بالزامل والشعر وإشهار الأمر، فينزلون للوادي ويُرسل أصحاب الصيد مرسولًا للشيخ المنصب، منصب البلاد، برفقته رجل الوعل ليخبره كم عدد صيدهم، ثم يبيتون في مكانٍ يُطلق عليه "كريف القنيص"، وحين يطلع الصبح يأتون للجُول (هضبة) و"يهوكون (الهوك عادة حضرمية يقومون فيها بوضع الأيدي فوق رأس العروس ويقولون زاملًا شعريًا بطريقة صوت محددة) ويضربون ويعشرون (بالسلاح)" ثم ينزلون لما يُعرف بـ "الرَّحَبَه" وهي مجرى السيل ويجلسون عند (علب القنيص) برفقة أهل البلاد وبالأخص من له باع ومعرفة في القنيص ويستريحون للأكل. ثم "يطلعون في زامل وشعر عن القناصة والقنيص" لِحِين وصولهم للمصنعة التي يستقر بها المنصب الشيخ، ويأتون وصر الشيخ، ثم يقوم أحد القناصين –تمّ اختياره بشكل مسبق- ويُعتبر من "العُقَّال" ويحكي قصة القنيص بدءًا من ذهابهم وتركهم البلاد ومرورًا بوقائع القنص وأيامهِ الطوال، حتى عودتهم ونجاح قنيصهم.
وفي هذه الأثناء يقومون بإظهار صيدهم مع قرني الوعل، وتسمى الحلقات التي فيه بـ"العجر" وقد تصل لثلاثين وأربعين، يُطلق على صاحبها الذي قنصها: "حامل عشرين" أو "حامل ثلاثين" وهكذا. تنتهي طقوس الاحتفال بأن يضع صاحب الصيد قرني الوعل على داره، والبعض يضع جزءًا من جلد الوعل أسفل بندقيته "كرسي البندق". أما في حال لم تنجح عملية القنص فيعودون للمنزل بهدوءٍ تام، ويفضلون ظلام الليل رغبة منهم في ألّا يراهم أحد، وألّا يروا أحدًا هم أيضَا.
يقول شهاب الأهدل: "وطوال أكثر من عشرة ألف عام واصل الصيادون الحضارم بدون انقطاع أداء الطقوس المرتبطة بصيد الوعول حتى يومنا هذا. حيث يحمل الصياد الذي نجح في اصطياد الوعل رأس فريسته قرب بطنه، ويطوف به مساحة صغيرة من الأرض برفقة شخصين أو ثلاثة أشخاص في خطوات سريعة ومتقاربة على إيقاع رقصة الشرح، في حين يقوم البقية بتشكيل صفوف تحيط الراقصين، اليوم يعتقد العلماء أنها نفس الرقصة التي رقصها أجدادنا منذ العصر الحجري. وكما هي اليوم يتضح أن طقوس رقصة الوعل لم تكن تحدث في السابق إلا في حدث محدد يتم الاحتفال به، وهو موسم صيد الوعل. أو حين يذبح الوعل ليتم تناوله في الأعراس والمناسبات".
لا نستطيع -وليس عدلًا- أن نفصل كل هذه المعطيات، عن سياقها الحضاري القديم، لن يكون ذلك منطقيًّا، فالاستعداد للذهاب للصيد، والمدة التي يقضونها، ثم احتفال العودة الذي يستمر طويلًا، وتتخلله ممارسات عديدة، على رأسها الرقص والشعر، وتمثيل مشهد القنص أمام وجهاء البلاد وحضور الاحتفال من قبل أًصحاب القنيص، ثم الاحتفاء بمن قاموا بالقنص، وتبجيل هذا الفعل، وتحديد أوقاته في السنة، ووضع مَقادمة (مسؤولين) له، وختامًا تقدير القرنين، ووضعها واجهة للمنزل، بل حتى جلد الوعل حين يزيّن بندقية القانص، وفي المقابل العودة بصمت وسكون حين لا تنجح عملية القنص-مع التأكيد أنها طقوس تُمارس فقط للوعل دون غيره.
كل ذلك يُحيلنا لواقعية قديمة، لطقوسٍ امتدّت حتى الآن لكنّ المعتقد تبدل والتسمية تبعًا له تغيّرت. لكنّه الوعل في هيبته وسكينته ووقوفه على مرتفعات الجبال يأبى الاندثار، إنّها رمزيته التي دفعتني للكتابة، صورته المهيبة وحضوره الطاغي. يبقى الوعل رفيقُ حضرموت، ورفيق الحضارمة الذين -وحدهم- من يستطيعون أن يهبّوا لنجدته، ويحولوا دون انقراضه، إننا في مطالبات الحدّ من التعدّي على حيوان الوعل، نخاطب الإنسان الحضرميّ، نندهُ فيه ماضيه القديم، ليتجسد أمامه حضارةً معاشةً في التفاصيل، نخاطبُ هذا الإنسان لأنه وحدهُ من سيدرك قيمة ذاته، التي ارتبطت في السابق بالوعل وهو من سيعي صِدقية هذا الطلب وخلفيته المهمة، وكما قال جورج زيناتي عند حديثه عن نيتشه: "الحياة عودة مستمرة، وتجدد لصور قديمة، وهذا التكرار يحدث عشرات المرات بل مئات المرات، وهو يحدث بفرح ولا مبالاة، وهذا ما يسميه نيتشه براءة الصيرورة".
المراجع:
- في الأدب الشعبي فنون ونماذج يمنية، د. إبراهيم أبو طالب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2019م.
- معجم المعاني الإلكتروني.
- فوائد الخرائد في الأمثال، أبي يعقوب يوسف بن طاهر الخويي، تحقيق: د. عبد الرزاق حسين، نادي المنطقة الشرقية الأدبي بالدمام.
- مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، أسلحة صيد الوعل ووسائله في حضرموت في ضوء المعطيات الأثرية والنقشية، محمد عوض منصور باعليان، جامعة عدن، 2021م.
- الإله سين في ديانة حضرموت القديمة دراسة من خلال النقوش والآثار، جمال محمد ناصر عوض الحسني، جامعة عدن، 2006م.
- مجلة المدنية، يمن ما قبل التاريخ: الإرث الثقافي للعصر الحجري في اليمن/الجزء الرابع، شهاب الأهدل، 2018م.
- أثر الاستشراق في الفكر العربي المعاصر عند إدوارد سعيد-حسين حنفي-عبد الله العروي، د. نديم نجدي، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى 2005م.