الأطفال وحب القراءة

تعتبر القراءة في مرحلة الطفولة من أهم أدوات تحصيل المعرفة، وأحد أسباب نمو القُدرة التعبيرية وعاملًا مهمًا لزيادة الثروة اللفظيَّة، كما لها تأثير في تكوين الشخصية، كونها وسيلة اتصال وتعلم ذاتيٍّ، حيث تُشبع فيهم حب المعرفة والاستطلاع وتغرس في نفوسهم القيم والأخلاق وتنمي لديهم الإحساس بالجمال، بالإضافة إلى اعتبارها وسيلة تسلية ممتعة.

رغم هذه المميزات العديدة، إلا أنّ هناك عزوفًا مهولًا عن القراءة، وذلك راجع إلى المفاهيم الأولى التي قدمتها الأسرة للطفل في سنواته الأولى. وإذا كان كل علم لا يصح بناؤه إلا بمفاهيم تحفظ أسسه، فكذلك فعل القراءة، فتسميتنا له بأنه مجرّدُ هواية وتخصيص ما فضُلَ من الوقت له، أضاع عنه الكثير والكثير.

غرس البذرة

فالهواية لا نفعلها إلا في أوقات الفراغ، فإذا أوصلنا للطفل أن فعل القراءة هواية لا أقل ولا أكثر، فسيتعامل معه، أي فعل القراءة، كتعامله مع أي هواية أخرى، لا يلتجئ إليه إلا في وقت فراغه. بينما إذا غيرنا هذا التصور وقدمنا له فعل القراءة على أنه ضروري كالأكل، والشرب، والنوم وغيرها من الضروريات اليومية، حينها سنكون أمام نتائج مختلفة ومتغيرة عن الأول، حيث سيعي ذلك، وسيجد له وقتًا كما يجد للأكل والنوم، فيجعله ضمن أولوياته. إرساء التصور أو المفهوم أول ما يجب أن نبدأ به، غير أنه لوحده ليس كافيًا، فبناء المفهوم يعتبر غرسًا للبذرة، ولا بد أن تأتي بعده مرحلة السقي. فالبذرة إذا لم نتعهدها بالسقي، لن تنبت أو تكبر.

السقي والعناية

وهنا ننتقل إلى مرحلة أخرى، ألا وهي القدوة. قد يقول البعض أنَّ التربية بالقدوة غير مُجدية، لكن التجربة الحياتية تثبت العكس. وهذا ما نلاحظه في العديد من العائلات، فهناك ما يسمى بالرسائل الصامتة، بمعنى ما يراه الطفل في أسرته أو محيطه يظهر على أفعاله سواء بشكل علنيّ أو سريّ، وهنا يجب استغلال هذا الأمر بالشكل الإيجابي بأن تكون الأسرة قدوة له، فلا يعقل أن نقول له أن القراءة فعل ضروري ولم يقرأ الأم أو الأب قصة ولم يفتحا أمامه كتابًا.

إنّ الرسائل الصامتة أبلغ من العديد من المحاضرات والأوامر التي قد لا تلقى آذانًا صاغية، فأخذ كتاب وتقليب صفحاته أعظم من النصائح التي ستقدمها له عن أهمية القراءة. وهذا الأمر لا يتوقف على الأسر المتعلمة فقط، بل يشمل أيضا غير المتعلمة منها؛ حيث يمكنها أن تستفيد من ساعات قراءة ابنها والجلوس معه والاستماع له وهو يقرأ، فيُفيد ويستفيد. وهنا أذكر قصة لأمّ جاءت تتفقد مستوى ابنها في الفصل الدراسي، وقالت بالحرف: «أنا أمِّية ورغم ذلك أُجلس ابني بالقرب مني وأطلب منه أن يقرأ ويُسمِعني..». فقول هذه السيدة يلخص الكثير من الكلام. والقصص في هذا الموضوع كثيرة وعديدة، فللتربية بالقدوة دور مهم جدًا في المرحلة التي أسميناها: السقي والعناية.

ويمكن هنا أن نضيف مُدعِّما آخر، ألا هو حث الطفل على شراء الكتب وتهيئة مكان خاص بها، وجعله مسؤولًا عنها. مع الحرص على جعل قراءته متنوعة. ليس مُهمًّا حجم المكان بقدر أهمية ما سيخلِّفه هذا الفعل من آثار. فمرحلة السقي مرحلة مهمة، وطريقة السقي أهم، وكلما تميزت بابتكار ستكون أفضل وأنفع! فعندما يكون للطفل مكان يهرع إليه ويحس أن فيه أشياء تخصُّه، سيسعى إلى تطويره وإضافة الكتب إليه. إن هذا الأمر لن يكلفَ ميزانية ضخمة، والأسر غير مطالبة بابتكار أماكن كبيرة ومكلِّفة، فالأهم رمزية المكان وأثره على نفسية الطفل. وفي هذا الصدد يمكن البحث في الإنترنت عن أفكار لمكتبات بأشياء متاحة في كل منزل.

في مرحلة السقي، لا مانع من بعض السّماد كي نحصل على نتائج مثمرة. وذلك من خلال تقديم هدايا؛ كالكتب، سواء من أجل القراءة أو كمكافأة بعدما ينتهي الطفل من مطالعة كتاب أو مجموعة من القصص. إذا غرسنا البذرة من خلال بناء المفهوم أو التصور الصحيح، وتعهدناها بالسقي، سنكون أمام جني الثمار، وهي المرحلة الثالثة والأخيرة.

جني الثمار

في هذه المرحلة سنرى ذلك ينعكس على، سلوكياته، إدراكه، مستواه اللغوي، والذهني وغيرها من الجوانب. وهنا ينبغي التنبيه لشيء مهم جدًا وهو عدم استعجال جني الثمار والسقوط في مقارنة الطفل بغيره، فما من شخص إلا وله مميزات تختلف من شخص لآخر، حتى وإن لم نلحظها. ولا يجب أن يدفعنا عدم ظهور أو تأخر الثمار أن نتقاعس وننهال على الطفل بالقدح. بل على العكس من ذلك، يجب أن نراجع تصرفاتنا وأن ندعم طفلنا ونشجعه، ولا نستعجل الثمار كي نتجنب السقوط في لوم الطفل، وشحنه أكثر من اللازم، حيث يتم حرمانه من أوقات اللعب والراحة، والقراءة، القراءة ولا شيء غيرها، فنكون قد عبثنا بما فعلناه من قبل -سواء بقصد أو عن غير قصد- فنحطم شخصية الطفل، فتكون العواقب وخيمة إن استمر في القراءة.

في معاملاتنا مع الناشئة يجب أن نراعي العديد من الجوانب، فنحن نتعامل مع كيان وليس آلة، وبدل أخذ سياط اللوم وجلدهم بها، وإفقادهم الثقة بأنفسهم وقدراتهم، لم لا يكون الوقت فرصة سانحة لمراجعة تصرفاتنا؟ ولمَ لا نأخذ تلك السياط ونجلد أنفسنا فقد يكون التقصير منّا؟ فالقراءة كما قال "ألبرتو مانغويل": «مفتاح فهم العالم». فبها تتسع المدارك ويحسُن الفهم. وإذا ما سهرنا على تأطير الطفل بما يتناسب وقدراته، كنا في الغد أمام قارئ نهم منفتح مكتشف للعالم من حوله. وهذا ما ضمّه "مانغويل" في نصيحته الفريدة «اقرأ كي تحيا»، فالقراءة حياة.