الوصفة الأدبية السحرية

سأقرب لكم الأمر ببساطة، من وجهة نظر أديبة تدرّس مادة العلوم. سأقول لكم أن الله تعالى خلق الطيور وجعل لها عظامًا رقيقةً مجوفةً وقوية تمكّنها من الطيران بقوة وصلابة في السماء، وأعطاها أكياسًا هوائيةً صغيرةً تعطيها المزيد من الخفة لتتمكن من التحليق بسلاسة في الهواء!

القوة والصلابة والخفة

تخيل، هذا بالضبط ما أُعطي للأدباء الذين صقلوا موهبتهم الأدبية وعملو بجدٍ على تهذيبها، ستجد الأديب منهم رقيقًا حساسًا مرهفًا من أشدّ خلق الله جمالًا ولطفًا وخفةً تمكنهم من الغوص في أعماق النفس البشرية بكل سلاسةٍ وانطلاقٍ ودافعية، والإحساس بها والكتابة عنها ووصفها بدقة متناهية، باستعمال ألطف العبارات وأكثرها جزالة، وبأسلوب الماهر المتمرس في تأليف الكلمات بعضها ببعض دون وعيٍ منهم بانتقائها أو حذر؛ ذلك أن الأدباء الحقيقيين تنساب من أناملهم الكلمات من دون الحاجة إلى التفكير العميق في كل كلمة. هم صاحبوا اللغة العربية وجالسوا علماءها وحاكوا كلماتها وأساليبها حتى امتزجوا بها وامتزجت بهم، وحدثوها وحدثتهم، والتصقوا بها والتصقت بهم حتى عجبت من هذا الإنسان: هل يحمل قلبًا بشريًا طبيعيًا من لحمٍ ودم أم يحمل اللغة العربية مكانه؟!

ثم قد أعطاهم الله صلابة وعزةً ما يجعلهم يقتحمون الحياة بكل أشكالها وينظرون بعينهم الثاقبة لكل تفاصيلها، بقدرتهم الرائعة على تصويرها كما هي بحقيقتها الحلوة والمرة، الصعبة والسهلة، بلذتها ومعاناتها، سواء كان ذلك في التحليق في الأيام الماضية الخالية وما فيها من أحاسيس الشوق والحنين، أم كان ذلك الواقع الأليم، أم التطلع للمستقبل، تلك هي عظام الأدباء الصلبة وأجنحتهم القوية المقدامة، وتلك هي شجاعتهم.

أما الخفة فهي سهولة تنقلهم بين الأماكن والطرقات، وتحليقهم بين الأزمان المختلفة وتأملها ووصفها!

هؤلاء هم الأدباء، قد أعطاهم الخالق -تجلت أوصافه- ما للطيور من القوة والصلابة والخفة والإقدام، فلله درهم!

لماذا أكتب عن الأدباء؟

استطعت  الكتابة عن الأدباء حقيقةً ليس لأنني منهم، كلا فأنا من وجهة نظري لست مؤهلةً بعد لأحمل هذا اللقب الكبير، بل لأنني محظوظة في حياتي أن صادفت فيها أديبًا يحملُ قلمًا شجاعًا مقدامًا، يقدم على كتب الأدب العربي بحب وشغف، وكأن المكتبة التي يمتلكها في بيته  هي حبيبته التي لا يملُّ مجالستها، ولا يودّ الابتعاد عنها، يشتاق إليها لو تركها أقل تقدير للوقت؛ ساعة أو دقيقة بل حتى ثانية! لدرجة أنني عرفت عنه أنه قد آثر أن يبقي عمله قريبًا منها عن طريق الحاسوب ومواقع التواصل الاجتماعي، ولو اضطر للابتعاد عنها ساعات أو أيام لأسبابٍ خارجة عن يده، تراه يضع كتابًا في حقيبته فلا يحسُّ بالوحشة خلال الطريق!

إلى أي مقامٍ يصل الأدباء الحقيقيون في حب كتبهم؟

إنه مقام العشق، المقام الذي يود فيه الحبيبان ألا يفترقا، فيصبح للحب عندها طابعٌ روحي عميق لا يفرط به أي من الحبيب والمحبوب!

كيف أصبح الأدباء يحملون في جوفهم كل هذا الحب للكتب والكلمات؟ وكيف امتلكوا كل هذه الرغبة والشغف والدافع للكتابة والقراءة والاستمرار فيهما؟ ترى هل يولد هذا الشغف مع الإنسان أم أنه يخلق تدريجيًا خلال مراحل حياته المختلفة؟ هل يعتبر الأدباء بطبيعتهم أناسًا طبيعيين أم أن فيهم صفات مختلفة تؤهلهم لأن يكونوا كتابًا؟

أنماط الأدباء

سأجيبكم، إن بعض الأدباء ولدوا موهوبين بالفطرة ومؤهلين للكتابة، تجدهم مثلًا يمتلكون قدرة على رؤية الوقائع اليومية الاعتيادية على أنها شيء غير اعتيادي، ممتلئة بالتفاصيل تضج بالشعور، كأنهم يشاهدون فيلمًا سينيمائيًا سيقومون بنقده أمام كل المشاهدين وبكل جرأة وقوة وحكمة. ومن ثم بعد ذلك، سيلاحظون مع مرور الوقت حاجتهم للكتابة للتفريغ والتخفيف عن أنفسهم ببعض التفاصيل، وسيلاحظون أيضًا حبهم للقراءة عن الكتاب الآخرين، لنفس السبب الذي جعلهم يكتبون، وهي تأمل تفاصيل الحياة اليومية ورؤيتها على أنها شيء يستحق الانتباه.

بعد ذلك يأتي النمط الثاني من الكتاب، هو النمط الذي امتلك الموهبة لكنه أهملها لسبب ما، كظروفٍ يمر بها، أو أسباب نفسية أخرى تجعله يمتنع عن الكتابة والقراءة والاهتمام بصقل أدواته الأدبية، فستجد أنه بدأ يذبل شيئًا فشيئًا، لكنه ما زال قادرًا على البدء من جديد، لكن هذا سيضطره للخوض في الطريق التي سيسلكها الكتاب الذين لم يمتلكوا الموهبة بعد، وهم النمط الثالث من الكتّاب وهم أولئك الذين لم يمتلكوا المهارة بعد؛ هؤلاء الكتاب الذين يجب عليهم أن يسلكوا طريق التعلم كاملةً، التي تبدأ وعرةً ثم تسهل مع مرور الوقت ثم تصبح لذيذة وممتعة إلى الأبد.

الكتابة كالحب

يتساءل البعض في بداية تعلمهم كيف يمكن أن يستمتع  الإنسان بالقراءة والكتابة وهو يجدهما أثقل ما يكون على قلبه؟ كيف بإمكان بعض الناس أن يجدوا لذة في الكتابة لساعات طويلة في غرفة، أو في مكتبة على جلسة واحدة وحدهم في صمت؟ أو كيف يمكن لكاتبٍ أن يجلس أمام حاسوبه ليكتب ويدوّن كل هذه الأشهر، من دون مردود مادي في كثير من الأحيان؟ ما الدافع الذي دفعه لذلك؟ وما القوة التي جعتله يكتب كل هذه الصفحات؟!

الجواب كلمتان: "الصبر والاستمرار"، الصبر على البدايات الصعبة، إن الأمر يشبه قيام النحات بصناعة تمثال جميل، يحتاج إلى الطرق عليه بهدوء وتأنٍ وتركيز، طرقات تؤلم يده، إلا أنه يستمر بها حتى ينهي هذا النحت الجميل.

مع الوقت يلين هذا القلب للكلمات، وأنا واثقة أن ما من قلبٍ لا يلين لها، ذلك أن الكتابة كالحب تتسلل إلى القلب بكل هدوء ولطف وتبني فيه قصرًا عامرًا بالتفاصيل التي لا تنسى.

لذلك عندما تسأل أديبًا لماذا يكتب؟ سيجيبك أن الكتابة كالحب، سيقول لك ما من إجابة محددة لأجيبك، أكتب لأن كل شيء بداخلي يريدني أن أكتب.

سمات الأديب

نعود للأديب الذي دفعني حقًا لكتابة كل هذه الخواطر عن الكتابة، وقد جعلني أفكّر، كيف يتميز الأدباء عن غيرهم من بني البشر؟

دعوني أجيبكم، فهم يمتلكون مجموعة من الميزات سأذكرها بالتفصيل:

الأديب يحب اللغة

الصفة الأولى هي حبهم للغة التي يكتبون بها واعتزازهم وانتماؤهم الشديد لها والدفاع عنها، كيف لا يفعلون ذلك وهي وعاء إبداعهم، فذلك الأديب لم يكن يعبر عن حبه للغة العربية بألفاظ الحب المعروفة، لكن حبها كان ظاهرًا ملفتًا في قلمه؛ فإذا كتب يريد أن يعبّر عن شعور يلم به، أرخى أنامله وشف جدار نفسه، ليسمح للغة بالانسياب برقةٍ إليه، فيكتب، وما أدراك كيف يكتب!

يكتب كأن اللغة ملك يديه تعكس كل تفاصيله، وأفكاره، وخيالاته، فسبحان من جمّل حب العربية في قلبه، ومكّنها فيه، وجعلها طوع يديه!

فالأديب الحق هو الذي إن شققت قلبه ستجد اللغة تحيط كل شيء فيه، والذي إن قطعت جسده ستجد اللغة تجري في دمائه، تسكن تحت جلده، ستجد إنسانًا رقيقًا شفافًا، هذّبته اللغة.

الأديب يشبه النصوص الجميلة

أما الصفة الثانية فهي أنهم يشبهون النصوص، تجالسهم كأنك تجالس شخصية من أحد الكتب الخيالية، يشبهون نصًا مؤثرًا لا يفنى؛ بيت شعر خالدًا، أو نصًا نثريًا لأديب موغل في الأدب، نثر فأبدع، لذلك فهم وإن لم يكتبوا كثيرًا فإن نظرهم في تفاصيل الأدب والحياة وحبهم لها يصنع حولهم هالة، تشبه خيوطًا ذهبية تمتد من شمس اللغة فتنير لمن يستمع إليهم، ومن يقرأون لهم، فالأديب يحبس الحياة في رئتيه ثم ينفثها على الورق!

الخيال

أما الصفة الثالثة فهي الخيال، وهو ما يجعلهم ينسجمون مع ما يكتبونه أو يقرأونه، وهو الذي يجعلهم ينظرون للحياة الواقعية العادية نظرة الناقد لفيلم سينيمائي يشاهده بكل اهتمام، وهو السبب أيضًا في جعل اللقاء بالأدباء والاجتماع بهم مختلفًا غير عادي لا يشبه الاجتماع ببقية الناس، تخيل اجتماع أشخاص كلهم ينظرون للحياة حولهم بمنظارٍ خارجيّ، بوجهات نظر مختلفة، فما أجملهم!

الدهشة

أما الصفة الرابعة فهي أنهم مدهشون، تدهشك النصوص ولو كانت تفاصيل عادية، نشاهدها كل يوم، نمر عليها مرور الكرام، فيأتي الأديب بعدسته المكبرة ويقول لك، انظر هنا، وانظر هنا، شاهد هذا وذلك، هذا مدهش!

الرقة

أما الصفة الخامسة، فهي الرقة، التي تجعلهم ينسجمون مع المشهد الذي يتخيلونه وينغمسون فيه، فيعيشون أدق تفاصيله!

الشفافية

وبعد ذلك نأتي إلى الصفة السادسة وهي الشفافية في الإبانة عن الأفكار والمشاعر، كأن هناك نهرًا متدفقًا من قلم الأديب إلى الورق، سيظل الأديب يكتب ما دامت الحياة تدب في عروقه، قد يغيب عن الكتابة بعض الوقت، لكنه سرعان ما يعود إليها، هذه هي سنة الحياة بالنسبة للكتاب!

الفضول

أما الصفة السابعة فهي الفضول، الذي يدفعهم لتأمل المواقف المختلفة التي قد تحدث أمامهم، وتأمل أوجه المارّة على اختلافها، الفضول الذي يدفعه لتخيل ما قبل بداية رواية يقرأها، أو اختراع نهاية مختلفة عن النهاية التي اختارها الكاتب!

الشجاعة

أما الصفة الثامنة فهي الشجاعة، وهي القوة والجرأة التي تدفعهم للغوص في عمق الذكريات والكتابة عنها، أو مواجهة الأحزان وجهًا لوجه بالرغم من الألم والكتابة عنها! يدهشني الأدباء الذين يكتبون عن عزيزٍ فارق الدنيا، ما أشجع أقلامهم التي تواجه أضعف نقطة في الجسد وهي القلب، الذي يحتوي أقوى مشاعر الدنيا وهي الذكريات!

لكن لو فكرنا في الأمر فإن أصدق ما يكتبه الأديب يكون وقت حزنه، لجرحٍ في قلبه، فيكون أضعف ما يكون، ويكون أرقَّ ما يكون، حتى يصير شفافًا لا يحجبه شيء عن الورقة والقلم.

الأثر

أما الصفة التاسعة والتي هي الأثر، قدرتهم على ترك الأثر في قلوب القرّاء، ذلك الأثر الذي تركه الأديب في قلبي وجعلني أكتب هذه المقالة وأنا مندهشة، كيف يمكن لإنسانٍ من لحمٍ ودم أن يضع هذه البصمة العميقة في قلب إنسان آخر من خلال نصوصه!

هذه هي الإنسانية، وهذا هو الحب.