الماجريات وجيل الألفية

الماجريات وملهاة التواصل

استفتح الشيخ إبراهيم بن عمر السكران كتابه الماجريات بقصة طالب علم أراد أن يبدأ بحثه العلمي، فجلس بعد صلاة المغرب عازمًا على التركيز في عمله وقد جمع مراجعه، وحاسوبه، وأوراقه، وأقلامه.

ثم ما أن التفت إلى جواله وفتح أحد برامج التواصل نَسِيَ تمامًا ما كان قد عزم عليه، ليجد نفسه مستغرقًا بعمق في التصفح، حتى استيقظ على صوت صلاة العشاء، وهكذا انتهى به الأمر بأن أضاع وقت بحثه فلم ينجز منه شيئًا البتة، وأشار الشيخ إلى أن هذا السيناريو يتكرر مع كثيرين بأشكال متفاوتة.

والمقصود بالماجريات وأصلها جمع كلمتين "ما جرى" وهي فكرة الانشغال والغرق في متابعة الأحداث اليومية وعدم القدرة على الإنجاز المتكامل، وهي من أبرز سمات جيل الألفية وهي فئة يختلف من ينتمي إليها حسب طبيعة المكون الثقافي والمعرفي لدى الشعوب.

بالإمكان تعريف جيل الألفية في العالم الغربي من مواليد العام 1994 فما فوق، وهي ليست مقياسًا ثابتًا فمن الممكن أن تجد رجالًا من هذا الجيل خرجوا عن الطريقة التقليدية للمجتمعات التي تآلفت مع التغير الفكري والمعرفي وتميزوا بجدارة على كثيرٍ من أجيال سبقتهم.

ستخوض صراعًا سفسطائيًا لمعرفة ما يريد جيل الألفية القيام به، يبدو أنهم ينتقلون دائما إلى شيء آخر، عالمًا موازيًا غير الذي خططت له معهم حتى.

ماذا يريد جيل الألفية؟

سيقول أريد أن أكون جزءًا من شيء مميز، أسعى إلى تحقيق معالي الأهداف، أريد أن أكون مؤثرًا.

مثل هذه التصورات والإنجازات تحتاج الكثير من العمل، والجهد، والصبر. وللوصول لمثل هذه النجاحات والتي تعتبر ميزة صعبة في هذا الجيل، كما يقول الكاتب البريطاني سيمون أوليفر سينك: هناك أربعة أجزاء مهمة من تركيبة هذا الجيل وتؤثر في بنيتهم الفكرية، ولتخطي هذا الوضع سنذكر الصفات التي يتميز بها هذا الجيل لمعرفة كيفية التعامل معهم.

ما هي صفات جيل الألفية؟

 صعوبة الانقياد، الرغبة بالحصول على كل شيء، النرجسية، الأنانية، الكسل، ويمكن وضع أسباب المشكلة كما ذكرنا بالترتيب:

  1. طريقة تربية هذا الجيل الذي خرج من جيل تعب كثيرًا لتأمين مصادر أساسية للحياة وتأمين حياة كريمة لعائلته وهو شيء عظيم، لكن المشكلة كانت في طريقة التربية التي جعلت الطفل يرى العائلة مصدر الدعم فقط، وغير ناقد لطبيعة التصرفات والأفعال، مع القدرة على الحصول على المكافأة والتقدير على أبسط الأمور، والخروج من المشاكل بأقل التكاليف دون أي أضرار، حتى صنعت فيه إمكانات محدودة بشخصيات هشة قابلة للكسر عند أول اختبار  أو تحدٍ في الحياة العملية، ولعدم وجود وسائل دعم في الجامعة، والعمل أو حتى في علاقاته الاجتماعية.
  2. التكنولوجيا ومدى انشغال الجيل بكامله في هذه الوسائل، والشعور بالرضا واللذة في التفاعل مع التطبيقات والبرامج التي تشعر الشخص بالقيمة والأهمية التي يصعب عليه إيجادها في العالم الحقيقي والواقع الذي يتطلب مهارات اجتماعية وذكاءً عاطفيًا، والذي بإمكانه تجاوزه في العالم الافتراضي، وكأننا في حال قمنا بإعطاء هذا الجيل هذه التكنولوجيا كمن فتح حقيبة المخدرات لطفل وطلبنا منه أخذ منها الجرعة التي لا تؤذيه، وأكدنا عليه مِرارًا: كن حريصًا في التعامل معها، نراك بعد ساعة واحدة وليس أكثر. وهي كفيلة بتخديره طيلة حياته وتعطيل قدراته لمدى بعيد.
    الثورة المعرفية والتطبيقات غير المحدودة أعادت برمجة هذا الجيل على واقع مختلف، وأسلوب حياة متغير، بطريقة غير محددة بقانون أو أسلوب حياة معين، أو حتى طريقة تفكير، فأصبح الثبات على الفكرة، أو المشروع، أو الهدف، غير منطقي عندهم إذا لم يحقق نتائج مباشرة وفورية. وهو ما يقودنا إلى النقطة الثالثة.
  3. نفاد الصبر؛ لا توجد قدرة وصبر على الانتظار، إن لم يكن الآن فلا داعي للتعب من أجله حتى، وهو ما يسمى بالمتعة اللحظية، يمكنك الحصول على أي شيء بنقرة زر واحدة، أو انتقاء من الشاشة، وعندما تسعى لتحقيق غايةٍ مثل الرضا الوظيفي، أو صداقة ذات معنى مع إنسان آخر، هذه الأمور تحتاج المثابرة، أشياء لم يتم تدريب جيل الألفية للقيام بها، لأن كل شيء قد بات سهلاً بالنسبة للشباب، فإنهم لا يعرفون معنى أن تصل للمتعة والنجاح دون المرور من خلال المتغيرات والواقع بصعود وهبوط وفشل وتكرار المحاولة. هذا هو السبب في بحث الكثير من جيل الألفية دائماً عن فرص مختلفة، يمكن أن يكون للخروج من الملل، ولكن يمكن أيضا لمجرد أن يكون لهم تأثير، ومن الغريب أيضا أنهم يأخذون الكثير من الوقت والجهد لفعل ما يريدون القيام به، بالمزاجية التي يقتنعون بها، ولا يرون أي سلطة خارجية علاقة بهم أو بأفعالهم.
  4. البيئة؛ تبقى هي الحاضنة للأفكار والتصورات، والتطبيق العملي المباشر لما تقوم به أنت، كما نقول دائما لا تقنع الطالب أو طفلك بالقراءة، نفذ ما تريده منه وطبقه على نفسك أولًا، وستراه يتابع خطواتك وينفذها ويتفوق عليك في الغالب، بقدر ما نعتقد أن جيل الألفية يحتاج إلى معرفة الأمور من تلقاء نفسه، فإننا لا نجعل الفهم شيء سهلًا لهم، ولا نقوم بتعريضهم لأشياء مختلفة عما نشأوا عليه، ونتيجة لذلك، فإن هذا الجيل لا يمتلك القدرة على تطوير المهارات التي يمكن أن تساعدهم على تقليل اعتمادهم على التكنولوجيا.

خطوات نحو حل المشكلة

لذلك علينا أخذ زمام المبادرة للعمل مع هذا الجيل الذي كثير منا منهم، أو تأخرنا عنهم بجيل، ونواجه نفس المشكلات والتحديات، فلهذا نحتاج إلى بناء فرص وبيئات أكثر تناغمًا مع الواقع والحرص على:

  • بناء الثقة بأنفسهم من خلال التجارب الحقيقية وتحمل المسؤولية الكاملة عن أفعالهم والمحاسبة والعمل على التطوير المستمر والتدريب الذي يصل بهم لأعلى درجات الاستقلالية والانتماء إلى فريق يكرس العمل الجماعي والتواضع كي يتدرج بالتخلي عن الصفات المكتسبة التي ذكرناها سابقًا كالأنانية والنرجسية.
  • الحفاظ على قيمة الصبر والنفس الطويل في العمل والتخلص من عادة المتعة اللحظية في الإنجاز وجعلهم يشعرون بقيمة العلاقات الاجتماعية ذات المعنى والقيمة غير المبنية على المصالح المؤقتة.
  • إيجاد أفضل توازن بين الحياة واقعًا والتكنولوجيا مواكبةً.

الحل والطريقة بين النموذج النبوي والمعاصر

أغلب عمليات التحول والتغيير في العالم تكون نتيجة تراكم أحداث وتفاعلات وتغير مجتمعات خلال فترة من الزمن حتى تظهر آثارها بحدث غير متوقع في وقت غير مخطط له، وفي ظل الماجريات التي نعيشها وتفاعل جيل الألفية معه ودوره في معادلة التغيير التي ستأتي لا محالة وكيف كان موقف الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم مع نفس الأحداث في مجتمع يعيش انقلابًا على الموروث الاجتماعي السابق، وظهور تصورات جديدة من فئة تتشابه مع جيل الألفية في الحاجة للتغيير، تخالف كل المعتقدات والتقاليد السائدة.

ذكر الكاتب مالكوم غلادويل في كتابه "نقطة التحول؛ كيف تحدث الأشياء الصغيرة تأثيرًا كبيرًا"، ثلاثة قوانين أساسية عن فكرة التحول وأسبابه الدافعة:

  • قانون القلة؛ ويتعلق بالأفراد المؤثرين الذين ينشرون الفكرة ويروجون لها، وعليهم أن يتميزوا بمهارات التواصل، وقدرات على الإقناع، وجمع المعلومات، ومعرفة نقاط القوة والضعف في المجتمع، والعمل على زيادة قدرة التأثير في الناس، وفي هذا القانون نستذكر شخصيتين، أولهما أبو بكر الصديق رضي الله عنه، التاجر كثير الاختلاط بالمجتمعات والناس، العالم بأنساب العرب، الذي عاد للرسول صلى الله عليه وسلم بستة من العشرة المبشرين بالجنة في أول مهمة دعوية. ونذكر أيضا معلمة الرجال خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها، التي احتوت الرسول صلى الله عليه وسلم شابًا ودعمته في المال كريادي من رواد الأعمال من بين تجار العرب، واحتضنته أول ما نزل عليه الوحي، وطمأنته بزيارة ورقة بن نوفل، ودعمته في أول عهد الإسلام، مع العلم لم يكن من الواقع أن تنجح فكرة هذا الفرد من ضمن مجموعة الفساد القائمة، فالقدوة تنتقل ويتغير شكلها وأثرها ولكنهم دائما قلة.
  • قانون الالتصاق؛ ويتعلق بمحتوى الفكرة وطريقة عرضها، وكيف يمكننا أن نجعلها تلتصق بوجدان الناس وتصبح جزءًا من حياتهم حتى الاعتناق، وكان ذلك متعبًا ومرهقًا في السنوات الأولى للدعوة حتى بداية العهد المدني، وحين تلتصق الفكرة وتطبع في العقول سنشهد تحولًا جذريًا مخالفًا كل أنماط المعقول في التغيير ومن الأمثلة على ذلك سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
  • قانون قوة السياق؛ ويتعلق بالظروف المحيطة بالقانونين الأول والثاني، وهي مناسبة لانتشار المحتوى الذي يُدعَى له أو يكون ممانعًا وصادًا له، وكما نعلم بيئة الدعوة الأولى في الإسلام التي رفضت الفكرة تمامًا وحاربت ونكلت بِكُلِّ المنتسبين لها وأصبح من الصعب أن تتوسع دائرة المتابعين في هذه البيئة مع طبيعة المكان، حتى ما قبل خمسة أعوام من الهجرة حين قدم وفد من الأوس إلى قريش للتحالف ضد الخزرج فسارع الرسول صلى الله عليه السلام بلقائهم وكان من بين الوفد شاب صغير يقال له إياس بن معاذ ولم يكن من أصحاب الرأي في الوفد ومع ذلك استبشر بما ستأتي به هذه الدعوة فقال :والله هذا خير مما جئنا إليه، دلته فراسته وأمله كشاب عانى ما عاناه أهله من حروب عبثية أهلكت القبائل والبلاد ولن تستقر الأحوال وإن سادت قبيلة على أخرى، وهذا الدين الذي أصله التوحيد والعدالة والمساواة، ولكن رئيس الوفد أبو الحيسر نهره ورمي التراب في وجهه، عاد الأوس مع تحالف قريش وانتصروا في معركة بعاث ومات رؤوس الأوس والخزرج وكأن الحالة الجديدة بوجود الجيل الجديد "الشباب" من أقران إياس بن معاذ فتحت الطريق أمام أهل المدينة لبيعتي العقبة الأولى والثانية واستقبال المسلمين الرسول صلى الله عليه السلام بعد الهجرة.

فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الشباب ويتكيف مع المتغيرات ويصنع البيئة الحاضنة في كل الأحوال مع مختلف الشخصيات الأمر الذي أعطى الزخم الأعلى في تحول نفس الأشخاص من مجتمع البداوة معدوم الحضارة إلى جيل الحضارة خلال أقل من ثلاثين عامًا ولو احتسبنا السنوات الأولى من الخلافة الراشدة.

فأساس جهد الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم في توظيف الطاقات والمهارات ودفعهم للمواقع القيادية ويستشيرهم وينزل على رأيهم ولو خالف رأي كبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وما زال يقول "نصرت بالشباب" فأي قدوة وتربية وبيئة اجتمعت في شخصية قائد واستثمرها كما الرسول صلى الله عليه وسلم.

وفي آخر محاور النقاط نفاد الصبر عند الشباب الذي تحداه رسول الله وتعامل معه بحكمة فكم من موقف وحدث أَلَمَّ بالمسلمين إلا ويعدهم بالنصر والتمكين ولا يستعجل الأحداث ففي مكة ثلاثة عشر سنة وما عايشوه من القهر والاستضعاف والتنكيل والتشهير بالمسلمين وما زال يقود المسلمين إلى بر الأمان حتى تتضح الصورة وتكتمل الرسالة ويفهم الناس أصل الدعوة ومقاصدها حتى شخص النبي عليه أفصل الصلاة والتسليم لم يسلم ومع ذلك صبر وتحمل وأدى الأمانة وكان النموذج في ذلك.

إلى الجيل الصاعد.. جيل الألفية

"أشد صور الإشكال في هذا العالم الافتراضي الفسيح هي تصدر المتعالمين، وتقدم التافهين وبروز السفهاء الذين يقودون دفة التوجيه غير المباشر للجيل الصاعد وجرأة الجاهلين على الدين والشريعة". من كتاب الجيل الصاعد، الأستاذ أحمد السيد.

إلى الجيل الصاعد بل ولمن فاته الوقت وكان من الجيل الحائر ولم ينتسب إلى منهجية الجيل السابق في العلم والبحث والتفكير، لم يفت القطار ولا داعي لليأس أو القنوط بل أنت مفتاح النصر والتغيير.

وكم من أدوات ووسائل نتعايش بينها ومعها تدعم هذه التصورات وتسهل الوصول للنخبة والأستاذية في العلم والفكر والحضارة فهل من مشمر؟

حتى نخرج من مأزق الفوضى المعرفية وترتيب المنهجية العلمية وإدراك السياق التاريخي الذي أوصلنا لهذه الحالة من التشتت والتشظي على مستوى أمتنا الإسلامية.

لكي نركز على التخصصية والعودة إلى المركزيات من القضايا والعلوم والمعارف، ونتدرج بجذور راسخة وغرسٍ صالح حتى يشرق الثمر أخضر يانعًا ويشتد عوده صلبًا هاديًا.

وعندها إن لم نصبح القدوة وحملنا المشعل، فلندرك رَكْبَ القدوات وأصحاب المناهج والمبادئ السليمة مع القدرة على الحكم على الأمور بمنهجية سليمة فالطريق طويل والعبرة بالمسير وليس الوصول وإخلاص النية ذروة سنام الأعمال.

"فلا يستهين أحدٌ منكم بنفسه ولا يَترِكَنَّ المسؤولية لِغيره وابدؤوا من اليوم بالعناية بأنفسكم فالأيام تمضي والمستقبل قريب والعمر قصير والأمة تنتظركم". من كتاب الجيل الصاعد، الأستاذ أحمد السيد.


المصادر والمراجع:

  1. كتاب الماجريات، عبدالله بن عمر السكران.
  2. كتاب السيرة مستمرة، أحمد خيري العمري.
  3. كتاب نقطة التحول؛ كيف تحدث الأشياء الصغيرة تأثيرًا كبيرًا، مالكوم غلادويل.
  4. كتاب إلى الجيل الصاعد، الأستاذ أحمد السيد.
  5. مقطع فيديو جيل الألفية، سيمون سينك.