عند الابتلاء ندرك قيمة الأشياء!
عندما يحين موعد اختبارك، عندما تُكتَب لك الأسباب لِتُمتَحن، عندما يأتيك البلاء دون أن تكون مستعدًا له، وقتها فقط ستُدرك قيمة الأشياء وقيمة الأشخاص، وقيمة القيم الّتي تتغنّى بها. وقتها فقط تكون أو لا تكون ما تؤمن به، وقتها فقط تتحدّد وجهتك؛ سترتبك كثيرًا، ستحاول التمسّك كثيرًا، وأكيد ستحيد عن الوجهة أحيانًا، لكن حتمًا ستختار إلى أي طريق تميل أكثر؛ هل ستختار طريق الصبر والثبات على البلاء أم ستختار طريق العجز والاستسلام واليأس من رحمة الله؟ أكيد ستحفر عميقًا بداخلك؛ أنّك تريد ذاك الطريق الّذي يُشبهك أو ذاك الّذي يجب أن تكون فيه، أو ذاك الّذي تستسلم فيه جميع قواك، اختيارك إمّا ستنجو أو ستُهزم به.
الخوف من الفقد
في الابتلاءات، خاصة عند حالات المرض الحادّة، وخاصة إن لم تكن أنت المريض بل يكون فردًا من عائلتك هو المُبتَلى؛ لَكَم تتمنّى أن تكون مكانه، ليس حُبًّا في كسب الثواب وأجر الابتلاء، لا، بل خوفًا من أن تعيش إحساس الفقد الموجع بعدهم. تتساءلُ حائرًا ما جدوى الحياة بدونهم؟ لكن إحساسك الحقيقي هو أنّك خائف، خائف جدًّا من استمرار الحياة بدونهم.
أنا مثلًا في عائلتي؛ ابتلانا الله بمرض أبي، وكانت أعراض المرض عليه شديدة، كنّا في الأوّل غير مدركين خطورة ما سيؤول إليه الحال، لكن كلّما اشتدّت الأعراض أدركنا أنّ أبي يبتعد عنّا شيئًا فشيئًا، يزداد خوفنا ونتوجّس أكثر ممّا ستحمله الأيام القادمة، تشوّش عقلي وبدأت الخيالات والهواجس تترصّد بي، أحاول الهروب منها مرارًا، وذات مرّة واجهتها وساءلتُ نفسي؛ ما قد تكون أمنياتي الحالية في حضرة هذا الابتلاء؟
ساورتني رغبات وأمنيات عديدة متداخلة، لكن وحدها أمنية بقاء أحبّائي والعزيزين على قلبي بمأمن وسلامة من كل مكروه سيطرت على أمنياتي، ووحده الشعور بالخوف من الفقد يسوق لي هذه الأمنية، يُعشّش في داخلي كلّما اشتدت أعراض الفقد. كلّما أفلتت يد أحدهم منّي، رغمًا عنّي، أرتعب من الفكرة. لا أطلب غير بقائهم أحياء بجانبي، حضورهم في حياتي هو الحياة بعينها، لا أريد أمنيات أخرى سوى وجودهم وقُربهم الدائم، قد لا يكون هذا الطلب منطقيًّا ومقبولًا، لأن الإنسان مصيره الفناء لا محالة، لن نبقى في هذه الدنيا سوى ما كتبه الله لنا من سنين معدودة، نمضيها زائرين تاركين بقايانا؛ أثر وجودنا ومرورنا على هذه الدنيا.
لكن في خضمّ ذلك؛ هل نعي ما نشعر به في تلك اللحظة الفاصلة بين الاستيعاب وعدمه؟
في الحقيقة أنّ مُضيّ الأيام سريعًا يجعلنا لا ننتبه إلى سرعة حركتها إلا ساعات مِحَنِنا. نقف مشدوهين في ما يحصل، مُحَملقين في ما مضى علينا من أحداث، وفي ما نحن فيه، وفي ما سيأتي بعد هذا. نحاول إيقاف الزمن للحظات، دقائق أو ساعات، وعندما لا تساعدنا قدرتنا على استيعاب ما يجري حولنا، نستسلم لمرور الزمن عبثًا؛ نلتمس ضياعه منّا، مكبّلين لا نفعل شيئًا؛ هي لحظات موت صامتة، لحظات عجز قاتلة، يمرّ شريط الحياة سريعًا من أمام أعيننا، لا قدرة لنا على إيقافه، نتأمّله كغريبين عنه، كأنّه شيئًا لا يخصّنا، كأننا لا نعرفه، وكأننا لا ننتمي إلى أنفسنا، أو كأننا لم نعش يومًا.
صدمة إيقاف الزمن ترجّ وعينا في تلك اللحظة، يغيب العقل وترتبك حواسّنا، وتتزايد نبضات القلب، الذي يتحمّل وزر هذا الضياع. نُرهِقُه جدًا؛ خفقانه مُدوٍّ وسرعة نبضه مخيفة، تنحسر الأنفاس وتتبلّد، يختلّ توازننا وتَبهَتُ روحنا، لحظات لا مدى لها، نظنّها النهاية، لكنّها حالة شلل حينيّ، من وحي ما خلّفته المِحن، وما خلّفته مشاعر الخوف والفقد المُصاحبة لنا، أو المنتظرة؛ تحملها لنا الأيام سرًّا، تراوغنا بها، تقترب حينًا وتبتعد حينًا آخر، لا ندري أي مزاج يعتريها.
لا ندري هل هي تختبرنا أم إننا لآتوها قريبًا؟
في الحقيقة الأيام وحدها هي الكفيلة بإثبات ذلك، وفي النهاية كلّها أقدار يكتبها ويصرّفها الله كما يشاء، وما لنا غير تقبّلها واستيعاب الحكمة منها، لكن ممّا لا بدّ منه عند الابتلاء أن نتزوّد بالدعاء، وألا نيأس من رحمة الله مهما اشتدّ البلاء وتعاظم أثره، واغتمّت به النفس وتثاقلت، لا بدّ أن نُزاحِمه بيقين الفرج وبركة الدعاء.