هل يمكن لجيناتنا أن تدفعنا إلى القتل؟

كثيرًا ما يتساءل الخبراء في الأوساط العلمية حول قدرة الإنسان على فعل الشر. يتساءلون ما إذا كان أحدنا يولد معاديًا للمجتمع، مجبولًا على العنف، ميّالًا إلى السلوك الإجرامي، أم أنه بطبعه وُلد مسالمًا، ينحاز لفعل الخير والتماهي مع المجتمع.

يتساءلون أيضًا عن مصدر العنف ومورثاته؛ البيولوجية والثقافية والاجتماعية، وعن ما إذا كانت الجينات هي التي تورثنا تلك النزعة أم أن المجتمع يتحمل تلك المسؤولية؟

ولكي نباشر الحديث حول ذلك، علينا أولًا أن نستشير علم الوراثة حول سؤال كان موضوع بحث طويل في الوسط العلمي منذ قرون؛ وهو كيف يمكن لجيناتنا الوراثية أن تكون فاعلًا رئيسًا يقودنا نحو كل السلوكيات التي نسلكها في حياتنا، سواء أكانت إجرامية أم غير ذلك؟

ومن أجل ذلك، علينا أن نتعرف على معلومات أساسية حول كيفية عمل الجين والجينوم البشري.

الجينوم البشري

الجينوم الوراثي

يمكن تعريف الجينوم ببساطة بأنه مجموع الجينات التي تتواجد في نواة الخلية والتي تقدر بحوالي 20-25 ألف جين، كلها مرتبة ترتيبًا دقيقًا على هيئة 23 زوجًا من الكروموسومات، 22 منها مسؤولة عن إعطاء المظهر الخارجي شكله، والواحد المتبقي هو ما يحدد كون الكائن ذكرًا أو أنثى.

يعتبر الجينوم البشري المادة الوراثية المكونة من الحمض النووي منقوص الأوكسجين والذي يتم اختصاره إلى DNA، والذي عُرف على شكل أيقونة شهيرة لسلم لولبي، يعد ذلك السلم جميل الشكل هو المحدّد الرئيس للشفرة الوراثية، التي عليها قد كُتبت السيرة الذاتية الكاملة للنوع البشري.

تلك السيرة التي تحكي قصة أسلافنا، مرورًا بالوقائع التي مروا بها، وصولًا إلى اللحظة الأزلية الحالية من هذا العصر الذي نعيشه. دُوّنت تلك الأطنان من المعلومات بلغة جميلة تتألف من أربعة أحرف: A - T - C - G، والتي تعد اختصارًا لتسميات كيميائية هي:

  •  الأدينين
  •  الثايمين 
  • الجوانين 
  • السايتوسين

تتتابع هذه الحروف تتابعًا طويلًا جدًا يصل إلى قرابة الثلاثة مليارات حرف، مشكلة كمًّا هائلًا من البيانات هو خط مسيرتنا كنوع بشري.

الجميل في هذا أن كل خلية في جسم الإنسان لها نسختها الخاصة من هذا الكتاب العظيم، وإن انقسمت خلية ما أو ماتت، تحل محلها أخرى تعيد نسخ هذه المعلومات كلها في عملية تتم في غضون بضع ساعات أو أقل.

خلال عملية النسخ الطويلة هذه والتي تكون بدقة عالية جدًّا، تحدث بعض الأخطاء، تلك التي نطلق عليها اسم "الطفرات". يقدر العلماء أنه في كل عملية نسخ تحدث حوالي ثلاث طفرات، وبعد تراكم العديد من هذه الأخطاء يظهر لنا أحد الأمراض أو العلل، والتي نحن بصدد معرفة القليل حول أحدها.

جين المحارب

جين المحارب، أو جين القتل، أو جين الإجرام، أو مورثة MAOA، سمّها ما شئت، هي عملية حدوث خلل طفرويّ على مستوى الجينات. تجعل هذه الطفرة صاحبها يمتلك سلوكًا معاديًّا للمجتمع، ولمّا كان الإنسان كائنًا جينيًّا يتحرك بموّرثات هي التي تتحكم فيه، فإنّ الأفعال التي يقوم بها تكون الجينات هي السبب الرئيس في حدوثها، إلى جانب عوامل أخرى قد تلعب دورًا ثانويًّا أو حتى ثالثًا.

بدأت القصة في بدايات التسعينيات من القرن العشرين وتحديدًا سنة 1993 من بيت أسرة هولندية كان رجالها يحملون مورثة MAOA، اكتشف الأطباء ذلك حين قامت العديد من نساء العائلة بالاستشارة الطبية حول ما إذا كان نسلهن سيحمل تلك الصفات العدوانية التي يحملها ذكور العائلة.

قام الأطباء بالبحوث الوراثية في تاريخ العائلة واكتشفوا أن هناك صفات عدوانية يحملها أغلب الرجال الذي ينتمون إليها.

ومما زاد قلق الأطباء ولفت انتباههم أن هؤلاء الرجال كانوا أكثر عرضة للتصرفات العدوانية في أي وقت.

وعندما قاموا بالتحري عن تاريخهم الإجرامي، وجدوا أن البعض منهم كان يهدد الآخرين بالقتل والتعدي، وبعضهم قام بإشعال الحرائق في البيوت، وتعدى الأمر إلى قيام أحدهم باغتصاب أخته.

أثارت هذه المعلومات الطبية انتباه علماء الوراثة وبدأوا يتساءلون ما إذا كانت الجينات التي ورَّثَها أسلاف المصابين أبناءهم هي السبب في نزوعهم إلى الإجرام أم أنها صفات طبيعية يتم تبنيها طوعًا من طرف الرجال.

راق الأمر لعالم الوراثة الهولندي Han G Brunner وقام بالتحري حول الموضوع. درس التاريخ الطبي للعائلة وبعد البحث المطول حول الموضوع نشر على موقع المكتبة الوطنية للطب يقول:

لقد رصدنا مؤخرًا ارتباطًا وثيقًا بين السلوك غير الطبيعي وبين نقص الأوكسيد أحادي الأمين MAOA في العديد من ذكور العائلة الهولندية قيد البحث، الذي لاحظناه هو اختلاف الذكور المصابين عن غير المصابين بصفات التخلف العقلي، وزيادة السلوك الاندفاعي -الذي يعني السلوك العدواني والسلوك الجنسي غير الطبيعي.

كان هذا في أول الأمر، فقد تم إجراء بحوث حديثة حول الموضوع، أشرف عليها برونر وزملاء له من معهد MIT.

توصل الباحثون إلى أن هذه المورثة تقوم بتفكيك بعض المواد الكيميائية في الدماغ مثل السيروتونين والدوبامين، الأمر الذي يجعل الشخص يصاب باضطراب يحيله بعد ذلك إلى التصرف بعنف وعدوانية تجاه الآخرين.

لكن يبدو أن هناك خبرًا سارًّا وهو أن الدراسات قد توصلت إلى أن هذا الجين يعتبر من الجينات المتنحية، بمعنى أن الرجال الحاملين فقط لهذا الجين هم من يميلون إلى هذا السلوك الاندفاعي، وأن النساء اللاتي يحملن هذه المورثة غير معرضات لهذا الخلل. بل توجد دراسات غير مثبتة لحد الآن تقول أن النساء الحاملات لمورثة MAOA هن أكثر سعادة من اللواتي لم يحملنها، وهذا ما لم يتم التوصل إلى سبب حدوثه.

إذًا وكما رأينا، فإن الأبحاث تخبرنا أنه يمكن للجينات التي نحملها أن تجعلنا نقوم بأفعال خارج نطاق سيطرتنا، أو بالأحرى مملية علينا من فاعل لا يمكننا التحكم فيه.

وما زلنا ننتظر المزيد من الأبحاث في علم الوراثة، تلك التي يمكن أن تخبرنا المزيد حول هذه المورثة، وما هي الحلول المقدمة للرجال المصابين بجين المحارب.

وأنت عزيزي القارئ، ما رأيك؟ هل هي الجينات التي تشكل صفاتنا أم أن المجتمع هو الذي يفعل ذلك؟