حياة عن قرب!
غُصنا غير بعيدين عن أنفسنا، بين رحابها وبين رحاب أحداث غمرتنا وتلقّفتنا في غفلة منّا. كنّا نزهو ونتموّج في زمرة الحياة، لا نزعُم السعادة ولا عدمها، بل ندور في فلك التناقضات. تتقابل أيدينا ثم تتنافر، تتعانق الأرواح والأجساد لكنّها تتباعد في أحيان أخرى، نختلف أو نتفاهم. هكذا كانت الحياة في سيرورتها العادية. في طبيعتها التي اعتدناها.
تشوّشت ملامح حياتنا
لكن فجأة تلاشت هذه الصورة التي كنّا نعتبرها طريقة حياة نستمدّ منها توهّج مُضيّنا، حلّت في سمائنا لعنة أطاحت بتفاصيل تلك الصورة. خدشت ملامحها المعهودة، فتشوّهت حياتنا؛ تباعدنا وتباعد الجسد بالجسد واستوحشت اليدُ اليدَ الأخرى؛ أصبحنا نخشى القُرب والتجانُب، حتى الهواء الذي يُنعش نفوسنا أصبحنا نخشاه؛ نخشى بتقاربنا تلويث بعضنا البعض، فانزوينا عن بعضٍ لنحافظ على بعض. هكذا سرت فينا زفرة هذه اللعنة.
لكنّ الحياة لم تَمُت بداخلنا، وحاولنا استعادتها وافتكاكها من جديد، حاولنا أن نعوّض فقدنا ملامحها المعتادة بملامح وطريقة عيش جديدة فرضتها تأثيرات هذه اللعنة. استمررنا باستماتة شديدة في الدفاع عن حقّنا لاستعادتها، تُطاوعنا أحيانًا لكن سرعان ما تغيب ثانية، وهكذا اعتدنا الرواح والمجيء بين تباعدٍ وقُرب حتى أُنهكت قوانا ومَالَ لنا بعضٌ منها أخيرًا؛ فعاد قُربنا قليلاً وظهرت معه تقاليد جديدة. عدنا لأحضان الحياة الدافئة، لكن بروحٍ جديدة وملامح حياة مختلفة أيضًا.
لا عِوض لحياتنا عن قرب
عاد بعض انسجامنا كأبناء للحياة نحتضن ونلامس أيدي بعضنا حتى ولو كان ذلك بحذر وتخوّف، ولكن فعلناها واستعدنا حقّنا. بلورنا متطلّباتها الجديدة وبدأنا نعيش عهدًا جديدًا؛ نتلاطف مع الحياة بلغة مختلفة، نعبّر عن مكنوننا بإشارات مختلفة أيضًا، لكن ما عَلق بنفوسنا أن لا عِوَض حقيقيًّا عن حياتنا عن قُرب، وكلّ ما جارينا به كان مجرّد تسكين للحياة التي أُجبِرنا عليها، لا بديل لأحضان المودّة التي تشحذ فينا حياة أخرى، ولا بديل لحنوّ اليد عند الحاجة، وإن كانت الأرواح متقاربة دون الأجساد.
إنّ الحياة رغم قساوتها تدعونا للقُرب والانسجام، تدعونا لاحتضانها بحُلوِها ومُرِّها. لم يعد بوسعنا التخلّي عن حياتنا عن قُرب، دون فقد أو خسارة، ولم تَعد للكلمة عن بعد تأثيرٌ كافٍ لاحتوائنا، فنصفُ الحياة دِفءُ التقارُب بيننا.