عبقريتك الإبداعية المراوغة - إليزابيث جيلبرت

نص الخطاب

أنا كاتبة. تأليف الكتب هي مهنتي، بل هي بالطبع أكثر من ذلك. فهي أيضاً حبي الدائم في الحياة وهوسي. ولا أتوقع لهذا أن ‏يتغير أبداً.‏

‏ لكن بعد قولي هذا، شيء غريب حدث مؤخراً في حياتي ومسيرتي المهنية جعلني أعيد تقييم علاقتي بشكل كامل مع هذا ‏العمل.‏‎ ‎كان الشيء الغريب الذي واجهته هو بأنني مؤخراً قمت بتأليف كتاب، مذكرات بعنوان "طعام، صلاة ، حب"، والذي على ‏خلاف كتبي الأخرى جميعها ، انتشر في أرجاء العالم كافة، بل ولسبب من الأسباب أصبح كتاباً ضخماً، ومن أفضل الكتب ‏مبيعاً على مستوى العالم. ولذا وأينما توجهت الآن، يعاملني الناس على أنني قد انتهيت. ‏

حقاً! وكأنني قد قُضي علي، بشكل كامل! فهم يقتربون مني، وقد تملكهم القلق ومن ثم يسألونني: "ألا تخافين بأنك لن تتمكني من ‏تأليف شيء يتفوق على هذا الكتاب؟ أولست خائفة بأن تمضي حياتك كاملةً في الكتابة وأنت تعلمين بأنك لن تتمكني من تأليف ‏كتاب قد يهتم له أي أحد في العالم أجمع، أبداً؟".

هذا الأمر مطمئن جداً، أتعلمون؟

كان يمكن للأمر أن يكون أسوأ من هذا، إذ أنني أذكر قبل ما يقارب العشرين عاماً، عندما كنت في سن المراهقة، وبدأت في إخبار الناس بأنني أرغب في أن أغدو كاتبة؛ قوبلت بنفس ردة الفعل وبذات الخوف. وكانوا يقولون : "ألا تخافين ألا تنجحي أبداً، ألا تخافين بأن الخزي من الرفض قد يقتلك؟ وبأنك ستمضين حياتك في هذا الحرفة دون نتيجة وستموتين على كومة من الأحلام ‏المحطمة وفمك مليء بمرارة الفشل؟‏".

الجواب المختصر لجميع هذا الأسئلة هو: نعم!

نعم، أنا خائفة من كل هذه الأمور، ولطالما كنت كذلك. وأنا أخاف أيضاً من أمور أكثر من ذلك بكثير، أمور لن يستطيع الناس ‏توقعها. كخوفي من الطحالب وأشياء مخيفة أخرى. ‏

لكن، عندما يتعلق الأمر بالكتابة، فإنّ ما كنت أفكر به مؤخراً وأتساءل عنه هو لماذا؟ هل هذا الأمر عقلاني ، هل من المنطقي ‏لأي شخص أن يكون خائفاً من العمل الذي خُلق من أجله؟ وما هو بالضبط الشيء الذي يجعل من المغامرات الإبداعية أمراً يوترنا ليصبح كل منا قلقاً على سلامة الآخر العقلية بشكل مغاير لأي عمل آخر. أوتعلمون؟

‏ كوالدي على سبيل المثال، فقد كان مهندساً كيميائياً ولا أذكر أبداً في أي من سنين عمله الأربعين أن سأله أحدهم "إن كان خائفاً من ‏أن يكون مهندساً كيميائياً" أو "كيف تسير الأمور فيما يخص انقطاع الإلهام في الهندسة الكيميائية يا جون". لم يحدث هذا الأمر ‏أبداً. لكن وكي أكون عادلة، فالمهندسون الكيمائيون لم يكتسبوا على مدار القرون سمعةَ مدمني الكحول والمجانين والمكتئبين.‏

نحن الكتّاب، نمتلك هذا السمعة ، وليس الكتّاب وحدهم بل الأشخاص المبدعون من كافة التخصصات -على ما يبدو- يمتلكون ‏السمعة بأنهم غير متزنين عقلياً بشكل كبير. وكل ما عليك فعله هو الاطلاع على أعداد العقول العظيمة في القرن العشرين ‏وحده والتي توفي أصحابها في شبابهم وغالباً بأيديهم. ‏

وحتى الذين لا يقدمون على الانتحار منهم، يبدو على محياهم بأن موهبتهم قد أنهكتهم. نورمان ميلر -وقبيل وفاته- قال في مقابلته ‏الأخيرة : "كل كتاب من كتبي قتلني أكثر قليلاً". إنه لتصريح استثنائي عن العمل الذي امتهنته طوال حياتك. لكننا لا نحرك ‏طرفة عين عند سماعنا أحدهم يقول هذا، لأننا سمعنا كلاماً مشابهاً مرات عديدة وبشكل ما أصبحنا ضمنياً متقبلين لفكرة أن الإبداع والمعاناة يرتبطان بشكل ما، من حيث الطبيعة، مع الإبداع الفني الأمر الذي لا بد أن يفضي إلى العذاب في نهاية المطاف. ‏

والسؤال الذي أرغب في توجيهه للجميع اليوم هو: هل توافقون‎ ‎جميعكم على هذه الفكرة؟ هل تتقبلون هذا الأمر؟ ‏

لأنكم إن نظرتم لها عن قرب ستعلمون بأنني لا أتقبل هذا الافتراض. وأعتقد بأنه شيء بغيض وخطير أيضاً. ولا أود ‏له أن يدوم حتى القرن القادم. أعتقد بأنه من الأفضل أن نشجع مبدعينا من ذوي العقول العظيمة لكي تحيا. ‏

وأنا أعلم بالطبع بأنه في حالتي ووضعي سيكون من الخطير جداً بالنسبة لي الانقياد نحو درب مظلم من الفرضيات لاسيما وأنني في وضع جيد في مسيرتي المهنية حالياً.‏

ما زلت شابة، فأنا أبلغ من العمر 40 عاماً. وما زالت أمتلك أربعة عقود للعمل على أقل تقدير بالنسبة لي. من الآن فصاعداً، ‏سيتم الحكم على أي شيء أكتبه من قِبل العالم بأنه العمل الذي جاء لاحقاً للنجاح الذي حققه كتابي السابق. أليس كذلك؟ وكي أكون ‏صريحة -إذ أننا جميعاً أصدقاء من نوع ما هنا- بأنه من الأرجح أنني قد حققت أعظم نجاحاتي مسبقاً. ‏

يا إلهي، يا لها من فكرة مخيفة! إنها من الأفكار التي تدفع المرء لاحتساء الجين في الساعة التاسعة صباحاً، وأنا لا أريد لهذا أن ‏يحدث لي. أفضل الاستمرار في أداء العمل الذي أحبه. ‏

ولهذا يصبح السؤال، كيف؟ ‏

بالنسبة لي، وبعد تفكير مطول، إنّ الأسلوب الذي عليّ اتباعه حتى أستمر في الكتابة، هو أن أشيّد بناءً يحيطني بهدف الحماية ‏النفسية. وعليّ بطريقة ما إيجاد طريقة ما لخلق مسافةٍ آمنةٍ بين نفسي أثناء الكتابة وبين كافة أنواع القلق الناجم عن خوفي من ردود ‏الفعل على ما أكتب من الآن فصاعداً. ‏

بينما كنت أبحث طوال العام الماضي عن طرق لكيفية تحقيق هذا الأمر، كنت اطلّع عبر الزمن وأحاول إيجاد مجتمعات أخرى ‏كان لديها أفكار أكثر عقلانية وأفضل من تلك التي لدينا لمساعدة المبدعين للتعامل مع المخاطر العاطفية التي ترافق الإبداع. هذا ‏البحث قادني إلى اليونان القديمة وروما. حيث سنعود إلى نفس النقطة.‏

في اليونان وروما القديمة، لم يؤمن الناس قط بأن الإبداع يأتي من البشر، بل كانوا يؤمنون بأنه جاء من وجود روح مقدسة أتت للبشر من مصدر بعيد ومجهول، لأسباب بعيدة ومجهولة كذلك.

اليونانيون، كما هو معروف، أطلقوا على هذا الوجود الروحي المقدس تسمية "الشياطين". أما سقراط، فقد آمن بأنّ له شيطاناً يلقنه ‏الحكمة من بعيد.‏

وكان للرومان الفكرة ذاتها، لكنهم أطلقوا على هذا الروح الإبداعية الحرة "عبقرية". وهذا رائع، إذ أن الرومان لم يعتقدوا فعلياً ‏بأن العبقرية هي فرد ذكي بعينه، بل على أنها كيان مقدس سحري، كما أنهم اعتقدوا بشكل حرفي بأنها تحيا في جدران مراسم الفنانين. إنها أشبه بدوبي قزم المنزل، والذي يظهر -وبشكل ما- يقوم على مساعدة الفنانين في عملهم ويساهم في تجسيد هذا العمل. ‏

هذا رائع، إذاً ها قد وجدت المسافة التي كنت أتحدث عنها. أي البناء النفسي لحمايتك من نتائج عملك.‏

والجميع يعلم كيف يقوم هذا الشيء بدوره، صحيح؟ على سبيل المثال، كان الفنانون القدماء محميين من بعض الأمور، كالنرجسية المفرطة، أليس كذلك؟ إن كان عملك بارعاً، فليس بإمكانك أن تنسب الفضل لك وحدك، فالجميع يعلم بوجود تلك الروح الإبداعية الحرة التي قامت بمساعدتك. وإن كان عملك فظيعاً، فذلك ليس خطأك بالكامل، إذ يعلم الجميع بأن ‏روحك المبدعة هي فاشلة -نوعاً ما.‏

هذا ما اعتقده الناس بخصوص الإبداع في الغرب لزمن طويل، ومن ثم جاء عصر النهضة وتغيّر كل شيء. غدت لدينا تلك الفكرة ‏المهمة والتي تقضي بأن نضع الإنسان مركزاً للكون، ليصبح أهم من الآلهة ومن أسرار هذا الكون نفسه، ولا مزيد من الكائنات السحرية ‏والتي تُلقَن من قبل الآلهة. وكانت هذه بداية الإنسانية العقلانية، وبدء إيمان الناس بأن الإبداع هو نتاج الشخص نفسه ‏بشكل كليّ. وللمرة الأولى في التاريخ، بدأتَ تستمع للناس وهم يشيرون لهذا الفنان أو ذاك بالعبقري بدلاً من امتلاكه روحاً إبداعية. ‏

ودعوني أخبركم، بأنّ هذا كان خطأ فادحاً. ‏

أنا أعتقد بأن السماح لشخص ما ‏‎- ‎‏هو أو هي- بالإيمان بأنه الوعاء أو ينبوع وجوهر ومصدر السر المقدس والإبداعي ‏والمجهول هو مسؤولية عظيمة لوضعها على النفس البشرية الهشة. بل إنها تشبه طلبك إلى أحدهم بأن يبتلع الشمس. فذلك ‏يقوم على تشويه غرور المرء، ويقوم على خلق كل تلك التوقعات المستحيلة عن الأداء. وأنا أعتقد بأن الضغط هو ما كان يقتل ‏فنانينا على مدى الخمسمائة عام الماضية.‏

وإن كان هذا صحيحاً -وأعتقد بأنه كذلك- فالسؤال سوف يغدو، ما العمل الآن؟ هل بإمكاننا التعامل مع هذا الأمر بشكل ‏مختلف؟ ربما بعودتنا إلى الفهم التاريخي عن العلاقة بين الإنسان والسر الإبداعي، وربما لا. ربما ليس بمقدرونا أن نمحو 500 ‏عام من المنطق الإنساني بخطاب واحد مدته 18 دقيقة. ولربما أن هناك بعض الأشخاص من بين هذا الجمهور سيطرحون شكوكاً ‏علمية منطقية عن فكرة الجنيّات اللاتي يتبعن البشر ويسكبن عصيرهن على أعمالهم وأشياء أخرى. وعلى الأرجح بأنني لن ‏أقنعكم جميعاً بهذا الأمر.‏

لكن السؤال الذي أريد أن أشير إليه هو: لمَ لا؟ لما لا ننظر للموضوع بهذه الطريقة؟ فهذا يبدو منطقياً بقدر أي أمر سمعته على ‏الإطلاق في ما يتعلق بتفسير الجنون المطلق في اتباع الهوى أثناء العملية الإبداعية. عملية يعرفها كل من حاول صنع شيء ما -وهو الأمر الذي بإمكاننا أن نقوله عن الجميع هنا- كما يعلم هذا الشخص بأنها ليست منطقية على الدوام بل إنها قد تغدو أحياناً خارقة في الحقيقة. ‏

مؤخراً، التقيت بالشاعرة الأمريكية الاستثنائية روث ستون، والتي تبلغ الآن من العمر 90 عاماً، والتي كانت شاعرة طوال حياتها. أخبرتني بأنها كبرت في ولاية فيرجينيا الريفية، وأنها عندما كانت تعمل في الحقول كانت تشعر بقصيدة تأتي ‏إليها من الطبيعة وتستمع إليها. ‏

‏كانت هذه القصيدة كعاصفة مدوية من الهواء، وكانت تعصف بها في قلب الطبيعة، وكانت تشعر بها وهي قادمة إذ كانت الأرض تهتز ‏أسفل قدميها ولم يكن لديها في تلك اللحظة - بكلماتها حرفياً- أي خيار سوى أن تركض بأقصى سرعتها. ‏

وكانت بالفعل تركض مسرعة نحو المنزل والقصيدة تلاحقها، وكل ما عليها كان هو أن تحضر ورقة وقلم رصاص ‏بالسرعة التي تسمح لها أن تدون القصيدة أثناء دَوِيَّها على تلك الورقة. وفي الأوقات التي لا تسرع بها وتركض وتركض دون أن تلحق ‏بالقصيدة ، كانت الأخيرة تعبر من خلالها إلى الأرض دون أن تدونها، إذ تكمل طريقها لتغدو ملكاً لشاعر آخر.

ومن ثم، هنالك تلك الأحيان -هذا الجزء الذي لن أنساه طيلة حياتي- التي أخبرتني فيها بأنها تكاد تفقدها. أليس كذلك؟ إذاً، هي الآن ‏تركض نحو المنزل وهي تبحث عن الورقة والقصيدة تعبر من خلالها في ذات الوقت الذي تمد يدها لتمسك بالقلم في الوقت ذاته ‏الذي تعبر القصيدة من خلالها، فتمد يدها لتلتقطها. تلتقط القصيدة من ذيلها وتعيدها لجسدها من خلال كتابتها على الورقة. وفي ‏تلك اللحظة، تطفو القصيدة على الورقة بشكل مثالي من غير أذى ولكن عكسياً، أي من الكلمة الأخيرة وحتى الأولى. ‏

ذلك ليس الشكل الكامل للعملية الإبداعية الخاصة بي، فأنا لست خط النقل بل إنني الناقل. ومن أجل أن أعمل؛ فعلي أن أستيقظ في ذات ‏الوقت يومياً وعلي أن أعرق وأعمل وأعبر من خلالها بصورة خرقاء. لكن حتى أنا بكل عنادي علي أن أمر بشكل خفيف على هذا ‏الشيء في بعض الأحيان. وإني لأعتقد أن الكثير منكم قد فعل ذلك أيضاً.‏

أتعلمون، حتى أنا كان لدي عمل أو فكرة عبرت من خلالي من مصدر ليس بإمكاني تحديده صدقاً، وما هي ماهية هذا الشيء؟ ‏وكيف نرتبط به بطريقة قد تجعلنا نفقد صوابنا؟ لكن في الحقيقة ،هذه الطريقة هي ما تبقينا سليمي العقل. ‏

وبالنسبة لي، أفضل مثال معاصر على كيف نطبق هذا الأمر هو الموسيقي توم ويتس، والذي أتيحت لي فرصة لقائه منذ سنوات ‏مضت عندما كنت أؤدي مهمة تتعلق بمجلة. وكنا نتحدث بهذا الموضوع، أوتعلمون، كان توم تجسيداً للفنان المعاصر ‏المعذب في معظم حياته الذي يحاول أن يسيطر على النبضات الإبداعية والتي كانت جزءاً من ذاته. ‏

لكن مع تقدمه في العمر، أصبح أكثر هدوءاً. وفي يوم من الأيام كان يقود سيارته على الطريق السريع في لوس أنجلوس، وفي ‏تلك اللحظة، تغير كل شيء بالنسبة إليه. إذ عندما كان مسرعاً في طريقه وإذ به يسمع مقطعًا صغيرًا من لحن. والذي أتى إلى ‏رأسه كما يأتي الإلهام في العادة، مراوغاً ومحيراً. هو يتوق إليه، إنه رائع ولكن ليس لديه أي سبيل للوصول إليه. ليس لديه ورقة أو ‏قلم رصاص أو مسجلة. ‏

فيتراوده القلق القديم ويزداد التوتر الذي هو على شاكلة "سأفقد هذا الشيء وستطاردني هذه الأغنية للأبد. أنا لست جيداً بشكل ‏كافٍ، ولا يمكنني فعلها" وبدلاً من الهلع، توقف. لقد أوقف عملية التفكير تماماً وقام بشيء غير مألوف. ‏

نظر نحو السماء وقال: "لو سمحتِ، ألا ترين بأني أقود السيارة؟ هل أبدو لكِ كمن يستطيع كتابة أغنية في هذه اللحظة؟ إن ‏كنتِ حقاً تريدين أن توجدي، عودي لاحقاً في وقت أكثر ملاءمة، وقت يمكنني فيه الاهتمام بك. وفيما عدا ذلك، اذهبي لإزعاج ‏شخص آخر اليوم. اذهبي لإزعاج ليونارد كوهين". ‏

ومنذ تلك اللحظة تغيرت آلية عمله تماماً. ليس العمل بحد ذاته، إذ كان لا يزال في كثير من الأحيان مظلماً كما كان دوماً. لكن اختفت ‏الآلية والقلق الشديد المحيط بالعمل عندما جرده من عفاريته ومن العبقرية الإبداعية والتي لم تكن تتسبب إلا بالمتاعب، ‏وأعادها من حيث أتت وأدرك بأنه لا داعي بأن تكون جزءاً منه وأن تكون سبباً للعذاب. بل قد تكون شيئاً مميزاً غريباً وتعاوناً ‏عجيباً، إنه شيء شبيه بمحادثة تدور بين توم وشيء خارجي غريب والذي لم يكن توم ذاته تماماً. ‏

عندما سمعت بهذه القصة، بدأت بتغيير طفيف على آلية عملي أيضاً. ولقد أنقذتني هذه الفكرة مرة حتى الآن. أنقذتني في خضم ‏كتابتي لرواية "طعام ، صلاة ، حب" عندما سقطتُ في هوة من اليأس التي نسقط فيها جميعاً عندما نعمل على شيء ما ولا يأتي ‏لتبدأ بالاعتقاد أن هذا الكتاب سيكون كارثة، وأسوأ كتاب كُتِب على الإطلاق. ليس سيئاً فحسب بل الأسوأ على الإطلاق. وبدأت ‏بالاعتقاد أن علي التخلي عن هذا المشروع بشكل تام. 

لكن حينذاك، تذكرت توم وهو يحادث الهواء الطلق وجربتها. رفعت رأسي عن المخطوط ووجهت‎ ‎تعليقاتي نحو زاوية فارغة‎ ‎من الغرفة؛ وقلت بصوت عال "اسمع أيها الشيء، أنت وأنا كلانا نعلم بأنه إن لم يكن هذا الكتاب رائعاً فإنها ليست غلطتي وحدي، أليس كذلك؟ لأنه كما ترى فإني أضع كل ما في وسعي في هذا الأمر.‏‎ ‎‏وليس لدي أكثر من ذلك. إن كنت تريدها أن تكون أفضل، فلا بد ‏لك من أن تظهر وتقوم بالجزء الخاص بك من الصفقة. لكن إن لم تفعل ذلك أوتعلم ماذا؟ فليذهب كل شيء إلى الجحيم. لكنني ‏سأنتظر على كل حال لأنها وظيفتي. ورجاء أود من المحْضر أن يُظهر بأنني اليوم قد حضرت لأجل الجزء المتعلق بي من ‏العمل. ‏

لأنه في النهاية الأمر هو على النحو التالي، منذ قرون مضت في صحراء شمال أفريقيا، كان الناس يجتمعون لأجل رقصات ‏ضوء القمر، لأجل الرقصات المقدسة وللموسيقى والتي كانت تستمر لساعات وساعات حتى الفجر. كانت دوماً مهيبة، إذ كان ‏الراقصون محترفين وكانوا استثنائيين. أليس كذلك؟

ولكن في كل فترة، ولمرات نادرة جداً، كان شيء ما يحدث وأحد هؤلاء المؤدين يغدو خارقاً. وأنا أعلم بأنكم تعلمون ما الذي ‏أعنيه، لأنني أعلم بأنكم رأيتم بأم أعينكم في لحظة ما في حياتكم عرضاً من هذا النوع. لقد كان وكأنّ الزمن قد توقف، وكأنّ الراقص ‏بطريقة ما قد خطا في بوابة رغم أنه لم يقم بأي أمر مختلف عن ما يقوم به دوماً، أو ما قام به منذ 1000 ليلة مضت لكن في ذات ‏الوقت فقد أًصبحت الأشياء كافة منتظمة. وفجأة يُشبَّه لنا بأنه لم يعد مجرد إنسان، بل أنه قد أنير من الداخل ومن الأسفل ‏وبأن كل شيء قد اشتعل بالنار بأمر إلهي.

وعندما يحدث هذا الأمر، في ذلك الوقت، أدرك الناس ماهيته، أوتعلمون؟ لقد عرفوه باسمه. كانوا يضعون أيديهم ‏بأيدي بعضهم ويبدأون الغناء "الله، الله ، الله ، يا رب يا رب يا رب" هذا هو الله. ‏

ملحوظة تاريخية طريفة ومثيرة للفضول: عندما قام المغاربة بغزو جنوبي إسبانيا، أخذوا هذه الطقوس معهم واللفظ "الله" ‏تحول مع الزمن من الله إلى "أوليه، أوليه، أوليه ‏Olé‏" والتي لا زال بإمكانكم سماعها في مصارعة الثيران ورقص الفلامنغو، ‏في إسبانيا، عندما يقوم مؤدٍّ بعمل شيء خارق وسحري "الله، أوليه أوليه، الله، رائع، برافو". هو شيء غامض لا يمكن ‏استيعابه، وها هو ذاك، لمحة عن الله. وهو شيء رائع، لأننا في أمس الحاجة إليه. ‏

لكن الجزء المحير يأتي في صباح اليوم التالي، للراقص نفسه، عندما يستيقظ ليكتشف بأن هذا هو يوم الثلاثاء الساعة الحادية عشر ‏صباحاً وهو لم يعد يمثّل لمحة عن الله. هو مجرد إنسان هرم فانٍ بركبتين متضررتين، ولربما لن يصل إلى هذه النشوة مرة ‏أخرى، ولربما لن يرتل أحدهم باسم الله مرة أخرى إذا ما دار، إذاً ماذا سيفعل لبقية حياته؟

إنه لأمرٌ صعب، هو واحد من أكثر الأمور ايلاماً والتي عليك التصالح معها في الحياة الإبداعية. لكن ربما ليس عليه أن يكون ‏مليئاً بالمعاناة، فإن آمنت منذ البداية بأن الجوانب الاستثنائية من كينونتك لم تأتِ منك، بل أعارها لك مصدرٌ ‏لا يمكن تخيله لفترة رائعة من حياتك وسيتم تمريرها لأشخاص آخرين عند انتهائها منك. أوتعلم، إن بدأنا بالتفكير بها على هذا ‏النحو فسيختلف كل شيء.‏

بدأتُ بالتفكير بالأمر على هذا النحو، وهذا بالتأكيد ما كنت أفكر فيه في الأشهر القليلة الماضية وأنا أعمل على الكتاب الذي ‏سينشر قريباً، والذي سيكون بشكل خطير ومخيف؛ المنتظر اللاحق لنجاحي الغريب. ‏

وما يجب عليك أن تكرره عندما تتعب نفسياً بسبب هذا الأمر هو ألا تخاف وألا تثبط همتك فقط بل أن تقوم بما يتوجب عليك، وأن ‏تستمر في العمل على الجزء المتعلق بك، مهما كان. إن كان عملك هو أن ترقص، فقم برقصتك. وإن كانت العبقرية المقدسة ‏المخصصة لك قررت أن تدعك تأخذ نظرة خاطفة من الدهشة لدقيقة واحدة فقط من أجل جهودك فـ "أوليه" لك. ‏

أنا أؤمن بهذا، وأشعر بأنه لا يد لنا من تدريسه. "أوليه"، من أجلك ومن أجل الحب الإنساني المطلق والعناد، من أجل أن تغدو مرئياً. 

شكراً لكم.‏

المصدر:  

“Your Elusive Creative Genius” by Elizabeth Gilbert