بين الجوارب والمدارس

كيف بدأ الأمر؟

أعتقد أن الأمر في بدايته جرى هكذا: "ثلاثة جوارب بدينار"! فتتهافت الأمهات لشرائها استعدادًا لعودة أطفالهن إلى المدرسة، وتستمر هذه التحضيرات من ملابس وحقائب وبنطلونات "جينز" وأحذية برباط وجوارب طبعًا، يبدأ الدوام في محاولة ماكرة وتجريبية لاستعادة الأنظمة القديمة لاستمرار الحياة من بعد كوفيد-19 فأرى خبرًا عن طفل يضربه معلمه ويدفعه من مقعد إلى آخر، وبانت الآثار على خده وعينه!

الروتين السابق للحياة والمدرسة

شعور الأطفال بعد ارتداء كل ما اشترته لهم أمهاتهم سيكون عاديًّا وبديهيًّا في ظروف عاديّة، بل ومشجعًا لبداية سنة دراسيّة جديدة يرون فيها أصدقاءهم، يكبرون عامًا فتتغير احتياجاتهم وما يفضلون من أدوات مختلفة كشراء دفاتر المواضيع ذات الطوق السلكي الجانبي، والكتابة بأقلام الحبر مثلًا، أكثر ما قد يفكرون فيه هو مكان مقعدهم وبجوار من، من هم معلموهم وإن انتقلوا لمدرسة أخرى سيتعين عليهم أن يبحثوا عن معارف جدد وإثبات جديد لهوياتهم كنوع من الاستقلالية التابعة للفطرة البشرية، هذا الروتين المتبع من بداية شهر أيلول حتى حزيران من السنة القادمة ثم تأتي بعدها العطلة الصيفية ثم تنتهي فتأتي بعدها سنة دراسية جديدة وهكذا، بعيدًا عن كلام التنمية البشرية في اعتراضهم على فكرة "الروتين" لما يرون فيها من فشل في الإنسان وما إلى ذلك، ولكن هذا الروتين هو حياة بأكملها، حياة للطلبة وذويهم ومعلميهم وحتى أصحاب البقالات المجاورة للمدارس، هذا الروتين الذي يحمل في مبدئه شيئًا من القوانين والأنظمة المتعلقة بشتى الجوانب؛ وقت النوم ومواعيده، مدة المكوث على ألعاب الفيديو ومشاهدة التلفاز، أوقات تناول الوجبات الرئيسية، ورسمية الكلام والجلوس، وهذا الذي أود قوله.

رسميات الكلام

الطالب مهما كان عمره يتعامل يوميًّا مع ست جهات في الحد الأدنى مختلفة في العمر والقرابة والسلطة، وهذا ما يجعله يغيّر من أسلوب حديثه عند غضبه أو نقاشه، يغيّر من طريقة تعبيره عن احتياجاته مما يكسبه مهارات الحياة والتفاوض، وهذه الجهات هي: والداه، إخوته، أصدقاؤه، زملاؤه في المدرسة، معلموه، وصاحب البقالة! لا يعقل أن يتعامل الطالب مع والديه كما يتعامل مع معلميه أو مع إخوته مثلًا، فكلٌّ له سقفه الأعلى والأدنى وبالغالب يتحكم الطلب والسلطة في هذا السقف! يطلب الإذن لدخول الحمام بطريقة مختلفة عن تلك التي يطلب بها الغداء من أمه، يطلب من أبيه أن يعطيه مصروفه بأسلوب يختلف عندما يسأل صاحب البقالة أن يناوله علبة العصير من على الرف العلوي من الثلاجة! ولكن لا بأس، فأي خطأ يحصل اليوم بالإمكان معالجته غدًا فروتين المدرسة موجود، وإن كان متعلقًا بالخبرة فلا بأس أيضًا في العام القادم سيكون أكبر وسيعرف كيف يتحدث معهم وهذه في لغة الحياة تسمى الخبرة. ففي الواقع، هو كل يوم يتعامل مع ذات الجهات ولمدة سنة كاملة لذا سيكون قادرًا على تخطي المشاكل العاديّة! ولكن ماذا لو يكن هناك مجال ما للخبرة؟ لو تجمّد كل شيء في مكانه عامين؟ لو اختفت المدارس والروتين اللذيذ هذا؟ لو تغيّر كل ما هو عادي؟

الجلوس وما بعده    

اعتاد الطالب على التمدد على الأريكة، أن يأكل ويشرب ويشاهد ما يحب في وقت غير محسوب، أن يخلع عن كاهله بنطالًا مقيِّدًا للتمدد وإن كان من "الجينز" فهذا يسبب له حرارة شديدة، والجوارب تمنع حركة أصابع القدم. تستطيعون تخيل هذا الطفل بالمناسبة! لا لباس مقيدًا لا قوانين في الجلوس، حتى إن الأهل غضوا النظر عما يسببه أطفالهم من فوضى دائمة وذلك من باب ألا يزيدوا شعورهم بالسوء، فحقًّا كل ما يهمهم هو شعور فلذات أكبادهم بالراحة والأمن، فيكفي ما يرونه في أعينهم من ضياع وقلق!

العودة للمدارس.. إلى أين؟

تأتي المدارس بحلة جديدة بكمامة ومعقم وبروتوكولات صحية! يفرح الأهل رغم ذلك الخوف والقيود؛ فقد مر وقت لم يروا فيه إنتاجًا مهمًّا لأطفالهم، سيغيبون عنهم وفي هذا سرور ما ليس لأجل نكت الفيسبوك المتداولة؛ بل بما يمكن أن يحققه أطفالهم من استقلالية، ففي النهاية سيواجهون كل شيء وحدهم ويبتعدون وحدهم ويغامرون وحدهم، سيستقبلونهم بوجبة غداء عائلية وحكاية ما قبل النوم. ستتخلل يوم الجمعة رائحة العطلة. المدرسة ليست عقابًا ولا مكانًا لرمي الأهل أطفالهم بل هي حياتهم وروتينهم ووعيهم ومجتمعهم. 

لنعد إلى ذاك الطفل؛ لم يُصرَّح بعد بما قام به قبل أن يدفعه معلمه، ولكن لنتخيل ما قد يفعل: لم يجب عن سؤال معلمه؟ لم يعرف الإجابة؟ لم يُحضِر دفاتره؟ تحدث مع صديقه أثناء شرح المعلم؟ أخرج طعامه وبدأ يأكل أثناء سير الحصة؟ أيًّا كان ما فعله فما هو إلا استكمالٌ لروتين حياته السابق، فكما قلت هو معتاد على بيجامته القطنية المريحة ودون جوارب، وأريكته، وطعام أمام التلفاز وحديث متى شاء وصراخ ومزاح متى شعر بذلك، هو نسي فقط! أو بعبارة أكثر دقة هو الآن يجرب القوانين والأنظمة لأول مرة في حياته تقريبًا، من هنا سيبدأ يميِّز المتحدثين ويعرف الحديث وآدابه، ويعرف أن لكل مكان لباسه، وأن البيت هو جزء من الحياة، والمدرسة هي الجزء الآخر في مرحلته العمرية مبدئيًّا، ليس البيت فقط هو ما يعرفه! أظن أن المعلم هذا ارتكب جريمة مرعبة في حق ما لا يدركه الطفل من أنظمة وقوانين، ومثلهما الكثير.

المسألة في التجهيز للمدارس لا تقتصر على ثلاثة جوارب بدينار بل على "ست جهات بحياة".