أربعة عشر يومًا من العزلة

المقالة الفائزة بالمركز الأول عن المرحلة الثانية من مسابقة أنوان الرمضانية  

اللقاء الأول

ألقيت حقائبي في المرأب وفتحت باب المنزل؛ رأيت أولادي يلوحون لي من بعيد. توقفت أتأمل وجوهم الخائفة مني، تمنيت لو أطفأت شوقي إليهم بالقبلات والأحضان فأنا لم أرهم منذ ما يزيد عن شهر، وكان ممكنًا أن تطول فترة غيابي لولا لطف الله ورحمته. ابتسمت لهم وكورت ذراعي كأنها تحتضنهم. على درجات السلم الذي صعدته إلى غرفتي كنت أفكر: "ترى هل تكون قبلاتي لهم بعد مضي 14 يومًا بنفس حرارتها؟".

أخذت حمامًا دافئًا غسلت فيه جسدي وعقلي من عناء الرحلة المجهدة، ربما يهيئني الماء الدافئ والصابون لأغير تروس أفكاري وأتقبل أنني سأمكث في عزلتي حتى يتأكد خلو جسدي من المرض الفتاك الذي يجتاح العالم.

على الحائط وجدت ورقة مكتوبة بالعربية خطتها ابنتي كتبت فيها : كيف تبقين بكامل قواك العقلية وأنت في العزلة:

  1. تمتعي بالطعام، حيث سيعدونه لي.
  2. مارسي الرياضة.
  3. اقرئي الكتب، فهي تعرف أني أحب القراءة.
  4. اكتبي قصصًا.

ثم كتبت: "لا تنسي، نحن نحبك". ورسمت لي صورة أزهار مشرقة تحت أشعة الشمس. ابتسمت وأنا أغبط نفسي على أن الله أهداني هذه البنت.

أول أيام العزلة

خلدت إلى فراشي مبكرة بعد وجبة دسمة أعدتها لي. استيقظت في الليل أكثر من مرة لا أدري أين أنا وعلي أي سرير أنام؟ رأيت فيما يرى النائم البيت الذي تربيت فيه في مدينتي الساحلية، وأسفت كثيرًا على بيعه. رأيت أبي يعمل في الحديقة كما اعتاد وأمي تطبخ الطعام وأحبال الغسيل مترعة بحملها من الثياب. قطط الشارع التي كانت تملأ الحديقة تجري وتلعب بينما إخوتي الصغار يجرون ويدوسون على أنبوب الماء الممدود لسقيا الشجيرات الأمامية، فيصيح أبي محذرًا إياهم من الدهس عليه. استيقظت مع أذان الفجر بتوقيت كندا، وما زلت أشعر أنه بينما انتقل جسدي إلى حجرتي، فقد بقي جزء من نفسي هناك مع أمي وإخوتي. فيما بعد سينتقل هذا الجزء بالتدريج معي وتبقى الذكريات الجميلة التي تطل عليّ من هاتفي.

مر اليوم الأول مليئًا بالدفء رغم ابتعاد أجسادنا.

اليوم الثاني، استيقظت مفعمة بالأمل والتفاؤل، أحضر لي زوجي طعام الإفطار على باب الغرفة، ارتديت قناعًا طبيًا وفتحت الباب ولوحت لهم من بعيد. رغم أن الجو كان باردًا إلا أن حرارة اللحظة دفأتني. أمضيت باقي اليوم على سريري أقلب في ذكريات رحلتي، وأتكلم في هاتفي مع من تركتهم في نصف الكرة الأرضية الآخر.

ملل وتمرد

مع نهاية الأسبوع الأول تسلل الملل إليّ. كثيرًا ما كنت أصحو مبكرة وأنتظر طويلًا حتى يعد لي أحد من الأولاد طعام الإفطار. تركت لي ابنتي بالغرفة صندوق طعام يحتوي بعض رقائق البسكوت المملح وبسكوت الأرز، إلا أنني كنت أشعر بالجوع بصفة غريبة وأفتقد مشروبي الساخن الذي اعتدت تناوله عقب استيقاظي. لا أستطيع دخول المطبخ بعد! تعلمت أن أقنع بما يقدم إلي في التوقيت الذي يلائمهم هم، وليس في الوقت الذي أريده أو أحتاجه، لكن هذا ترك نوعًا من التمرد داخلي. غالبًا ما كانوا يحضرون لي وعاء حافظًا للحرارة يحوي مشروبًا ساخنًا حتى إذا ما استيقظت ليلًا تناولته، لأحافظ على حلقي رطبًا. في ليلة من الليالي نسي الجميع إحضار الوعاء، فقمت في الصباح متبرمة أصيح عليهم من محبسي كي يفيقوا! كم كنت أنانية ذلك اليوم، لكن ماذا أفعل وأخبار داء كورونا تحاصرني وأي جفاف في الحلق أو بعض السّعال يشعل مخاوفي؟ هددتهم ضاحكة: "يمكنني الذهاب إلى المطبخ وتحضير ما أريد لنفسي!".

أفتقد مطبخي بشدة ولا أدري ماذا يفعل الجميع هناك. في العادة يضربون بتعليماتي التي أتركها لهم عرض الحائط! أتخيل عند عودتي كم الأشياء التي سيكون علي ترتيبها ثانية! لكن لا يهم، المهم أن أعود إلى مملكتي الجميلة. لم أتصور أن إعداد الطعام وغسل الأواني وتنظيم الأرفف، سيكون أملًا أهفو إليه وأنا التي كنت أشتكي منه دومًا. أسلي نفسي بالنظر إلى حديقتنا المهملة من نافذة غرفتي، يجب أن أحمد الله على أن لدي نافذة. لا أرى أحدًا من الجيران تقريبًا، الجو بارد يختلف كثيرًا عن الجو الدافئ الذي قدمت منه.

يأخذني الخيال إلى بيت أمي. ترى ماذا تفعل أمي حين تستيقظ الآن؟ كنت أشغل كثيرًا من وقتها، نعد الطعام معًا، نتحاور ونختلف، ننظف البيت معًا، نخرج سويًا نستعيد ذكريات الأماكن والشوارع، وهي تمسك بيدي كطفل صغير يلعب مع طفل مثله في ساحة حديقة مترامية الأطراف.

ليلة حاسمة

أول الأسبوع الثاني، بلغ مني الملل مبلغًا عظيمًا قررت معه أن أرتدي كمامة طبية وأمضي بعض الوقت معهم مع المحافظة على مسافة آمنة بيننا. قرأت في كتيب إرشادات العزل الذي أعطونا رابطه في المطار أنه يمكنني فعل ذلك. خفف هذا الفعل كثيرًا من وحدتي. شيء آخر افتقدته في تلك الأيام، وهو صلاة الجماعة مع أسرتي. كان زوجي يحرص على صلاة الجماعة دومًا، لكني لم أستطع أن أشاركهم لأن موقع غرفتي كان يتقدم المكان الذي يؤم فيه، وهكذا كنت أصلي وحدي ثم أسمع صلاتهم، عدا يوم الجمعة؛ إذ استحدث زوجي نظامًا يحاكي فيه المسجد بأن يتجهز ويرتدي ملابس العمل كأنه سيخرج، ثم يقف في باحة المنزل يخطب خطبة الجمعة. كنت أنضم إليهم من بعيد بقناعي الطبي ثم نصلي جميعًا أربع ركعات.

منتصف الأسبوع الثاني، ارتفعت حرارة ابنتي فجأة بعد صلاة العشاء درجة كاملة وأحست بالتعب. تلبد جو البيت كله في لحظات وانسحبت إلى غرفتي وأنا أرى نظرات اللوم في أعين الجميع، وبدأت بتقريع نفسي: ماذا لو كنت نقلت اليهم المرض رغم أن لا أعراض ظهرت علي؟ لماذا طاوعت نفسي وتجولت في المنزل؟ لماذا لم أبق في غرفتي طول الوقت؟ خارج الغرفة ساد صمت رهيب لم يقطعه إلا زوجي وهو يعاود قياس حرارة ابنتي. لديها توعك في معدتها وأمعائها. اطمأنت نفسي فالفيروس أعراضه تنفسية فقط، لكن زوجي قال لي ووجهه مكفهر أن بعض الحالات بدأت بأعراض تشبه ما تشكوه ابنتنا فتوترت وانزويت في سريري. لا شيء يمكن أن يفعله المرء إلا الدعاء. صليت ركعتي قيام ليل وأنا أحس بالنفاق، فمذ قدمت لم أقف بين يدي الله بجسد واع وروح ذليلة صادقة.

خلد الجميع إلى النوم ومع أذان فجر اليوم التالي، كانت حرارة ابنتي قد انخفضت وتنفس الجميع الصعداء. كان يمكن أن تنقلب حياتنا كلها ذلك اليوم لكن الله شملنا برحمته وفضله، لبثت اليوم كله أحمد الله كل هنيهة وأشكره.

طعم الحرية

قربت أيام العزل على الانتهاء فبعث هذا داخلي حبوًرا وبهجة، وأعاد إلي رونق روح كادت تنطفئ، إن نعمة أن تكون حرًا لا تعادلها نعمة في الكون كله! كنت كثيرًا ما أحس بالاختناق وكأني مسجونة، رغم أني أعرف أنها مدة وستنتهي، ورغم أني في غرفتي أتمتع بوجود المياه والطعام ونافذة تطل على حديقة. ترى ماذا يفعل السجناء الذين يقبعون في زنازينهم بلا أدنى أمل في الخروج؟ أحسب أني لن أنسى أبدًا ما حييت معنى أن تكون حرًا.

أول يوم بعد انتهاء العزل، أنا في مطبخي منذ الصباح أفتح الخزائن وأتلمس كل شيء بيدي، أصنع كوب الشاي بالحليب المفضل لدي، وأفتح الثلاجة ثم أصيح شاكية من التغييرات التي أحدثوها في غيابي. احتضنت أولادي وقبلتهم، لكن شعرت أنها أحضان فاترة بعض الشيء، ليست كحلاوة مثيلتها بعد الغياب مباشرة. لكن لا بأس فطالما كلنا بخير، ستأتي حتمًا أوقات تتجدد فيها حرارة القبلات. 

أنظر إلى ورقة ابنتي التي كتبتها لي: يا إلهي! لم أنجز الكثير ولم اقرأ قصصًا كما تمنيت، لم أكتب الكثير عن ذكرياتي في تلك السفرة العجيبة، ولدي أكوام من الثياب تنتظر أن أرتبها وأغسلها، لكن كل هذا لا يهم. يكفيني أن الله سلمني من شر الوباء الذي يعصف بأرواح كثيرة.

ألملم أوراق رحلتي وأنا ابتسم لكل ما خططت أن أفعله في سفرتي ولم يأذن الله به بسبب داء كورونا، دعوت الله أن أسافر وأعود سالمة غانمة، يكفيني أن حقق الله دعائي، وأني سأصوم رمضان في بيتي مع أسرتي.