خمسة عشر عامًا كسبتايتلر
"شو بدك تصيري بس تكبري؟"
ما تلبث أن تلتحق بمقاعد الدراسة وربما حتى قبل أن تفكّ الخط حتى يبدأ السؤال عن خططك المستقبلية. ورغم أن السؤال يأتي عادة في سياق مجاملة الأهل والتظاهر بالاهتمام بأطفالهم أو خلق حديث لكسر الصمت في مجلس ما، إلا أنه سؤال مهم في الحقيقة، وإن كان مبكرًا جدًا، فما هي إلا مسألة وقت قبل أن تجد نفسك على أعتاب الجامعة محتارًا في أي اتجاه تحرك دفة مركبك المهني. يبدأ الأمر من الإجابة الواضحة، فكل طفلة تريد أن تصبح معلمة وكل طفل سيصبح طبيبًا أو شرطيًا، أو على الأقل هذا ما كان عليه الوضع على أيامنا. ثم تكبر وتدرك شيئًا فشيئًا أن مهنة التعليم لا تسد الرمق، وأن الطب أصعب مما تصورته في عيادة الدكتورة اللطيفة التي تعطيك مصاصة بعد كل زيارة، وأن الناس تكره الشرطة -ليس كل الناس وليس كل الشرطة، لكنك ستشاهد ما يكفي من الأفلام ومقاطع الفيديو كي تعدل عن الفكرة.
وظيفة الأحلام
شخصيًا، لا أذكر أنني حلمت باحتراف مهنة معينة بعد التخرج. اخترت تخصصي لأنني أحب اللغات ولأن حمل شهادة في اللغة الإنجليزية في بلد كالأردن يفتح لك بابًا للعمل في مجالات كثيرة يمكنك اكتساب خبرة عملية فيها لاحقًا، فمع بعض الاستثناءات تبقى المقولة الشائعة: "ما حدا بيشتغل في تخصصه" صحيحة إلى حد كبير. تصورت نفسي مترجمة وموظفة علاقات عامة وغير ذلك، لكن العمل الذي لم أفكر فيه وتصورته خارج نطاق قدراتي كان العمل الذي سأقوم به مدة خمسة عشر عامًا بعد التخرج: ترجمة المواد المرئية والمسموعة أو الـSubtitling.
لا أعرف ما السبب الذي جعلها تبدو مهمة مستحيلة؛ ربما لم أتخيل نفسي واحدة من أولئك الجنود المجهولين الذين يقضون يومهم في مشاهدة الأفلام والمسلسلات وترجمتها في نفس الوقت الذي تستغرقه مشاهدتها. بدا عملًا أروع من أن أقوم به وأصعب من أن أقدر عليه، وظيفة الأحلام هذه تتطلب شخصًا عبقريًا وذا علاقات مع أشخاص من ذوي النفوذ في عالم الفن والإعلام.
لا داعي للقول إن كل هذا أبعد ما يكون عن عمل السبتايتلر، وسأستخدم كلمة سبتايتلر خلال هذا المقال لغياب ترجمة عربية مختصرة ومناسبة للكلمة. أحدهم ترجم السبتاتلينغ بـ"التذييل"، لكن كمترجمة تحترم نفسها سأمتنع عن استخدام لفظ "المذيّل". بالنسبة للكثيرين، السبتايتلر هو شخص يشاهد الأفلام طوال اليوم وهو يتناول "الفشار" و"حلوى الخطمي" ويكتب "تبًا" و"عليك اللعنة" وهي، في رأيهم، ترجمات خاطئة مضحكة. في الحقيقة، أجد أن فكرة الناس عن السبتايتلر تشبه إلى حد ما فكرتهم عن سائقي التاكسي: شخص يتجول في الشوارع (بيشم هوا) طوال اليوم، ويدردش مع الزبائن ما بين دعسة بنزين ودعسة بريك، بينما هي في الحقيقة مهنة تستنزف عموده الفقري وبالكاد تتيح له كفاف يومه. قد لا يكون هذا التشبيه منصفًا لسائقي التاكسي، لكن فيه شيئًا من الحقيقة.
وراء الشاشة
أولًا، السبتايتلر ليس شخصًا يقضي وقته في مشاهدة الأفلام والمسلسلات الجديدة قبل الجميع، وإن كان هذا يحدث في بعض الأحيان، وهي الأوقات التي تشعر فيها بأنك تحب عملك فعلًا، فها أنت تستلم الحلقة الجديدة المنتظرة من Game of Thrones وتشاهدها قبل أيام من آلاف من الجماهير المتحمسة، وكي يزداد شعورك بالأهمية والتفرد يكون الفيديو مدموغًا بعبارة For subtitling purposes only ، بل وقد يُطلب منك أن توقع اتفاقية عدم إفصاح عن المحتوى أحيانًا، والتي توقّعها بكل سرور طبعًا. هذا يحدث، نعم، لكن إن أردت تعريف السبتايتلر بما يشاهده فيمكنك القول إنه شخص مجبر على مشاهدة مختلف أنواع الهراء والتركيز في كل جملة وكل كلمة كي يتمكن من نقلها بأكبر دقة ممكنة إلى لغة أخرى. من باب الأمانة، يحدث كثيرًا ألا نتحرى الدقة، بل يحدث أن نخترع كلامًا لسد فجوات الكلام غير المفهوم في الفيلم، خاصة تلك الأفلام التي لا يتوفر معها نص مكتوب، وشعارك في هذه الحالة يكون: لن يموت أحد. في النهاية، أنت لا تترجم وثائق لوكالة ناسا ولا تقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان في كمبوديا، إنها جملة يقولها مراهق تافه، لصديقه التافه، في فيلم تافه اشترته محطة تبث التفاهة على مدار الساعة لملء ساعات البث.
لكن هذه التفاهة تستهلك الكثير من الوقت والجهد. مثل سائق التاكسي، وكأي وظيفة تتطلب الجلوس لفترات طويلة، ستجد مع الوقت أنك تتقاضى أجرًا زهيدًا مقارنة بالثمن الذي تدفعه على شكل آلام ظهر ٍوكتفين، ناهيك عن عينيك المنهكتين من التحديق في الشاشة لساعات متواصلة وضعف السمع والصداع من السماعة التي ترتديها على رأسك خلال العمل. ربما يمكنك تخفيف وطء ذلك باستخدام مكبرات صوت بدل السماعة إن كنت تعمل في مكتب منفصل أو من المنزل، أو أن تستثمر في سماعة باهظة الثمن عالية الجودة، الأمر الذي لا تتوقع من الشركة أن توفره لك، ألم أقل إن الأجر زهيد مقارنة بالثمن الذي تدفعه من صحتك؟ في الحقيقة، الأجر زهيد من دون مقارنة، كما هو حال الأجور في بلادنا عمومًا، لكن أي شخص يعمل في الترجمة ثم يجرّب العمل في السبتايتلنغ سيرى ذلك بوضوح أكثر، فرغم أنك في السبتايتلنغ تقوم بأعمال ضبط الوقت مع الكلام وتتعامل مع مواد مرئية ومسموعة، إلا أن الأجر المدفوع لكل كلمة (كما يُحسب السعر في أعمال الترجمة عادة) أقل بكثير مما يتقاضاه مترجم يحترم نفسه.
هذا عن الجهد، أما الوقت فقضية أخرى. أتذكر يومًا في بدايات عملي في هذا المجال حين عدت إلى البيت وسألتني أختي: "كم حلقة ترجمت اليوم؟"، وقلت لها إنني ترجمت عشر دقائق. طبعًا، كسبتايتلر محترف تصبح أسرع بمرور الوقت، ويصبح بإمكانك ترجمة حلقة من أربعين دقيقة في يوم عمل، لكنك في أي حال من الأحوال لن تترجم الأربعين دقيقة في أربعين دقيقة. هذا التصور الخاطئ يخلق أزمة بين المترجمين والإدارة، حين يكون مديرك لا يعرف كيف تتم عملية السبتايتلنغ أصلًا ويأتيك فجأة بخبر أن هناك عميلًا جديدًا يريد ترجمة فيلم خلال يوم واحد، وكلما ارتفعت مستويات الإدارة ازدادت التوقعات غير المنطقية منك كسبتايتلر. كما أن الوقت المطلوب للترجمة يختلف باختلاف محتوى المادة المطلوبة، فالوقت الذي يتطلبه فيلم رعب جلّ مشاهده عبارة عن صراخ وبكاء وموسيقى مريبة يختلف عن فيلم درامي يعتمد على الحوار بين الشخصيات. في الحقيقة، إعجابك بالفيلم من عدمه يصبح معتمدًا على كمية ونوعية الكلام فيه. قد تكون تحب أفلام بروس ويليس مثلًا لكن، صدقني، لن تحبّ أن تترجم فيلمًا له، بل ستفضّل أن تترجم مسلسلًا كويتيًا مليئًا بالمشاهد الصامتة لأشخاص يبكون ويتأملون، والتي لا تخدم أي هدف سوى إطالة الأحداث ومطّها لتغطي ثلاثين حلقة. كنتُ وما زلت من محبي برنامج السيارات Top Gear، لكن ترجمته كانت ولا تزال كابوسًا، وكذلك الحال مع برامج مسابقات الطبخ وبعض أفلامي المفضلة مثل Before Sunset.
الزبون دائمًا على حق
الأسوأ من ذلك أن بعض المحطات تصرّ على ترجمة برامج لا تصلح للترجمة أصلًا، مثل برنامج Saturday Night Live. هذا برنامج أمريكي موجه للأمريكيين، والشخص الذي لا يعرف السياق الأمريكي ولا يفهم لغتهم على الأرجح لن تصله الكوميديا التي يقدمها البرنامج من خلال الترجمة. كما ولا بد أن تواجه امتحانًا لمبادئك بين الحين والآخر، فيحدث أن ترفض ترجمة فيلم تجد أنه يبالغ في الإباحية مثلًا، أو موادًا تروّج للتطبيع، خاصة بعد إسهال السلام في المنطقة مؤخرًا وتسابق الدول على التطبيع مع العدو الصهيوني. للأمانة، لم أواجه موقفًا أرغمت فيه على ترجمة شيء رفضته، لكن هذا لا يعني أنك لا يمكن أن تجد نفسك في موقف صعب أحيانًا، أو أن تتورط في ترجمة فيلم رديء ذي رسالة رديئة، خاصة أنك لا تملك حرية مترجمي الإنترنت الذين يضعون آراءهم الشخصية في الترجمة، كأن تحذّر من مشهد قادم مخلّ بالحياء أو أن تكتب بين قوسين "أستغفر الله" أو "لعنهم الله" أو "فلسطين وليست إسرائيل"، فتواسي نفسك بأن ناقل الكفر ليس بكافر، وبأن أحدًا لن يشاهد فيلمًا بهذه الرداءة أو يؤثر فيه على الأرجح. وبالطبع يختلف الوضع باختلاف العميل، فبعض المحطات تطلب منك صراحة أن تترجم كل شيء من دون تشذيب ولا مواربة، على أن تتجنب الفجاجة، وعليك أنت كمترجم أن تقرر ما هو فج وما هو غير ذلك، رغم اختلاف مقياسك عن مقياس المحطة، لكن المرجع في النهاية هو مقياس المحطة، "الزبون عايز كدا". في المقابل، تبالغ بعض المحطات في التهذيب لدرجة الانفصال عن الواقع وتعارض قيمها مع المحتوى الذي تصرّ على أن تقدمه. أتذكر محطة طبخ كانت تطلب منا ترجمة النبيذ على أنه عصير العنب وعدم ذكر كلمة خنزير بأي شكل كان. الغريب أنني ترجمت ذات مرة حلقة من برنامج طبخ كانت كلها تتمحور حول وصفات من لحم الخنزير، وأصرت المحطة على ترجمتها وعرضها رغم أنها تنكر وجود الخنزير أصلًا. الأغرب من ذلك إحدى المحطات التي لم تكن تمانع عرض مسلسل ترى فيه من كل أنواع الانحرافات، لكنها ترفض رفضًا قاطعًا ذكر كلمة خنزير، أي أنه إذا ظهر مشهد يضاجع فيه رجل خنزيرًا فيمكنك ترجمة المشهد لكن عليك أن تقول إن الرجل ضاجع "الحيوان" احترامًا للحساسية الثقافية لدى المشاهد. الخلاصة هي أن رأيك كمترجم غير مهم، عليك فعل ما يطلبه الزبون ولو كان خطأ صريحًا.
ما يطلبه المشاهدون
ثم وبعد أن تستنزف صحتك الجسدية والنفسية في ترجمة ما لا يُترجم، تصبح كمترجم أفلام مادة للسخرية بسبب غبائك وجهلك الذي يجعلك تترجم شتيمة الـF الشهيرة بكلمة مثل "تبًا لك" أو "عليك اللعنة"، على اعتبار أن هذه الكلمة لا تعني ذلك وأن هذه ترجمة خاطئة، فيخطر ببالك أن تسأل المشاهد الكريم كيف يا ترى يحب أن يرى ترجمة هذه الكلمة، وإن كان لا يرى مشكلة في ترجمتها حرفيًا، وإن كانت مادة السخرية الأخرى من مترجمي الأفلام هي الترجمات الحرفية. الحقيقة أن معظم الترجمات الكارثية المتداولة كنكاتٍ مأخوذة من الترجمات المجانية التي يقوم بها هواة ترجمة الأفلام، وأنا شخصيًا لا أتخيل كيف يمكن لأي شخص أن يقوم بهذا العمل كهواية، لكن حين يقدم لك شخص ترجمة لفيلم كامل بلا مقابل فهو لا يدين لك بتقديم ترجمة ممتازة أو جيدة على الأقل كشخص يتقاضى أجرًا ويعمل على برامج ترجمة محترفة وتتم مراجعة ترجمته وتدقيقها فيما بعد. طبعًا هذا لا يعني أنك لن تجد أخطاء شنيعة على منصات مثل نتفليكس أو على محطات تلفزيونية كبيرة، خاصة حين تتنازل المحطة عن الجودة مقابل سعر أقل أو مقابل ترجمة سريعة كي تسبق غيرها من المحطات في عرض الفيلم.
دوافع الاستمرار
السؤال هنا -الذي أسأله لنفسي ولا أظن أن أحدًا يهمه أن يعرفه- هو أنه وبعد كل هذا الذم والقدح في المهنة والتنقيب في مساوئها، كيف قضيت خمسة عشر عامًا في نفس المجال؟ الحقيقة هي أنها ليست مهنة مناسبة للكثيرين، بل أن هناك شريحة صغيرة من السكّان يمكنهم أن يكونوا سبتايتلرز، والأمر ليس انتقاصًا منهم أو رفعًا لشأن المهنة نفسها، بل لأن كثيرًا ممن تتوفر لديهم مهارة الترجمة لن يحتملوا القيام بهذا العمل أكثر من يومين. ولا يكفي أن تكون عاشقًا للسينما أو وحش أفلام ومسلسلات، أو حتى أن تكون ترجمة الأفلام حلمك منذ الطفولة (سمعتها حرفيًا من موظفة جديدة لم تصمد أكثر من أسبوع)، سيتبدّد الحلم حين تعيد جملة في مشهد ثلاث أو أربع مرات، وحين تجلس على مكتبك في التاسعة صباحًا ثم تدرك أن الساعة أصبحت الواحدة ظهرًا وأنت لم تصل إلى حبكة الحلقة بعد. خلال الـ15 عامًا التي قضيتها كسبتايتلر لم أرَ سوى عددٍ قليلٍ من الناس يدخلون هذا المجال ويستمرون فيه، وبعض المستمرين فيه لم يتقنوه حتى الآن لأنهم -بصراحة- مترجمون سيئون. الشركات التي تقوم بهذا العمل معروفة والسبتايتلرز يتنقلون بينها ويعرفون بعضهم، والعثور على سبتايتلر واعدٍ جديدٍ يكون مترجمًا جيدًا وفي الوقت ذاته يمكنه تحمل ترجمة مواد مرئية ومسموعة هو دائمًا مدعاة للاحتفال. ناهيك عن أن المترجم البارع أو المحترف سيجد أن هذا عمل لا يسمن ولا يغني من جوع، وأنه يمكنه تحصيل دخل مضاعف في نصف الوقت من خلال الترجمة العادية.
كيف استمررت فيه إذًا؟ ببساطة، ورغم المقاومة والإنكار لسنوات، إلا أنني أحببت هذا العمل، أو اعتدته لدرجة أنني أصبحت أحبه وأستمتع به، وأجده أكثر متعة من الترجمة العادية المربحة بشكل أكبر، والتي ظللت أقوم بها كعمل جانبي. كما أنني كنت من تلك الشريحة الضئيلة من الناس التي يناسبها العمل كسبتايتلر: لا أمانع العمل وحدي ساعات أمام شاشة الكمبيوتر، بل أفضّل ذلك على العمل مع الناس، واستطعت تطوير سرعتي في العمل مع الحفاظ على جودة الترجمة بحيث تكون سرعة مجدية ماديًا. في الترجمة المرئية المسموعة لا بد أن تجد توازنًا دقيقًا بين السرعة والجودة، فإن كنت بطيئًا لن تنفعك مهارتك، وإن كنت رديئًا لن تنفعك سرعتك. يُستثنى من ذلك طبعًا العمل بشكل مستقل وبسعرٍ عالٍ إذ يمكنك العمل ببطء وتحصيل أجر لا بأس به، لكن هذا النوع من العمل لا يكون مستدامًا في العادة.
لذا، إن كنت تجد في نفسك القدرة على تحمّل كل ما سبق وتجد أن لديك ما يلزم لجعل السبتايتلنغ مهنة مربحة، فلا ضير من التجربة، أما إن كنت من هواة الأفلام وتسعى إلى مهنة تجعل من مشاهدة الأفلام مصدر رزق، ولا تقضي على حبك لمشاهدة الأفلام ولا تجعلك تترجم كلام الناس من حولك في عقلك طوال الوقت أو ترغب في إسكاتهم كي تخفف من عبء الترجمة، فلتصبح ناقدًا سينمائيًا، أو يوتيوبر، أو فني تشغيل أفلام في السينما، أي شيء إلا مترجم أفلام.