فن الترجمة إلى الفصحى.. ظاهرة الأدب العادي!

أفخر في قرارتي أنني أنتمي للجيل الذي أعاد القراءة إلى خانة التفعيل في العالم العربي بعد أن كانت مجرد "كليشة" نملأ بها الفراغ يسار كلمة الهوايات منذ الأول الابتدائي دون وعي. 

على أنني أواجه الجانب السلبي من ذلك يوميًا على هيئة نصوصٍ ليست فقط لا ترقى لتسمى أدبًا، بل لا تتعدى كونها ترجمةً من العامية إلى الفصحى، هذا طبعا بعد تغاضٍ تامٍّ عن الأخطاء الإملائية والنحوية الشنيعة والتي تشي بنظام تعليمي ومناهج فشلت في أن تجعل العربي يتحدث العربية!

وأتساءل جديًّا كيف حدث ذلك؟! 

 سهولة الوصول 

بعملية بحثٍ -غير بسيطةٍ ربما- عن بدايات أدباء الصف الأول في الأدب العربي المعاصر، نجد معظمها قصص كفاحٍ عصاميةً ملأى بالمحاولات الدؤوبة اللامتناهية والمقترنة غالبًا بالظروف الصعبة خصوصًا بين دور نشر ومجلات/صحف صعبة الإرضاء وبين قضايا تصرف المجتمع عن القراءة أو تجذبه إليها، وقد لفت نظري أن معظم هؤلاء لم يصلوا قممهم إلا في مرحلة متأخرة -نسبيًا. 

بينما نجد الكتابة والنشر في متناول الجميع اليوم في ظل هيمنة مواقع التواصل الاجتماعي، ولجنة التقييم هنا هم الجمهور -وهنا تماماً تكمن المعضلة- إذ ليس الجمهور العام بمؤهلٍ لتقييم النصوص الأدبية وإعطاء صفة الكاتب/الأديب! لكنهم يثنون بحرارة على خواطر وجدوا أنها تتحدث بألسنتهم وعن مشاعرهم وأفكارهم مهما بدت مبتذلةً ولا تحمل أدنى مقومات النص الأدبي، لأنهم ببساطة لا يعرفون ذلك! وبالتالي يجد القارئ نفسه مؤهلًا هو أيضًا يصبح أديبًا! لمَ لا وهو يمتلك مشاعر بطبيعة الحال ويجيد الترجمة من العامية إلى الفصحى؟ وتتفشى هذه الترجمات على أنها أدبٌ خالصٌ وصاحبها يعمل لدى "كاتب" وفي أقل الأحوال غرورًا "كاتب مبتدئ" مع اقتباسين رومنسيين بالضرورة! 

النتيجةُ السبب 

ومع انحدار الذائقة الأدبية للقراء والكتّاب سواء، تسعى دور النشر التجارية في استقطاب هؤلاء ودعمهم، وهكذا تتشكل حلقةٌ مغلقةٌ من الأسباب والنتائج المتتابعة والتي تشكل ما برأيي يسمى "أدبًا عاديًا" ممتلئةً به رفوف الأكثر مبيعًا، ولا أقصد هنا طبعًا الأسلوب العلمي قليل التشابيه ومباشر الأفكار، وليس الأسلوب السلس الموجَّه لعموم الفئات دون أن يقلل ذلك من متانة الصياغة وقوة الفحوى، فللأدب لغات عدةٌ وكلٌّ تفهم روحه لغةً ما وتتذوقها. لكن أعني الخواطر الساذجة بالعبارات الركيكة المتكررة، والحوارات السخيفة المبالغة، والمواضيع المطروقة جدًا عن كبرياء الأنثى، والرجال الخوانين، والغزل المستهلك، والتي لا يعيبها شيءٌ أكثر من أنها "عاديةٌ" لم تنصف بحر اللغة ولم تستغل فنونها الجمّة، إنما فقط استخدمتها كأبجدية جامدة لا تحمل ما تحمل من روح وبلاغة.

تقبيح الجميل

و الأمر لا يقف عند حدود أدبٍ منتشرٍ لا يليق أن يوضع في نفس التصنيف مع نجيب محفوظ والرافعي وغادة مثلًا، لكن يتعدى لِأن يكون معيارًا تُقيَّم به النتاجات وأنموذجًا يسعى أغرار الأدب لمحاكاته! فأي نص يستخدم مفرداتٍ جزلة، ويقدم ويؤخر مستغلًا الغاية البلاغية لذلك، ويستعين بالتشابيه والكنايات، هو بالمطلق نصٌّ صعبٌ معقدٌ مختلقٌ مفتعلٌ وغير مفهوم!

فنخسر الأديب الحقيقيّ، والناقد الحقيقيّ، والجمهور الحقيقيّ (في مكانه ووظيفته). 

نهايةً

يحق للجميع الكتابة لا بدّ، بل هي ضرورةٌ روحيةٌ تساهم في السلام النفسي للفرد، وطبعًا يمكن لأيٍّ كان نشر ما يراه يستحق ذلك على ألا يكون تحت مسمى الأدب والرواية إن لم تكن كذلك، بالإضافة للاستعانة بمدقق لغوي عند النشر ورقيًا.

إنما وكأيّ فنٍّ له أهله كالرسم والتمثيل والغناء، لا نريد أن تُقاد عملية الإنتاج الأدبي من قِبَل من لا قِبَلَ له به، وأن يميز موهوبونا الأدب الحقيقي من العادي/السخيف ويسعوا ليثروا اللغة ويطوروا ويتطوروا لا أن يحجّموا البحر بدرّه وصدفاته إلى بركةٍ أو مستنقع فيستحيل الدرُّ طحالبَ وعفنًا!