برلين في عيونه الدرعميَّة

في معظم الروايات التي نقرأها، وبصورةٍ تقليديّة لا إرادية، نعرف أن الكاتب قد اختلق شخصية ما، تعبّر عمَّا في داخله من أفكار يرغب بإيصالها، أو ربما يعبر فيها عن نقاده من الناس!

نتخيل هذه الشخصية ونتقمصها معه ونعيشُ منسجمين مع الأحداث، ربما نصدق ما يقول وربما نكذبه ونرفضه، وينشأ في داخلنا حوار عن هذه الشخصيات، هل كانت على حقٍّ في هذا؟ لو كنتُ مكانها ماذا سأفعل؟ لماذا أحببتها وتعاطفت مع إحداها، وكرهتُ أخرى؟

والروائي العبقري وحده من يخلق فيك هذا الانسجام، فتنشأ تلك العاصفة في رأسك نتيجة لتلك الأفكار.

لكن مهلًا، مهلاً! السيرة الروائية التي أتحدثُ عنها الآن، شخصياتُها لم تكن مُختلقة، أو وهمية، بل إن بطلها أمسك القلم، ودوّن كل شيء، كل شيء، بصدق، وكم هو نادرٌ هذا الصدق!

قبل هذا العنوان كنتُ سأكتب "برلين في عيونٍ درعميَّة" لكنني كرهتُ أن تكون العيون غير معرّفة!

فالصورة التي تنغمسُ في نسيج الرواية، كانت في عيون هذا الأديب العظيم ولا أعتقد أنها من الممكن أن تكون لسواه! وفي هذا المقال، سأقف عند النقاط التي جعلتني أنسجم مع نسج هذا الكتاب الجميل، والتي كانت محض تأثير قوي الوطأة، لا يُنسى، ولا يُمحى!

د. محمد متولي "درعميُّ الهوى"

د. محمد سيد أحمد متولي أستاذ البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بجامعة القاهرة في مصر، كاتب وأديب نشرت له عدة كتب ودراسات في مجالات الأدب والنقد.

درعميّ كلمة منحوتة من كلمتي دار العلوم وهي كليّة في جامعة القاهرة في مصر. وكل شخص درس وتخرج منها فهو درعميّ، لذلك قلت درعميُّ الهوى؛ تلمس إخلاصه لأساتذته في كل جانبٍ من جوانب حياته، فقد أسكنهم منزلًا خاصًا في قلبه فيظهر ذلك جليًا عندما يبوحُ قلمه، ليكتب تأملاته.

سمعته في محاضرته يعرِّف الأدب فقال: هو فن التأثير في اللغة. فإن كانت اللغة قطعةً من قلبه، فكيف لأدبه ألا يؤثر؟!

الإنسان المعلم!

لم أعرف الدكتور محمد إلا من خلال دروس الأونلاين، كانت إحدى الهبات التي جلبها إلينا فيروس كورونا! عرفتهُ معلمًا للأدب والنقد المقارن، وخلال رحلة قراءتي لرواية أيامي في برلين، وبين صفحاتها، وجُمَلِها، وكلماتها، لم يغب عن ذهني أبدًا ولو للحظة، أنني أقرأ سيرة معلمي، أخذتُ منه كل كلمةٍ باهتمام وتقدير، معلمٌ وكاتب! إنهم من أشد الأشخاص تأثيرًا على مسارات حياتنا، فكيف لو اجتمعت الكتابة والتعليم في إنسانٍ واحد!

لله درُّ هذا المعلم الكاتب الذي لم تخلُ كلماته – ولو كانت عفوية بغير قصد التوجيه – من توجيه الأب الذي يسرد جزءً مهمًا من حياته باهتمامٍ لأبنائه، ولم يخلُ سرد الأحداث من الصدق الموجه للماشين على طريق العلم والتعليم، فكل الأحداث سردها الدكتور بأسلوب إنساني خالص، خالٍ من أي رُتَب، وأي غرور، حتى في وصفه لذاته كان حقيقيًا إنسانيًا، طبيعيًا متواضعًا، بدون أي ابتذالٍ أو تصنّع، وفي سرده قربٌ لنفسه، ولنفس القرّاء.

أيامي في برلين

سيرة روائية صدرت عام 2017 يسرد فيها الكاتب قصة سفره إلى ألمانيا ذلك لإنجاز أطروحة الدكتوراة، فيقول:

"هذا الكتاب يضم مواقف حياتي ومشاهداتي وتأملاتي خلال رحلاتي العلمية والترفيهية في برلين وفي غيرها من المدن الألمانية، وفي باريس وروان الفرنسية، وفي أمستردام الهولندية، وفي مدريد وطليطلة الإسبانية".

حالة استثنائية من الصدق!

ففي قراءتك لها تشعر بصدق الكاتب في تعبيره، ووصف تأملاته؛ فهو لا يستثني الصور والمواقف التي قد أزعجته، وتركت أثرًا في نفسه، ولا يستثني خطأً مر به، فالقارئ كما أعرف يشارك الكاتب صراع الأفكار ويفكر معه، لا يستسلم تمامًا لمعتقدات أي كاتب، هو في حالة كتابة موازية لعملية القراءة، وأيُّ قارئٍ واعٍ يطالعُ هذه اليوميات، سيدرك مدى صدق كاتبها مع نفسه ومع الآخرين، ومدى قربه من إنسانيته، في تأملاته واستجلاب المفارقات بين البلد التي جاء منها مصر، وبين برلين.

شعرتُ بقسوة الغربة وأنا في منزلي!

وأحببتُ مصر كأنني أعرفها منذ زمنٍ بعيد، ستحب مصر أكثر، وتشتاقُ لها حتى لو لم تنل زيارتها منذُ أن خلقت؛ مثلي تمامًا!

"كتبتُ لكم قصة أيامي في هذه البلاد، فلم أخفي عنكم مما رأيتُ شيئًا، وكنتُ في ذلك كله أحملُ مصر بين جوانحي!".

هكذا قال الكاتب في مقدمته للرواية، وأعتقد أنهُ بانتمائه وحبه لها، زرع هذا الحب في قارئه أيضًا! خاصة أننا في الدول العربية نحملُ القضايا نفسها والألم نفسه وصراعات الأيام نفسها، وكأنه يحملُ مرآةً يُرينا فيها أنفسنا من جديد!

فنغرق مع كلماته التي صاغت المفارقات بصورةٍ عفوية كما ذكر، فنرى ما هو سلبي وما هو إيجابي، وكلها في الحقيقة دافعٌ تشجيعي لنستمر في الهمة والإنجاز، وإن بدا الأمرُ في بدايته مُحزنًا مُبكيًا!

القارئ هنا شخصية مهمة أيضًا!

"لا داعي للإطالة في ذكر العتبات، فقد يكون الحديثُ عنها باعثًا على الملل، وما عهدتموني ملولًا، ومن رآني كذلك فلا يتم القراءة. فليتوقف الآن.. الآن الآن يعني الآن!".

في السيرة الروائية تشعرُ أنك عزيزٌ على الكاتب، وأنك صديقٌ له، وهو يرغب بإخبارك بتلك اليوميات، وما مر به من مواقف بكل أشكالها؛ الطريفة والمضحكة والمحزنة والمبكية، وستتحركُ عضلاتُ وجهك أمام صفحات الكتاب تبعًا لما يسرده الكاتب بعبقرية.

تراه يربط الحكاية بعقلك بخيطٍ رفيع يضمن عدم تركك لها، ويخبرك في كل جزء عن حدثٍ رئيسي يتفرع من خلاله ليطرح عليك تأملاته فيه، دون أن يختلط عليك الأمرُ أبدًا وبدون ملل.

في نهاية الرواية قد تبتسم، وقد تبكي، وقد تصنعُ الاثنين معًا، لكن مما لا شكَّ فيه أنك ستكون فخورًا جدًا بكاتب هذه الكلمات حتى لو لم تعرفهُ شخصيًا، لكن يكفي أن مصريًا عربيًا، حمل أبهى صورة لطالب العلم وأعظمُ صورة للطريق التي يسلكها المعلم، لبلاد الغرب، وهذا والله فخرٌ عظيم.