غزة بين الأمس واليوم.. وجع لا يُروى

من مدينة الأحلام إلى خيمة في مهبّ الريح

غزة، التي كانت يومًا محطّ أنظار العالم، ليست فقط لأنها مدينة محاصرة، بل لأنها كانت نابضة بالحياة رغم كل شيء، غزة التي عرفها الجميع في الآونة الأخيرة، لم تكن مجرد مدينة تمر عبر الأزمات، بل كانت مدينة نابضة بالحياة والجمال، رغم كل التحديات. كانت تضخ بالحياة من خلال المشاريع اليومية التي تكاد لا تتوقف. من المولات التجارية الحديثة التي أصبحت مركزًا للتسوق والترفيه، إلى المقاهي التي انتشرت في كل زاوية، حاملة في طياتها روح الشباب والإبداع. غزة كانت تعيش على إيقاع النشاط الدائم؛ هنا كان يتم تأسيس شركات جديدة، وهناك كانت الجامعات تُخرج أجيالًا تسعى للابتكار. كانت المدينة تمزج بين الجمال والحداثة، تنمو وتزدهر وسط كل الظروف. الحياة كانت تُخلق في كل خطوة، وكان كل يوم يحمل معه لمسة جديدة من التطور والتقدم.

اليوم، غزة هي صورة متكررة للنزوح، للحزن، للوجع الذي لا ينتهي. من كان يعيش بين جدران بيته، أصبح الآن يحمل الخيمة على كتفه، ومن كانت تحيط به الكتب ومشاريع الحياة، صار يُحصي الأنفاس خوفًا من قذيفة أو صاروخ لا يُفرّق بين أحد.

الواقع هنا لا يشبه الحياة. هو تعايش قسري مع الخوف، مع الفقد، مع جرح لا يلتئم. كنت في السابق أسمع عن كلمة "نزوح" في نشرات الأخبار، اليوم أنا أعي معناها الحقيقي. أن تُقتلع من مكانك، لا لأنك اخترت الرحيل، بل لأن الموت اقترب جدًا.

غزة التي كانت تبني، اليوم تُهدم. التي كانت تُعلّم، اليوم تُدفن جامعاتها تحت الركام. التي كانت تزرع الأمل، اليوم تبحث عن كسرة خبز. أحلام شبابها باتت محصورة في الأمن والأمان لا أكثر. لا أحد هنا يحلم بوظيفة مرموقة أو شهادة عليا. كل ما نريده هو بيت آمن لا نقصف فيه، فراش ننام عليه دون أن نُفجع بصراخ الموت.

غزة، المدينة التي أُرهقت من الصمود، لم تعد فقط مكانًا للصراعات، بل أصبحت مرآة لإنسانية تتآكل أمام مرأى العالم، بصمتٍ مريع.

منذ أكثر من عام ونحن نُعذّب، نُجوع، نُقهر، نموت ببطء تحت أغطية ممزقة صيفًا وشتاءً. نعيش داخل خيام لا تقي من برد ولا حرّ، في أرض غريبة علينا كأنها لا تعرفنا، ولا نعرفها. لا نعلم أين المفرّ، ولا إن كان هناك مفر أصلًا. قلوبنا متعبة، مثقلة بالوجع، ومشهد الشوارع يضاعف ألمنا؛ عائلات كاملة تفترش الأرض، وعيون تنظر في الفراغ وكأنها تبحث عن بصيص أمل مفقود.

هل تدرك ماذا يعني أن تكون تائهًا، خاليًا من الإحساس؟ أن تشعر بأنك تجمّدت من الداخل، لا تبكي ولا تفرح، فقط تراقب يومك يمرّ كأنه لا يعنيك. لا شيء سوى الخوف.. نغزة قلبية تؤلمك فجأة، صداع لا ينفع معه أي مسكن.

لا نملك إلا الانتظار، وقلوبنا معلّقة في السماء، لعلّها ترسل معجزة توقف هذا الجحيم.

هل بقي شيء لم يحدث لنا في غزة؟

هل بقي نوع من الألم لم يزر قلوبنا؟

قُتلنا في البيوت وتحت الأنقاض، شُرّدنا في شتاء الخيام ولهيب صيفها، جُعنا، عطشنا، فقدنا الأهل والأصدقاء، تهدمت أحلامنا، طُمست ملامحنا.

كل سيناريو كارثي يمكن أن يخطر على بال بشر عشناه.

وكل شيء كنا نظنه مستحيلًا حدث.

هل ثمة سيناريو أسوأ مما نعيشه؟ لا نعلم. لكننا بتنا نخشاه، لأن كل مرة نقول: "هذه أسوأ لحظة"، تفاجئنا الحرب بأنها لم تبدأ بعد.

نحن لسنا أبطالًا خارقين، نحن بشر نحمل قلوبًا تتعب وتنكسر، لكن رغم كل هذا، ما زلنا نفتح أعيننا كل يوم على أمل أن لا نخسر المزيد.

نحن التغريبة.. غزة في مرآة الذاكرة الفلسطينية

حين تتحول الحكاية من مسلسل درامي إلى واقع حيّ نعيشه كل يوم.

كنا نشاهد التغريبة الفلسطينية على شاشة التلفاز، كأنها حكاية قديمة منسية، رواية عن زمن مضى، عن لجوء وشتات ومآسٍ ظننا أن الزمن تجاوزها. كنا نبكي على مشاهد التهجير، نتحسّر على البيوت التي هُدمت، ونشعر بغصة حين تفرّق الإخوة وتاهت العائلات في المنافي.

لكننا لم نكن نعلم أن هذا المسلسل لم ينتهِ، بل كان مجرد فصل أول من وجع طويل.

اليوم، نعيش التغريبة مرةً أخرى، لا كمشاهدين، بل كأبطالٍ في مسرحها الدموي. فالتاريخ يعيد نفسه، ولكن هذه المرة بشكل أقسى، وأوضح، وأشد ألم.

في كل لحظة قصف، في كل وداع شهيد، في كل نزوح جديد، نشعر أننا داخل مشهدٍ آخر من التغريبة، لكن دون نهاية أو شارة ختامية. الفرق الوحيد أن الشاشة لم تعد تفصل بيننا وبين الألم.


"هاي فلسطين، يمّا مش كل يوم بتلاقي بلاد زي بلادنا، يمّا."

هذه الكلمات تردد في ذهني كل يوم، وكأنها صدى، تذكرني كم أن فلسطين تبقى مختلفة عن كل شيء آخر.

"القضية أكبر من حط خيمة وشيل خيمة."

هذه الجملة تظل عالقة في ذهني أيضًا، تثير فيَّ تساؤلات عن عمق القضية الفلسطينية، وكيف أن المعاناة ليست مجرد مشهد من لجوء مؤقت، بل هي جزء من قضية مستمرة تتجاوز الخيام إلى الهوية، الأرض، والكرامة.

الذاكرة مستمرة.. والمأساة أيضًا. نحن لا نبالغ حين نقول إن غزة تعيش تغريبتها الخاصة، لأن الملامح واحدة، والمصير ذاته، والوجع ما يزال يتكرر كأن لا أحد يسمع.

حين ينطفئ النور وتُحبس الأرواح خلف ظلال الأسى

أحب الحياة كما هي، أبتسم رغم التعب، وأسعى بإصرار، مؤمنة أن ما تأخّر عني هو خيرٌ لي.

كنت أملأ أي مكان أكون فيه بطاقة من الأمل، أساعد من حولي، وأعطي من قلبي، وأشارك ما أعرف، لأنني لا أحب أن أبخل بشيء.

لكن الحرب…

الحرب لم تسرق فقط تفاصيل الحياة، بل سرقتني من نفسي.

جمّدت مشاعري، عطّلت روحي، جففت نبع الشغف داخلي.

لم تُبقِ لي إلا الخوف والألم والقلق.

انكسارات لا تُرى بالعين

هذه الحرب لم تسرق المنازل فقط، بل سرقت منّا ما هو أثمن:

أحلامنا الصغيرة، شغفنا البريء، ثقتنا بالحياة.

ما عاد في القلب شيء يحتمل، وما بقي في الروح سوى خوفٍ مزمن.

أن تفقد بيتًا مؤلم، لكن أن تفقد نفسك.. تلك فاجعة لا تُروى.

كل ما كنت أحبه صار عبئًا.

كل طموح بنيته في قلبي صار مجرد ذكرى تزعجني لأني لا أستطيع الوصول إليها

ربما يعود الشغف.. حين نعود نحن

رغم كل شيء، ما زلت أتنفس.

ما زال هناك شعاع صغير في داخلي أتمسك به.

قد لا أملك رفاهية الأحلام الآن، لكنني أملك الرغبة في النجاة.

وأؤمن، رغم انكساري، أن النور لا يموت، بل يختبئ في زوايا القلب، ينتظر لحظة أمان ليظهر من جديد.

كلمة أخيرة من بين الركام

نحن لسنا ضحايا فقط، ولسنا مجرد أرقام تُحصى.

نحن أرواح نازفة، نحارب للبقاء، ونحاول أن نحبّ الحياة رغم أنف الحرب.

أنا "نور"، لا أزال هنا، بين كل هذا الركام، أكتب كي أقاوم النسيان، وأُخبر العالم أنني ما زلت أحلم، فقط بطريقة أخرى.