"سعد الدين الشاذلي".. مهارة التخطيط والقيادة

لا تولد الانتصارات العظيمة على طرقٍ ممهدة، كذلك هو نصر أكتوبر المجيد؛ على الرغم مما قد واجهته الأمة المصرية من هزيمة عسكرية ونفسية تنال من ثقة الجندي المصري وإيمانه، وتجعل الطريق للنصر مليئًا بالصخور، كان أبطال هذه الحرب وقادتها يملكون من الإيمان والإرادة ما يجعلهم قادرين على تجاوز العقبات وتحطيم صخرة المستحيل، وتمهيد الطريق للوصول إلى النصر، وأحد هؤلاء العظماء الذين عملوا على تمهيد الطريق هو الفريق سعد الدين الشاذلي.

حالة الجيش بعد الهزيمة 

لم يكن تمهيد الطريق سهلًا، إذ كان الجيش المصري في حالة من الانهيار والعسكري والمعنوي إثر هزيمة 1967م، الهزيمة مرهقة على جميع المستويات، ولكن سرعان ما ارتفعت الروح المعنوية للجيش بعد ما نفذه من عمليات فدائية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في حرب الاستنزاف، فعادت الثقة وترسخ الإيمان بالنصر، ولكن لم تكن القدرة العسكرية كافية لتنفيذ خطة العبور واستعادة سيناء.

كيف بدأ التغيير؟

عند تولي الفريق سعد الدين الشاذلي رئاسة أركان حرب القوات المسلحة عام 1971م، عمل على رفع الكفاءة القتالية للقوات المسلحة من خلال عقد مؤتمر شهري يضم القيادات والمرؤوسين؛ لتناقش فيه المشاكل التي تواجههم ويساهم الجميع برأيه لحلها، وحرص على أن تؤدي المشاريع التدريبية دورها في تدريب الجنود على أشق الظروف حتى لا يتفاجئوا على أرض الواقع، ووضع القادة في مواقف جديدة قد تواجههم، ما يرفع من مستوى اتخاذ القرار لدى القادة.

كانت هناك ثلاث نقاط ضعف رئيسية بمثابة صخور التي تحول دون تنفيذ خطة استعادة سيناء، تتمثل في: ضعف القوات الجوية، وعدم توافر وحدات دفاع جوي صاروخي، وعدم قدرة معظم عربات القوات البرية على السير خارج الطرق المرصوفة، في وجود هذه النقاط يصعب تنفيذ جميع الخطط التي وضعت لاستعادة سيناء، فكانت هناك "الخطة 200"وهي خطة دفاعية، وخطة "جرانيت" وهي خطة تعرضية تعتمد على شن غارات على مواقع العدو في سيناء، وكانتا كما وصفهما الفريق الشاذلي "تفوق قدرتنا".

خطة المآذن العالية

لم تكن خطة "المآذن العالية" للفريق الشاذلي هي الخطة الأولى التي توضع لاستعادة سيناء، ولكنها كانت الأدق والأكثر واقعية؛ تعاملت مع نقاط الضعف وعملت على استغلال الموارد المصرية، واستغلت نقاط ضعف العدو بفعالية، إذ عمل على تنفيذ عملية هجومية محدودة يستغل فيها القدرات والموارد المتاحة، هدفت الخطة إلى عبور قناة السويس، واستخدام مضخات الدفع المائي التي ابتكرها المقدم باقي زكي يوسف؛ لتدمير خط بارليف واحتلاله، واتخاذ أوضاع دفاعية بمسافة 10 إلى 12 كم شرق القناة، وهي المسافة المؤمنة بواسطة مظلة الصواريخ المضادة للطائرات حتى يتم تجهيز القوات لتنفيذ المرحلة الثانية لاستعادة الأرض.

لا تضمن هذه الخطة استعاده سيناء كاملة، فما زال هناك ستون ألف كيلو متر مربع من سيناء تحت سيطرة إسرائيل، ولكن الهدف من الخطة كان الضغط على نقاط ضعف العدو المتمثلة في إحداث أكبر قدر من الخسائر البشرية، وإطالة مدة الحرب، فإسرائيل تعتمد دائمًا على الحروب الخاطفة؛ لأن طول مدة الحرب سوف يرهقها اقتصاديًا ويؤدي لتوقف البلاد، فمعظم القوى العاملة في مؤسسات الدولة هم ضباط وعساكر، فلم يكن تفوق إسرائيل في العدد ولا في الإيمان بأحقية النصر، ولكنه تفوق الأسلحة والمعدات التي تمدها بها أمريكا.

وكان من أهم ما تم التركيز عليه هو حرمان العدو من ما يتمتع به من مميزات، فعمل على إجباره على الهجوم بالمواجهة، حيث ستكون أجناب الجيش المصري على البحر المتوسط شمالًا وخليج السويس في الجنوب، بينما ستكون مؤخرة الجيش في اتجاه قناة السويس، وبذلك حرمه من أهم ميزة يعتمد عليها وهي الهجوم من الأجناب والالتفاف من الخلف، ويتم ذلك في حماية الدفاع الجوي المصري، إذ يحيد الطيران الإسرائيلي خلال المعركة، وبذلك حرمه من ثاني أهم ميزة يلجأ لها في المعارك التصادمية وهي الدعم الجوي السريع، ليأتي يوم السادس من أكتوبر وتنفذ الخطة بنجاح باهر.

الفريق سعد الدين الشاذلي خير مثال على حسن القيادة، إذ حرص منذ توليه منصبه على النقاش، وسماع الآراء وبث الثقة والإيمان في الجنود والضباط؛ للخروج بأفضل النتائج وتحقيق الأهداف المنشودة، ليرينا عظمة التخطيط الذي ينطلق من الواقع معتمدًا على ما هو كائن بالفعل؛ ويتغلب على المشكلات بحلول مصرية خالصة، واضعًا في الحسبان أدق التفاصيل والاحتمالات؛ ليخرج بخطة تتناسب مع قدرة قواتنا وتوقع أكبر الخسائر بالعدو؛ لذلك نستطيع أن نقول إن النصر لم يكن معجزة كما وصفه البعض، بل كان نتاج تخطيط متقن وأسلوب فريد في القيادة، أسلوب لا ينفرد بالقرار ولا يفرض رأيه.