رواية العمى.. الوباء كظاهرة اجتماعية

في رواية العمى للكاتب البرتغالي الشهير "جوزيه سارماغو" (1922-2010م)، تصيب حالة عمى مفاجئة شخصًا عاديًا لكنها تكون معدية لتبدأ سلسلة العدوى وتنتشر في المدينة. تسارع السلطات لعزل المصابين في معسكر قديم لحصر العدوى وتتركهم يتدبرون أمورهم داخلها، وتستثنى من حالة العمى هذه زوجة الطبيب الذي فحص المريض الأول والتي تدعي إصابتها أيضًا لتبقى مع زوجها.

تقوم الحكومة بتزويد المرضى بكميات محدودة من الطعام والشراب تكفيهم بالكاد ولا تقدم لهم شيئًا آخر، فيحاولون في بادئ الأمر أن يقتسموا الطعام بشكل عادل فيما بينهم ولكن سرعان ما تستولي مجموعة من المجرمين على الطعام وتتولى توزيعه لتفرض بعد ذلك سلطتها على المحجر الصحي، وبشكل تدريجي، تبدأ هذه المجموعة في طلب خدمات من المجموعات الأخرى ومن ضمنها مجموعة زوجة الطبيب التي تضم كذلك الأعمى الأول وزوجته، والعاهرة ذات النظارة السوداء، والطفل الصغير، والفقير الأعور والطبيب أيضًا.

وتشمل هذه الخدمات خدمات جنسية تجبر الزوجات على التخلي عن شرفهن وكرامتهن والأزواج عن كرامتهم بالتبعية. ولأن الوضع يكون مهينًا جدًا، تخطط زوجة الطبيب لقتل رئيس العصابة وينجح مخططها لتنهي سيطرة العصابة. بعدها يبدأ العميان باستعادة بصرهم والرجوع إلى بيوتهم تنتهي الرواية باقتباس أيقوني لزوجة الطبيب إذ تقول فيه:

"لا أعتقد أننا أصبنا بالعمى، بل نحن عميان من البداية. حتى لو كنا نرى.. لم نكن حقًا نرى!"

التحليل النقدي

تطرح الرواية عدة أسئلة حول الأخلاق والسلطة والإنسانية من خلال هذه التجربة الإنسانية العنيفة حيث العمى والحبس والجوع والعدو الذي يمتلك السلطة. ماذا تختار؟ أن تموت من الجوع أو أن تتنازل عن كرامتك وما يشكل قيمتك كإنسان؟ وماذا عن الطبيعة الحيوانية للإنسان؟ كيف تنمو وتكبر مع ازدياد حاجات الجسد؟

يصوغ الكاتب أيضًا وجهًا سيئًا للسلطة سواءً خارج المحجر أو داخله. في الخارج، لا تقدّم الدولة إلا ما يقيم الأود وبطريقة مهينة لتتجنب العدوى، أما في داخل مكان الحجر، فلا تهتم العصابة التي امتلكت السلطة إلا بحاجتها وملذاتها. هكذا يميل الكاتب لرسم صورة سوداوية عن النفس البشرية.

الشخصيات

زوجة الطبيب هي الشخصية الرئيسية وتليها المجموعة التي انضمت لها، أي الطبيب والأعمى الأول وزوجته، والطفل الأحول، والعجوز القبيح، وفتاة الهوى الشابة. ثم هناك العصابة ورئيسها الذي يمتلك القوة لحيازته مسدسًا، ويساعده المحاسب الذي يسهل له تولي السلطة.

بنية الرواية

بنى الكاتب روايته عبر وجود سارد عليم خارج شخوص الرواية، واستعمل طريقة السرد جيئة وذهابًا. ومع أن لغة الكاتب شعرية غير أنها سلسة وتطرح كثيرٌ من مقاطع الرواية أسئلة وجودية مهمة. ترك الكاتب أيضًا المكان والزمان وأسماء الشخوص مبهمة وهذا ما ساعد في جعل الرواية تلمس أعماق النفس الإنسانية عبر جعل القارئ يحس بالتجربة المشتركة للعميان.

لماذا هذه الرواية؟

الرواية بحد ذاتها تحفة فنية تحفر عميقًا في أخاديد النفس البشرية وتكشف ضعفها وزيف ادعاءاتها.

لكن السبب المهم لنقرأ هذه الرواية في هذا الوقت هو تقاطعها بشكل مخيف مع الوضع الحالي. جائحة الكورونا تجتاح العالم ولا قبل له بمقاومتها، والسبيل الوحيد لمواجهتها هو تكاتف الجميع. ولكن، سريعًا ما ظهرت دعوات جشعة داعية لترك المرض ينتشر دون مقاومة ليحصد ما يشاء من الأرواح دون أي اعتبار للنفس البشرية.

وهكذا، رأينا أشخاصًا تنتابهم نوبات جنون ويسعون لنقل العدوى للآخرين بطرق جنونية أثناء انتشار فايروس الكورونا. هذه الرواية تساعدنا في فهم كيف يتدنى الإنسان إلى مرتبة الحيوان في ظروف قاسية مثل هذه.