فنّ خلق المجرم
الدافع، المحرّك الحقيقي للعالم، شيء خفي بالغ التعقيد يحرك سواكن الفرد وينشط بأكثر جوانبه خمولًا لتحقيق ما يشبعه.
وكغيره من الأمور، خضع الدافع لسطوة الفضول، فتناوله البشر بالتحليل، والتدقيق، والاستنباط في علم النفس والسلوك والاجتماع. فمن بدء خلق آدم إلى الآن، اختلفت دوافعنا من فرد لفرد وفقًا لمجموعة من العوامل تمثّل الواحد منّا وتعبّر عن كينونته، من بيئة، وميول، وطباع ومجتمعٍ ومعتقد إلخ... فهناك دافعٌ نبيل وآخر خبيث. هناك دافع لبناء وآخر لهدم، ودافع لإنقاذ نفسٍ أو ارتكاب جريمة.
ووفقًا لصراع الخير والشرّ، سيظل البشر يحاربون تلك الدوافع الخبيثة بحكم دافع طيّب، كدافع الدفاع عن الأرض ضد دافع احتلال، ودافع سنّ القانون ضد دوافع الفوضى، أو دافع إنشاء علم الجريمة ليكون سببًا من ضمن أسباب أخرى في كبح الجرائم.
وحين كانت عدسات المحققين والأجهزة الأمنية لا تحيد عن دوافع المجرم الحقيقي، وكانت الجرائم الواقعية محض دراسة وبحث طبقًا لأيديولوجيات متبعة واستراتيجيات علم الجريمة، نجد أنّ من المنطق أن تخضع دوافع المجرمين (الخياليين) الذين هم من صنع مؤلفين ومخرجين السينما للدراسة والتفنيد أيضًا، وأن تمتثل الجريمة (الخيالية) المنسوجة في فيلم سينمائي لدراستها، وتتبع آثارها وعواقبها على عالم الواقع.
فيظهر السؤال الذي كثيرًا ما تردد بين أرباب القصّة وصانعي السينما وحتى المُتلقي: ما الدوافع خلف تقديم مجرمين خياليين يحملون من الاعتلال النفسي والاضطرابات الكثير، يفتعلون الفوضى وينثرون الدماء ويمارسون العنف، ويُعرض كل ذلك في فيلم في السينما وعلى الشاشات، وما أثر ذلك على الشارع؟!
الأكثر طلبًا.. أفلام الجريمة
في إحدى المداخلات التليفزيونية للمخرج كوينتن تارانتينو صاح في وجه الناقدة والجميع عند سؤاله عن مشاهد العنف الكثيرة وغير المقننة في أغلب أفلامه فقال "إنها تضيف الكثير من المتعة".
جملة لم تكن عميقة بحجم عمق سيناريوهات تارينتينو، حتى أن تتبُعها لن يفضي إلى الوصول لغاية واضحة ودافع صريح يرضي العقل فنستنبط سرّ اجتياح أفلام الجريمة.
فلم تكن المتعة وحدها مدعاة لصنع سينما، بل هي التعبير الأسهل دائمًا حين يريد المخرج التملّص من شرح دوافع أعمق وأكثر تعقيدًا وتشابكًا، قد لا يدركها هو، أو يدرك بعضها بالكاد، أو قد يدركها ويعجز عن التعبير عنها.
في سنة 2006، كتبت عالمة الجريمة نيكول رافتر كتاب (لقطات وطلقات في المرآة، أفلام الجريمة والمجتمع). كان الكتاب من أكثر المحاولات تنظيمًا ومنهجيّة لتفسير الدوافع خلف صنع أفلام الجريمة.
فسرت نيكول رافتر بشيء من التفصيل تلك اللذة المرتبطة بأفلام الجريمة والعنف والتي ذكرها تارنتينو بعفوية دون التطرق لشرحها بالحُجج، فتقول في كتابها "إن أفلام الجريمة تتيح متعة الهروب كبقيّة الأفلام فهي تهربه من الواقع بسطوته ووطأته، لكن ما يميزها أكثر عن غيرها من الأفلام هو أنها تشبع تلك الرغبة لدى الجمهور في الميل لرؤية الآخرين في ورطة، يواجهون لغزًا خطرًا يسعون لافتكاكه، ويحيط بهم الشرّ من كلّ جانب، فأفلام الجريمة هي إذن لإطلاق عنان الشرّ والعنف دون روية أو هوادة. هذان الشيئان اللذان يهرب منهما الفرد كل يوم وليلة في عالم الواقع، فبالتأكيد سيشعر بنوع من الأريحية والمتعة حين يجد ما يهرب منه معروضًا على شاشة، ويعاني منه أو يمارسه شخصٌ غيره فيرى ردود الأفعال والتصرفات إزاء ذلك الخطر".
واستشهدت نيكول رافتر برأي الممثل بيرس بروسنان حين ادعى أن الناس تحب أن ترى الآخرين في خطر فقال "إن الأمر مشابه لذلك الشعور الذي يطرأ على المرء وهو يقود سيارته بجانب حادث، أنت تعرف أن في نظرك لموضع الحادث قد ترى مشهدًا مأساويًا وقد يكون دمويًا عنيفًا. لكنك على أية حال تختلس النظر كالبقيّة!!".
في مسلسل Mindhunter نجد المحقق هولدن فورد يلبي دعوة أخطر القتلة المتسلسلين إد كيمبر فيزوره في مشفى السجن على إثر محاولة انتحار فاشلة مدعيًا بأن المحقق سببٌ فيها. يكتشف المحقق عدم وجود حرس وأن يد القاتل غير مقيّدة ليجد نفسه في ورطة شديدة.
تعد تلك الخلوة بالتحديد هي أكثر مشاهد المسلسل حماسة ورعبًا بل ولذة، علا فيها النبض بقوة عند المشاهد، وحصلت الحلقة على أعلى تقييم بين حلقات المسلسل على موقع IMDB، إذ إن الجميع يريد أن يعرف ما الذي سيقوم به قاتل محترف يحمل من الاضطرابات النفسية ما جعلته لا يشبهنا كبشر فارتكب أكثر الجرائم بشاعة في عصره، حين يقترب من المحقق الذي يشعر وأنه قد استغلّه، وكيف سيحل المحقق تلك الورطة.
وعلى الرغم من أن هذا الاقتراب نتج عليه (حُضن) الطريقة المتعارف عليها عند البشر للتعبير عن الودّ، إلا أن المحقق فورد قد أصابته نوبة هلع شديدة بسبب شحنة الذعر الهائلة والتي لم يتمكن من تفريغها بشكل سلس على إثر الخطر الذي داهمه.
عالم القتلة
وهذا يقودنا لدافع آخر ذكرته العالمة نيكول رافتر وهو أن أفلام الجريمة هي بوابة معرفة القتلة والمختلين، فنتحسس عالمهم المحجوب والمحظور، ونرى الدنيا من منظورهم ونعيش في آفاقهم طوال مدة العمل الفني. نُعجب بتمرّدهم ومواجهتهم لأشياء وأناسٍ لا نجرؤ في نهاية الأمر على الوقوف أمام رياحهم العاتية وتيّارهم الجارف، فالإنسان يميل بطبعه ناحية ما وضع المجتمع سياجًا وأسلاكًا حوله.
فمن منّا لم يتأثر بواحدة من أبشع الشخصيات الإجرامية في تاريخ السينما (جون دو) من فيلم Seven وما كانت تلك الشخصية تحمله من الجرأة والعبقرية والتنظيم، وكذلك الدوافع التي تراها من وجهة نظرها كافية جدًا لخلق فوضى وسفك دمّ.
وقد تفنن ديفيد فينشر مخرج فيلم Seven في عرض جوانب شخصيّة جون دو الإجرامية الخيالية، فنجح في إدراجها ضمن أكثر الشخصيات السينمائية كرهًا وبغضًا من قبل الجمهور. وعلى الرغم من ذلك الكره والنبذ، لم يمنع هذا الجمهور من تتبع كل ما يتعلق بتلك الشخصية من تحركات وردود أفعال وميول ودوافع، وصار الفيلم من أنجح أفلام الجريمة بل صار أيقونة سينمائية خالدة!!
وهذا يؤكد ادعاء نيكول رافتر بأن المشاهدين يحبّون أن يتوحدوا أو يندمجوا بطريقة ما مع المجرم في العمل السينمائي ويجدون في ذلك لذّة، وهذا ما أكدته إحدى طالباتها من حيث "أنها تحب مشاهدة أفلام الجريمة لمدة ساعتين لمشاهدة شخص ما وهو يقاتل".
وقد يكون من الصعب حصر كل الدوافع لخلق عمل فني يحمل من الجريمة والعنف الكثير، فقد تختلف الدوافع وتتمدد من حقبةٍ لأخرى، ومن مخرجٍ لآخر، فتخضع باستمرار لتغيرات شكل العالم واختلاف الأحداث والظروف التي يعيشها الناس ويعانيها المجتمع.
إلباسك ثوب الشرّ المحرم. وضعك في قالب من العنف لن تكونه في يومٍ. عرض الجانب الأكثر ظلامية في حياة المجرمين الذين قد تكون بعيدًا عنهم كل البعد. إحاطة الآخرين بالمخاطر والتفنن في عرض مغامراتهم ومواجهة الورطة. (ركوب الترند) فنصنع فيلمًا أو عملًا دراميًا ضمن القسم الأكثر طلبًا من قبل جماهير العالم في العصر الحالي (أفلام الجريمة). تلك الأفكار هي نواة حبكة جريئة تُدهش المشاهدين، وهذا هو الغرض الأهم والدافع الأكبر لكل مخرج، أن تنجح حبكته.
فالبعض منّا يرنو إلى فرصةٍ يرتخي فيها لجام غضبه فينهال بشتى صور العنف والانتقام تجاه شخصٍ ما في موقفٍ ما، لكن مفاهيم نبيلة كالأخلاق والقانون قد تحول بين إصدار العنف، فتكون أفلام الجريمة صورة من صور تفريغ تلك الطاقة حين نجد العنف والانتقام يمارس من قبل آخرين خياليين. ولكن ما مدى تأثير ذلك علينا، وعلى سائر الأفراد والمجتمع؟!
الآن في السينمات.. هل غدًا في الشوارع؟
كان المجرم جون ديلينجر مهووسًا بالأفلام، وقد لقي مصرعه برصاصات الشرطة بعد مشاهدته فيلم "ميلودراما مانهاتن"، والذي كان يؤدي بطولته الممثل كلارك جيبل في شخصية تشبه كثيرًا جون ديلينجر!!
الممثل مارك كوستيللو
بهذا الاقتباس افتتحت عالمة الجريمة نيكول رافتر مقدمة كتابها لقطات وطلقات في المرآة.
لتضع القارئ في دائرة شكٍ لطالما تفلّت منها كي لا تفوته حلقة في مسلسل جريمة، أو مشهد في فيلم سينيمائي، معتبرًا أن ما يشاهده سيظل حبيس الشاشة لن يتعدى ذلك اللوح الزجاجي لنراه في يومٍ ما متجسدًا في الشارع، ولن يختزله عقلٌ باطن فيستدعيه في يومٍ فيقترف على إثره جريمة مشابهة لما رآها في الشاشة. ذلك الاقتباس يحطّم كل ما اعتقدناه.
حتى أنه يحطّم ادعاء المخرج تارينتينو في اللقاء التلفزيوني المذكور سابقًا حين دارت نقطة خلاف بينه وبين الناقدة التي تعتقد بتسريب الأفلام لمشاهد العنف تحت ظروفٍ معينة ونقطة معينة إلى الشارع فيتبناها أحدهم، ربما طفلًا كان أو كبيرًا. بيد أنّ تاريينو ينتفض فيصرّ على الفصل بين السينما والشارع!!
كم هاتفًا محمولًا حمل خلفية رائعة للجوكر، وتوماس شيلبي، وجون ويك ووالتر وايت؟! أتتذكر منتخب مصر الأوليمبي في نهائي بطولة إفريقيا وهم مقنعون بوجه الرسام العالمي سلفادور دالي ويدخلون أرضية الملعب تيمنًا بتلك العصابة الشهيرة في المسلسل المعروف لاكاسا دي بابل؟
في كتابها لقطات وطلقات في المرآة، تطرقت العالمة نيكول رافتر للحديث عمّا يسمى "علم الجريمة الثقافي"، وهو مبحث خطير ومهم يربط بين علم الاجتماع وعلم الجريمة، وبمنظور أدق، يربط بين الجريمة وثقافة الشارع، فعلم الجريمة الثقافي الذي نشأ على يد عالم الاجتماع جاك كاتس هو المحاولة الأكثر تمددًا واتساعًا لعلم الإجرام بشكله التقليدي، فاعتبرته نيكول رافتر (تجديدًا).
وكسائر محاولات التجديد التي من شأنها النظر لجوانب العلم من منظور أشمل أو التدقيق في مبحثٍ مهمٍ فيه، سيعارض الحركة هؤلاء المتمسكون بأصول العلم وركائزه، فتجد للحركة متبنين ومعارضين.
تقول العالمة نيكول رافتر إنه حين يلتفت الكثير من متبني علم الجريمة الثقافي إلى أفلام الجريمة بوصفها مصدرًا يولد صورًا ومشاهد ومحفزات للجريمة الحقيقية، ساعتها سيحاول علم الجريمة الثقافي أن يفهم عالمًا يقوم فيه الشارع بكتابة سيناريوهات الأفلام وتقوم فيه الأفلام بكتابة سيناريوهات الشارع. ومن هذا المنطلق سيتعين على المختصين في السينما وعلماء الجريمة تبادل الأفكار والآفاق لإشباع هذا التبادل الثلاثي بين الشارع، والسينما والجريمة.
في الجزء الأول من مسلسل Mindhunter، والذي يعتبر تمردًا على مسلسلات الجريمة بشكلها المعروف من حيث عدم وجود مجرم بعينه تلاحقه الأجهزة الأمنية، بل يعد تحليلًا لأبرز الشخصيات الإجرامية في السبعينيات والذين تم القبض عليهم بالفعل، حكى إيد كمبر القاتل المتسلسل عن مدى تأثره بأفلام الجريمة وأنها كانت من محفزات النزعة الانتقامية لديه!!
بل وفي كتابه (شهقة اليائسين) للصحفي المصري ياسر ثابت، ذكر الأخير أن حلقة ما من أنيمي الجريمة الشهير (المحقق كونان) كانت سببًا في انتحار عدد من التلاميذ في الجزائر حين عرضت الحلقة مشهدًا لإحدى الشخصيات التي تنتحر سأمًا من حياتها التعيسة فتعود مرة أخرى للحياة لتجدها قد تحولت للسعادة والبهجة!!
قدّرت نيكول رافتر عدد أفلام الجريمة حسب موقع IMDB بأكثر من عشرة آلاف فيلم في وقت صدور الكتاب سنة 2006، وهذا دليل آخر على أن أفلام الجريمة مصدر ثقافي يغذي الشارع ويستقي منه الأفراد والمجتمعات معرفتهم ويبنون على أساسها الكثير من وجهات نظرهم تجاه المعتقدات، والمفاهيم والحوادث العالمية. وبالتالي، فإن أفلام الجريمة تستحقّ أن تنال نصيبًا غير قليل من التدقيق من علماء النفس والاجتماع بل والجريمة كذلك.