اِمضِ وراء الحُلم يأتِك

أراه من بعيد كأفق بيّن لكن الوصول إليه شاقٌّ، إنه الحُلم.

الخطوات في بداية الطريق ضئيلة ولو كانت مشحونة بحماسة تحقيق الحلم واستيفاء الهدف المرجوّ، إلا أنها مبعثرة وغير ثابتة. ما أجمل أن نَخِيط رُقعة أحلامنا بِصَخبٍ طُفوليٍّ وعَقلٍ يتأهّب النُضوجَ والحكمة، ونُزاحم الحياة بتطلّعاتنا العظيمة لنُباهي بها ونمضي بها سُبُلَ إقدامٍ نحو المجد. آه لي ولأحلامي إنها لذيذة في رَحابة تلك الرقعة، كأن خيوطها بين يديّ أتحكم فيها وأتشارك فيها النَسج والمتعة. إنها بهذه السهولة عندما أخيطها، لكنها تتعسّر عندما أسعى لتجسيدها واقعًا. عندما بدأت أخطو خطواتي الأولى نحو تحقيق الحُلم كنت أظنّ أن القصد للهدف يكفي لتحقيقه أو لتيسيره، لكن خطوة وراء خطوة، يتبين لي عكس ما كنت أظن. فأعيد ترتيب الأمور فربما أخطأت التقدير. وهكذا أعاود الكرّة لأنال هدفي، غير أن الأمور لا تتقدّم كما أرجو. يتسرّب إليّ اليأس وتتثاقل خطواتي، وتتساقط الأفكار السوداويّة لتُغرقني في لُججها.

لمَ يبعد عنّي الهدف وأنا أرجوه وأسعى إليه؟

أتسمّر في مكاني لوقت أضيع من حالٍ إلى حال. أتذكّر رُقعة الأحلام تلك وبهاءها، وأتألم لعجزي عن المضيّ إليها، وأتآكل أمام فجوة تكبر بيني وبينها ولا أنفكّ أتساءل كيف الوصول واليأس يُحيطني ويترصّدني من كل جهة. هكذا كنت أفكّر عند الوقوع في هذا الفخّ.

إلا أنّ روح العزيمة والإصرار تتّقد من جديد وأسعى ثانية لإيجاد الطريق المؤدي إليها. لا أدري كيف لكن تترامى لي طرق أخرى صغيرة قد توصلني إلى مُبتَغاي، وهنا يكبر زمن الفجوة أكثر ممّا كان وتُراوِدني الفكرة أنني رُبّما في الطريق الخطأ. إلا أنني عاجزة وليس أمامي إلا أن أمضي. تتراصّ الأفكار جدًا في عقلي عند حالة التشتّت والتيه والحيرة، لكن لا سبيل للنجاة إلا بالحركة والتقدّم مهما كلّف الأمر. تتقارب لي بعض الأهداف الصغيرة، لكنها لا تروي ظمئي. أتماسك بأمل الوصول واعتقادِ أنّ خطواتي مباركة وإن لم أقصد بها الهدف الأكبر.

وكنت أظنّ في خضم سَعيِي أنّ حياتي تَدور حول ذاك الهدف وتلك الرقعة، إلا أن الأحداث المحيطة تَقضِم هذا الظنّ وتكشف لي عن مكنونات أخرى، فتُربك صورة الرقعة وتُبعثر ثوابتها. فتظهر أمامي تحدّيات أخرى؛ ليس الوصول إلى غاية الرقعة هو الأهم بل تركيب الصورة من جديد وتثبيتها أولى وأجدر.

وما زال فتيل الإرادة متقدًا وإن خمد في بعض الأحيان، فأحزم عزمي وإصراري ومن ثمّ أنهض للحركة، فهي وقود الحياة، وفي كل وِقفة تُضاف إلى حركتي الدؤوب إيمانيات جديدة اكتسبتها، فتعزّز ثَباتَ مُضيِّي.

وأستقبل الحياة من جديد وكأنّها خالية من أدران ما مرّ أو أنني أحاول ذلك إن لم أطله حقًا. فلا اليأس راحتي ولا الهزيمة تُثنيني. وتتلاشى أفكار وتظهر أخرى، ويتغيّر سَيرِيَ العَجُول والمبعثر نحو الهدف إلى سيرٍ ثابتٍ يُحدّد الوِجهة فيَقصدُها.

وأعجب من سُكون الصوت داخل تلك الرقعة، فلم تَعُد تغزُوني بِضَجيجها بل ثَبتت مَلامِحُها في طريقي. وإن استطعت اجتياز صعوبة البداية فإنّ الهدف الأكبر ما زال ينتظرني، لكن تَقدُّمِي نحوه أصبح يقينًا. لم تكن الطريق إلى هذه النتيجة سهلة بل كانت مُجهدة ومليئة بالصّعاب والخيبات، لكنّي تسلّحتُ بالصبر والمقاومة حتّى نِلتُها، ولم تكن قيمة ما نِلت تَعنِي لي الكثير إن كانت في غير هذه الطريق الوَعرَة، لأنها تحمل بين ثناياها معانيَ وحقائق يَصعُب استبطانها من طريقٍ مَرِنة، فأستدلّ بها للوصول إلى الحُلم المنشود، فهي حقيبتي وزَادِي في رِحلتي. وأظلّ أُمَايِز خطواتي برويّةٍ بين استحسانٍ وتعديلٍ حتى أتجاوز الخطوة تِلوَ الأخرى. لا ينفد صبري وإن قلّ فإنّي أمنح النّفس الهُدنة وتقبّل الحال، وكما يُقال فلا حال يدوم، وأواصل رغم كل الخسائر. فسِرّ الوصول في تحصيل العبرة من الفشل والتقدّم بإهاب جديد.

ويزداد إيماني بالسعي وراء الحُلم، فبَاطِنُه تَجاوُزُ الصِّعاب التّي تُحِيطُه وتُعيق تَقدُّمِي نحوه، أمّا ظَاهِرُه فهو مجرّد نتيجة لتحصيلٍ تَرَاكُمِيٍّ شاقّ، لكن لذّة الإفادة من هذه الصعاب تُخفّف شِدّتها وتُحِيلُ مَرَارَة تَقبُّلها إلى مُرونة التَّعامُل معها وحُسن تَقدِير عواقِبها. وتَنقَلِبُ نَظرَتِي للمِحنَة إلى مِنحَةٍ تُؤتِي أُكلَها بِمَزِيد من الوَعي والنُضج، وتَزدَاد خُطُواتي ثِقة وثَباتًا، وأنا أَرقُب الحُلم وهو آتٍ إليّ، لا أُسَارِع خطوي نحوه ولكنّي مُتيقنة أنّه سَيكُون بين يدي إن أحسنتُ تَجاوُز الطريق نحوه، ولا يكاد يكون الحُلم ذا قيمة إن نِلتُه على طبق من ورد دون جُهدٍ وتَجرُّعِ مَرارة، بل أغمِس النّفس جَيّدًا في الطريق المؤدّي إليه وأدَعُها تُذلّل الصّعاب نحوه حتى يَتهَادَى مُستسلمًا رَافعًا رَاية النّصرِ لِي، مُزِيحًا لي الطّرِيق لِما هو آتٍ بَعده. فَما تحقيقُ هدفٍ خطّطنا له إلاّ مرحلة من حياتنا العابرة وكلّ مرحلة تَليها أخرى، لكن الغاية في تعزير الزاد في كل مرحلة، واكتساب المعنى من كل خطوة، والمُضي بإقدامٍ وحُسن تَجَاوز.

فالحياة سير بإيمان وحزم أمام الصعاب.