حقائب الحياة

من لطائف الحياة أنها تأخذنا في رحابها مسافرين رُحَّلًا عبر محطّاتها اللامتناهية، كل محطة نعبرها تتّضح لنا صورتها أكثر ونمسك جزءًا من تلابيبها؛ نعيشها بكل أركانها وتفاصيلها، نتداخل مع زائريها وساكنيها، نُعايش فيها أرواحًا تشبهنا وأرواحًا غريبة عنا، نسبح في ملكوت مغامراتنا واكتشافاتنا.

ثم نمضي، أحيانًا ثِقالًا بعبء يكدّر صفو مسيرنا، وأحيانًا أخرى خِفافًا بمرح يُزاحم تَلاهِينا عنه، ويستمرّ ضجيجنا ونحن عابرون.

وكرمزيّة أي شيء في بدايته، فإن محطاتنا الأولى لها طعمها الخاص، وروحها الفريدة؛ نتزوّد بحقيبة متاعنا، متناسبة تمامًا مع طبيعة رحلتنا الأولى، نكون مجهّزين بانضباط تام، مسرورين لخوض التجربة التي رصيدنا منها ما زال منعدمًا. لا نستدعي خوفًا ولا ريبة من مُضِيِّنا ذاك. نُقبل مسرعين ومندفعين نسابق الأحلام والأمنيات التي خطّطنا لتحقيقها. نذهب بحقيبة محددة قاصدين هدفًا واضح الملامح جليّ الظهور، لكننا نخبّئ داخلها أهدافًا أخرى خفيّة الظهور نعزز بها سيرنا نحو الهدف الحقيقي.

نستزيد في كل محطة ما تيسّر من نجاحات وإخفاقات، من فرح وخيبات، نُراكمها داخل التجويف القلبي، يواسينا فيها العقل بحكمته أحيانًا، وأحيانًا أخرى تبقى رهينة الأيام تُداويها.

نكبر وتكبر دائرة الأهداف والأحلام وتكبر معها مساحة حقائبنا المخصصة لمحطاتنا الباقية. قد نَحيد عن محطة حُددت لنا، وقد نمضي وقتًا طويلًا في محطة تستهلك كل طاقتنا وتستوفي متاعنا. نخرج من هذه أو تلك بتجارب أكثر وأعمق ورُؤى مختلفة جدًا عن التي دخلنا بها، وكل خطوة إلى محطتنا القادمة، هي خطوة نحو نضوج قاسٍ، نحو ألم مستمر وسعادة مُشتهاة.

تتغيّر متاع حقائبنا في كل محطة، نعيد ترتيب تفاضلها ونستمر. أحيانًا نسعى لخوض تجارب جديدة ونقاوم دوران الحياة بما نلتقطه منها، وأحيانًا أخرى نَركُن إلى الاكتفاء والمُضيّ بصمت.