الجمال.. آخر ضحايا الاستبداد
يخاطب أرواحنا ولا نفهم
تُطِل إحدى نوافذِ بيتِنا على الحديقة الخلفية لبيت الجيران. قطعةُ أرضٍ تُربتُها حمراء مَزروعةٌ بأشجارِ لوزٍ وليمون وشجيراتِ وَرْد. مقابل الحديقةِ عند الباب الخلفيّ للبيت توجد ساحةٌ صغيرةٌ يستقرُّ في إحدى زواياها كرسيّ وحيد، فوقَها مباشرة تقعُ في زاوية الطابقِ العلويّ للمنزل غرفةٌ صغيرةٌ نوافذُها كبيرةٌ يكسوها الغبار، أُلقيَت فيها دونما عناية قطعُ أثاث قديمة، ما يجعلك تُدرك أنّ أَهْلَ المنزلِ الذين يقيمون خارج البلاد معظم أيام السنة لا يُولون هذه الغرفة اهتمامًا مِثْلَ سائر الغرف.
لطالما أحببتُ الوقوف على النافذة وتأمُّلَ هذا المشهد الذي قد يكون عاديًا في نظر الكثيرين. شيءٌ ما فيه كان يجذبني في كل مرة أمرّ من أمام تلك النافذة، هل هو لونُ الأشجار الأخضرِ الجميل الذي تحنّ إليه أرواحنا حنينَ من أضاع جَنَّتَه؟ هل هو ذلك الكرسيّ الجالس في عُزلة أشتهيها؟ هذه بعض الأسباب حتمًا لكن لا، هناك شيء آخر. بقيت حائرةً في سببِ علاقَتي الغريبة مع هذا المشهد حتى قادتني الصّدْفة إلى مجموعة صور لمدينة القدس، و هناك وجَدْت ضالّتي.
العاديّ غير العاديّ
كانت صورًا لمعالم مختلفة للمدينة: المسجد القِبلي و قُبّة الصّخرة من زوايا مختلفة والسّوق وبعض المحلات، وكلها تبثّ في القلب ما تَبثّ من السّحر والحُب والحَسرة والشَّوق، لكن اثنتين أو ثلاثًا منها كانت عاديّة لدرجة غير عاديّة! كانت صورًا لبلاطات مكسورة في ساحات الأقصى، وشقوقٍ في درجاتها، وأسوار نَجَت من التّرميم المتكلّف. كانت صورًا لأشياء لم تستعدّ لالتقاط الصورة، أشياء لا يلاحظها معظم السيّاح، ولعلها لهذا السبب بالذات كانت أقدر على أن تنقل إليّ روح القدس كأنني عشت فيها ولو لثوان!
في كل مَعلم أثريّ أو وِجهة سياحية زرتها في حياتي كنت أبحث دائمًا عن شيء يمثّل الحياة الطبيعية اليومية لسكان ذلك المكان. تعجبني مثلاً أعمدةُ جرش الباسقات و تيجانها ذات التفاصيلِ المنحوتةِ بدقة، لكنني أمضي وقتًا أطول عند المغارات الصّغيرة المختبئة خلف الطريق الأثريّ الرئيسي. أحببت أيا صوفيا لكنني لا أذكر تفاصيله كما أذكر سطح ذلك المنزل الصغير الذي كانت تطل عليه غرفة الفندق في اسطنبول. لم أزر باريس و لم أجلس تحت بُرجها الشهير، ولا يغريني ذلك الصّرح الحديديّ الشاهق بقدر ما يغريني حيّ صغير مغمورٌ حوله أو قرية صغيرة في الريف، فلا المكان تزيّن ليجذبك أو يبهرك ولا الناس يعنيهم وجودك أصلاً.
تجميل أم تزييف؟
النفس توّاقة بالفطرة إلى كل ما هو جميل، ولا بأس بقليل من التجميل والتجمّل، لكن الجمال المصطنع مبالغٌ بتقديره على حِساب الجمال الطبيعي والعفوي، ولا أتحدث عن الجمال الظاهري للأشخاص فقط، بل الأماكن والعلاقات وحتى الذكريات! نحن نُبالِغ في تجميل كلّ شيء قبل أن نوثّقَه بالصّور. مُنذُ أيامٍ قليلة شاهدتُ مجموعةً من الأطفال في مرحلةِ الحضانة مع معلّمتهم في الحديقة، وعندما أرادت أن تلتقط لهم صورًا للذكرى كان عليهم أن ينظروا إلى الكاميرا ويقولوا “تشييييز”، وكأنّ جمال الأطفال في عفويتهم ولعبهم وضحكهم أو حتى في شقاوتهم البريئة لا يستحق التوثيق.
أجدُ جمالاً عظيمًا في الأشياء عندما تكون على حقيقتها، وبدون تكلف. كمنظر طفلةٍ في العيد شعرُها مجعّد لم تملّسه في اليوم السابق. أو صورةٌ عائلية بملابسِ النوم. لا أعلم لماذا نقيّد أنفسنا بقواعد دقيقة وصارمة ونجبر كل شيء على الالتزام بها وإلا ننفي عنه صفة الجمال. الأصل أن نترك ما لا يعجبنا على حاله لا أن نغيّره ونقولِبَه ليصبح شيئًا مختلفًا ينال إعجابنا. ولا أعلم أيضًا لماذا على الجمال أن يكون صاخبًا مبهرجًا. ربما يكون لهذا علاقة بهَوَس مشاركة الآخرين بتفاصيل حياتنا الذي انتشرت عدواه حديثًا، والذي كما أرى أفقد الأشياء حميميّتها.
الجمال في عين الناظِر كما يقال. ونحن ضَيّقنا مفهوم الجمال ليتّسع له أُفُقنا الضيّق. ومنَحْنا أنفسَنا الحق في تغيير وتزييف الكثير من الأشياء حولنا لتصبحَ أجدر بإعجابنا واستحساننا. أيّ استبداد هذا يا ابن آدم. وأيّ كِبْر.