في ضرورة إحياء الصراع.. العلوي الإرشادي نموذجًا

تقفُ المصطلحات بمثابة عائقٍ لولوجِ أحد العوالم، أو تشبه منطقة حظرٍ يُمنع دخولها، ويُوبّخ من يقترب منها، ويُنفى مُتَحَدِثها. كثيرًا ما مثّل (الصراع) جانبًا حيويًّا في الدين والسياسة، وهما لبّ الحياة، وفيهما وحولهما تدورُ الأسباب. أُقصيت حقبات تاريخية مهمة –وما التّاريخُ إلّاها، ومُحيت شخصيات تاريخية، وأزيلت أزمنة طويلة من موادّ التدريسِ، وكتبِ التاريخ، وخطبِ الجوامع، وأحاديث المساجدِ والمجالس، لا لشيء، فقط لادعاءٍ يُلصقها بمصطلح "الفتنة"، قرينُ الصراع، وأوّل دعامةٍ في ترسيخِ إخفاءِ الحقيقة. لا لشيءٍ بل لخدمة من يمسك بزمامِ السلطة الآن فقط، و"الآن" قد تمتدّ لعقودٍ أو قرون، لكنها تزول.

لا تهدف هذه المقالة إلى خلق فتنةٍ بين الحضارم، بل هيَ جهدُ الإرشاد الذي حقّ أن يستمر، وهي صوت العلويين الذين لم يُغرهم صوت الكذب وادّعاء علوٍّ واهم. إنها رفضٌ صريح لطبقيّة حضرموت التي لا زال البعض يتمسّك بها، رغم أننا "أمة حضرمّية واحدة"!

مع أنّ الصراع العلوي الإرشادي ضمّ غير الحضارم أيضًا إلا أنه في أساسهِ، وفي جوهرهِ كان حضرميًّا حضرميًّا، وكان كالثورةِ حتمًا وقوعها، فعدميّة ذلك الصراع أو تلك الفتنة، أو أيًّا كان مسمى هذا الشيء في ذلك الوقت، لا يعني أنه لن يقع هذا الرفض، قد يختلف محلّ الوقوع، مثلًا قد يحدث في أرضِ الوطن، حضرموت، أو في مهجرٍ آخر سواء أكانَ آسيويًّا أم إفريقيًّا، لكنه كان سيقع على كلّ حال. ومع ذلك فإنّ جاوا لها رمزيتها ومكانتها التي ناسبت هذا الحدث العظيم.

السبب الذي يُشبه القشّة

في الظاهر، يعود أصل هذا الصراع إلى حادثة وقعت في مهجر الحضارم الآسيوي، تحديدًا جاوا، حين قَبل ولي إحدى الفتيات تزويج ابنته (وهي من السادة -العلويين- ويُطلقون عليها "شريفة") من شخص لا ينتمي لهذه الطبقة، ووقع الزواج، وأثار الضجة حتى بعد إقراره، وقد كانت الشرارة حين سأل أحدهم الشيخ أحمد السوركتي عن صحة هذا الزواج وأفتى بصحته فقامت قيامتهم، وأصدروا الفتاوي، وحتّى من وقف معه من المعتدلين في البداية فضّلوا أن يبقى السوركتي بمعزل عن هذه القضية، يشيرون بذلك إلى فكرة المساواة بين الحضارم. ومن المثمر بل ومن إحقاق الحقّ، الإشارة إلى أنّ السوركتي لم يكن حضرميًّا بل سودانيًّا، وقد كان أخذ علمه في السودان ومكة، وجاء إندونيسيا معلمًّا، وبدعوة من (جمعية خير)، التابعة للعلويين! ولقي حين مقدمه أحسن الترحيب وأجلّه. فيما بعد، حين احتدم الوضع، رغب الشيخ بترك الساحة والعودة من حيث جاء (مكة)، وبالفعل قدّم استقالته في 6 سبتمبر 1914م. ومربط الفرس هنا، حيث أصرّت الدائرة المحيطة به -وهم حضارمة- على بقائهِ وقد صار.

يقول أ.د. صالح علي عمر باصرّة في كتابه (دراسات في تاريخ حضرموت الحديث والمعاصر) عن الصراع وبداياته: "وتأسست أول جمعية خيرية للمهاجرين عام 1903م وهي (جمعية خير) في جاكرتا وأسسها جماعة من العلويين. وفي عام 1905 أنشأت هذه الجمعية مدرسة هي الأولى من نوعها، واستقدمت الجمعية لإدارة المدرسة العلامة الشيخ (أحمد السوركتي الأنصاري) المولود في السودان. وكان الشيخ السوركتي قد تلقى تعليمه الديني في السودان ومكة والمدينة ثم عمل مدرسًّا في مكة وأصبح صاحب رواق في الحرم المكي".

يتابع وصولًا للحدث ذاته:

 "وحدث في سنغافورة في عام 1905 حادث صغير ولكنه كان السبب في انفجار بركان الصراع الاجتماعي والفقهي الخامد بين المهاجرين. وترك انفجار هذا البركان آثارًا اقتصادية واجتماعية وسياسية كبيرة على المهاجرين في بلد الاغتراب... وانقسم المهاجرون إلى فريقين هما: الجناح العلوي، والجناح الإرشادي. وكان الحادث زواج هندي من علوية. واستفتى أحد الحضارم في سنغافورة صاحب مجلة المنار في مصر العلامة محمد رشيد رضا حول صحة هذا الزواج. وأفتى العلامة محمد رضا بصحة هذا الزواج في الجزء السادس من المجلد الثامن من مجلة المنار الصادر في 26 مايو عام 1905م".

أما كيف استقبل الطرف الآخر هذه الفتوى، وكيف كانت ردة الفعل، فيذكر باصرة: "وأثارت هذه الفتوى غضب العلويين، وأصدر الشيخ عمر بن سالم العطاس العلوي فتوى مناقضة لفتوى صاحب المنار وحرم فيها تزويج العلوية بغير العلوي ولو رضيت ورضي وليها... فرد العلامة رشيد رضا على فتوى العطاس وبالمقابل رد عليه مجموعة من العلويين، وأفتى الشيخ محمد السوركتي بصحة فتوى صاحب مجلة المنار. وأدخلته هذه الفتوى في خصومة مع العلويين... واضطر في نهاية الأمر إلى تقديم استقالته من منصبه كمدير لمدرسة وجمعية خير وذلك في السادس من شهر سبتمبر 1914م".


الشيخ أحمد محمد السوركتي



السوركتي في التقاطة أخرى


من زاوية أخرى

يستغرب ويستنكر بعض العلويين شرارة هذا الصراع، أي رفض السبب الذي قامت بعده هذه "الفتنة"، إذ يجدون أنّ معظم طبقات الحضارم الأخرى تتزاوج فيما بينها البين فقط، فلماذا أقمتم الدنيا حين رفضنا نحن تزويج علوية من رجلٍ غير علويّ؟! لكنهم يسكتون -وعن عمد- عن أنهم هم أيضًا لم يُقعدوا الدنيا، فأصدروا الفتوى وأمعنوا في تحقيرِ من لم يكن علويًّا، وأنهم فجروا في الخصومة. ونحنُ نعلمُ سبب هذا السكوت، فهو محاولة للتسلّق على الواقع -المرفوض أصلًا- واقع أنّ هناك بالفعل أسرًا حضرميّة لا زالت تعتقد أنّ الجهل نعيم، وأنّ الظلمات نور، لا زالت ترى أنّ الزواج من خارجها كبيرة من الكبائر، مع أنها تجترّ في مجالسها أننا مجتمعٌ واحد، أمة واحدة، وتزعم تصديقًا لحديث سيدنا الرسول: "إلا بالتّقوى".

يدّعي بعض من دوّن تلك المرحلة أنّ الهدف الأساسي لحركة الإرشاد لم يتجاوز رغبتها في نقل السيطرة من آل باعلوي إليهم، أي أنّ هذه الثورة الفكريّة لم تكن كَذا بحقّ، بل كانت لتعديل ميزان السلطة في المجتمع الحضرمي، ومحاولة لخلق مساواة في العنصريةَ! ينتفي هذا الادّعاء بمجرّد التأكيد على أننا لا نستطيع أن نعزل الجذور الانفعالية لهذا الصراع عن الوضع الذي تعيشه طبقة السادة في حضرموت، إذ إنّ أي دعوة تؤول لإزاحة الأضواء عنهم ستُاهجم لا محالة، وسيُتهم أصحابها بكلّ ما يخطر وما لا يخطر على البال. فمن اعتاد حياة الترف، ومن صنع لنفسه منزلة مزعومة، لن يقبل بأقل مما اعتاد عليه. فالحضرمي من غير "السادة" الذي يتزاوج من غير أسرته لا يُنعت زواجه بأنه باطل، ولا تُصدر الفتاوي والمؤلفات لإبطاله، بل تسير الحياة طبيعية -كما حقّ لها أن تسير.

وكذلك، لا نستطيع أن نحكر هدف الثّورة الإرشاديّة في تأكيد صحة الزواج بين أطياف المجتمع الحضرمي، بل هي في أصلها، ثورة رفضٍ للطبقية، ورفض لاحتكار العلم، ورفض لكلّ مظاهر العنصرية واللامساواة، وما نتج عن هذه العنصرية من تعالٍ وتكبّر وظلم. لقد عانت حضرموت من قرون طويلة احتكر فيها السادة العلم لهم، ومارسوا سطوتهم على التاريخ، ولأنّ الساحة خلت من إلّاهم طاب لهم الكذب وأحكموا الصنعة فيه، مورست تعديات كبيرة بحقّ التاريخ الحضرمي، خاصة في الفترة المتعلقة باباضية حضرموت، وتجرأ البعض على إلغاء شخصيات تاريخية فاعلة في تلك المرحلة! كالشاعر المقاتل أبو إسحاق إبراهيم بن قيس الحضرمي الاباضي، وهذه سقطة يجب أن تُذكر بِذكر التاريخ الحضرمي.

يقول الباحث عبد الله البجرة معلقًا على تلك الانتقالة المهمة في الوضع الحضرمي آنذاك: 

"ولهذا اضطر الحضارمة من غير السادة إلى اللجوء إلى مرجعيات خارجية ليشككوا في المعتقدات الأساسية لتعاليم السادة. وعمّ الاعتقاد بين الإرشاديين أنه حتى ذلك الوقت قام السادة (بسجن عقولهم وتسميم أفكارهم) و(إفساد معتقداتهم) وأجبروهم على (عبادتهم). ولهذا اعتبروا التعليم المفتاح لتغيير الوضع القائم".

 يعني ذلك أنّ فكرة النضال للحصول على تعليمٍ أفضل، وعلى مساواة بين الجميع كانت حاضرة في الوعي الحضرمي، وهذا ينفي احتكار الصراع في مسألة الفتوى سابقة الذكر. يؤكد ذلك قول باصرة: "وركز الإرشاديون في أنظمتهم وأدبياتهم على المساواة بين الناس جميعًا بدون اعتبار للنسب واستخدموا عن قصد لقب (سيد) لمخاطبة أي إنسان"، أي أنّ جذور الثورة تمتد لممارسات فوقيّة مختلفة في المجتمع الحضرمي، سواء لفظيّة أو فعليّة (كلمة سيد أمام جميع من ينتمون لطبقة آل باعلوي، أيضًا كلمة حبيب التي تسبق اسمهم، أو تقبيل اليد الذي فرضوه)، وقد تمكّن من ينتسبون لآل باعلوي من تصدير هذه المظاهر الفوقية والعنصرية لكل أماكن الهجرة الحضرميّة! الأمر الذي انعكس سلبًا عليهم، فحين يتفتح العقل، ويُدرك ما له وما عليه، وحين يبصر حقيقة الدين، سيرفض ما فُرض عليه من ظلم وسيثور لا محالة.

في المقابل، استفاد الإرشاديون من هذا الظهور، ففاضَ كلّ شيء، واتّسع المدى وشمل جوانب كثيرة، وما يثير الاهتمام أنّ جمعية الإرشاد لم تكن بمعزل عن محيطها الإندونيسي تعليمًا واقتصادًا وصحة، وحتّى في ثورة الاستقلال ضد المحتلّ! يحيلنا ذلك للعلاقة القائمة بين الإنسانِ الحضرميّ ومطرح هجرته، بالتحديد جاوا التي تفرّد فيها النضال الحضرمي مع أبناء الأرض الأصليين. 

يقول باصرة، معلقًا على ذلك، ومشيرًا للاتهامات التي ألقاها كل طرف على الآخر، يقول: "ولقد توسع الصراع العلوي الإرشادي وخرج عن موضوع الزواج ليكتسب مفاهيم سياسية اقتصادية واجتماعية وآراء ووجهات نظر للإصلاح داخل الوطن. وحدثت أعمال عنف بين المهاجرين بسبب اختلاف الآراء وصلت إلى حد إحراق المدارس، وقع أكثر من شجار بين أنصار الطرفين وقتل من جرائها عدة أشخاص. واتهم العلويون الحركة الإرشادية بأنها حركة مرتبطة بالتبشير المسيحي وأنها بلشفية وممولة من موسكو لتخريب الوجود البريطاني والهولندي في الشرق، وبالمقابل اتهم الإرشاديون الحركة العلوية بالعمالة والارتباط ببريطانيا وخدمة مصالحها في حضرموت".

في الحقيقة، تبدو هذه التهم متماشيّة مع تلك الحقبة، أُلقيت هباءً وعبثًا، لا لحقيقة، بل لأنها كانت حديث ذلك الزمان. وأود التعليق على تهمة "العمالة والخدمة لبريطانيا"، لا لتبرئة من فعلها بحق، بل لقولٍ فصل في هذه المسألة: أينما حلّ الحضارم في الشرق الآسيوي، والشرق الإفريقي، ثاروا مع أبناء الأرض، ثورة حقٍّ ووعي، بل كانوا على صلة وثيقة بمنابع الرفض، وأسهموا أحيانا في تنشئة كيانات ثوريّة، سواء حزبية أو مسلّحة، خاضوا كلّ تجارب الثورة، كانوا هناك حين حصل الاستقلال، وأحيانا انتزعوهُ هم، وأشارت الكاتبة لذلك بشيءٍ من التفصيل في مقالتها "الشتات الحضرمي الغائب.. نظرة وتمييز"، من بين ما ذُكر: "وحتى في إرتيريا التي حملت وضعًا معقّدًا للحضارمة فيها، فبالرغم من الضغوط التي تعرضوا لها أثناء مرحلة ما قبل الاستقلال، إلا أنّ حضور بعضهم كان واضحًا وقويًّا ووطنيًّا، بل كان ذلك في مواقع شديدة الحساسية، كحزب الرابطة الإسلامية الذي كان يدعو للدولة الإرتيرية المستقلة مقابل دعوات حزبية أخرى للاتحاد مع إثيوبيا، وكان من مؤسسي حزب الرابطة الإسلامية (ياسين باطوق)، وبالتوازي كان محررًا صحفيًّا في جريدة الحزب، واسمها: "صوت الرابطة"". أيضًا من بين محطات النضال التي تستحقّ الذكر، ما حدث في جزر القمر: "أسهم الحضارم في قيادة الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي التي كان من أبرز قادتها السيد محمد آل الشيخ أبو بكر بن علوي. كما مثل السيد أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن العلوي جزر القمر نائبًا في البرلمان الفرنسي، ثم تولى رئاسة الدولة عام 1975، وأعلن استقلال بلاده من جانب واحد بعد أن طالت مفاوضات الاستقلال في فرنسا، غير أن فرنسا أبعدته عن الحكم ونفته خارج بلاده، ثم اضطرت إلى إعادته والاعتراف باستقلال جزر القمر تحت ضغط الحركة الوطنية".

كان الشيء الذي عقدنا عليه الرهان، والأمر الذي دفعنا للرفض، هو ما نتج عن الثورة الإرشاديّة من أمورٍ حِسان، وما حصلنا عليه من حقوق، وهذا ما عزز من دواميّة الفعل الثوري حتى الآن، لأنه مرتبط بحقيقةِ وجودنا البشريّ السّويّ، يذكر باصرة بعض الآثار الإيجابية: "التنافس في بناء المدارس، ونشر التعليم، وإصدار الصحف والمجلات التي بلغ عددها (20) صحيفة أسبوعية وشهرية، وانتشر تعليم البنت، حيث أسس الإرشاديون ثلاث مدارس للبنات في جاكرتا وسرابايا وفكولفان... وتأسست مدارس حديثة تحت إشراف المعارف الحكومي، وانتعشت الحركة الأدبية، والأهم هو تبلور رؤية للإصلاح والتحديث في داخل الوطن التي تم التعبير عنها في مؤتمر الإصلاح الحضرمي الأول المنعقد في مدينة الشحر عام 1927م، وفي مؤتمر الإصلاح الحضرمي الثاني وقراراته الذي انعقد في سنغافورة في شهر إبريل عام 1928م". وربما صدق فان دن بيرج حين قال: "وتطلع كثيرٌ من الحضارم إلى بلادِ الشتات ليجدوا فيها مخرجًا لمشاكلِ بلادهم".

شيء يشبه النهاية 

يقول حامد القادري في كتابه (كفاح أبناء العرب ضد الاستعمار الهولندي في إندونيسيا) إنه: 

"رغم أن أسباب الخلاف بين الجماعتين شديدة إلا أن محاولة حل النزاع بين الجانبين كانت أشد قوة وجدية وليس مستبعدًا أن يكون سبب فشل محاولة الوفاق بين الطرفين هو سياسة هولندا التقليدية التي ترمي إلى التقليل من تأثير العرب في إندونيسيا لأجل مصالحها". يُضيف باصُرّة: "ويرى القادري أن الخروج من نظام حضرموت العشائري والذوبان في المجتمع الإندونيسي كان هو الحل الأمثل للصراع العلوي الإرشادي، وكذا الاغتراب الثقافي والعلمي والعرقي الذي عانى منه أبناء المهاجرين بسبب السياسة الهولندية وصراع الآباء والأجداد داخل بلد الاغتراب".

كتابتي هُنا دليل على أنّ الشيء الذي قد يُحدث/يُشعل الصراع لا زال مستمرًا، لا زال لوجوده أثر، يعني ذلك أنّ النهاية هنا مرحليّة فقط، أو أن جزءًا منها ظاهريّ، لكن مع ذلك، استحقّت الجهود التي بُذلت للتخفيف من وطأة هذا الصراع ومن تداعياته التي وصلت حدّ الدّم -استحقت- أن تُذكر، من بينها تدخّل علماء وأدباء العرب لوضع حل لهذه الخصومة، وأيضًا من بينها ما قيل من بعض من دوّن تلك الحقبة إنّ هذا الصراع كان بافتعال الاستعمار ليس إلا! لا تشير وجهة النظر هذه إلا لرغبة دفينة في تجاوز ذلك الماضي الذي لا زال يؤذي البعض، وليست إلا اعتقادًا بتصافي النفوس فيما بينها البين.

ومن تلك المحاولات ما ذكره د. محمد أبو بكر حميد في كتابه (إندونيسيا ملحمة الحب والحرية في حياة علي أحمد باكثير وأدبه) عن تلك الفترة واصفًا إياها، وموضّحًّا دور الأديب العربي الحضرمي علي أحمد باكثير، وكذلك مفتي حضرموت العلاّمة عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف: "واحتدم الجدل بين الطرفين، ووصل صداه إلى قادة الدعوة والإصلاح في العالم الإسلامي، فكتب الإمام محمد رشيد رضا في مجلته (المنار) عدة مقالات للتهدئة، وكان للمقال الصريح الذي كتبه الأمير شكيب أرسلان صدى كبير، وقد نشرته في افتتاحيتها مجلة (الفتح) التي يصدرها الأستاذ محب الدين الخطيب في مصر بعنوان: (فتنة الحضارم في الجاوى وضجيج العالم الإسلامي منها) في العدد 342 بتاريخ 2 ابريل 1934م، وأرسل الملك عبد العزيز مبعوثًا منه وهو الشيخ عبد العزيز الرشيد في محاولة لتهدئة النفوس وإنهاء الخلاف".

يُكمل للحظة وصول الاتفاق: "وفي تلك السنة (1927م) التي أسس فيها العلويون (الرابطة العلوية) خشي بن عبيد اللاه من تفاقم الصراع وتصاعده بين الطرفين، فعزم السفر لإندونيسيا في محاولة للصلح بين الفريقين المتخاصمين العلويين والإرشاديين... ظل علي أحمد باكثير مع مفتي حضرموت ابن عبيد اللاه لا يفارقه في كل تنقلاته إلى المدن ذات الكثافة الحضرمية حتى تم التوصل إلى اتفاق، فطلب مفتي حضرموت أن يكتبه علي أحمد باكثير بخط يده، وقد كان. ورحبت الصحف العربية التي يصدرها الطرفان بذلك الاتفاق...".

ومن بين تلك الحركات والتجمعات التي لم تظهر كثيرًا للعلن، (حركة أبناء العرب)، و(رابطة عرب إندونيسيا)، وفي ذلك يقول باصرّة: "لقد نجحت حركة أبناء عرب إندونيسيا التي سماها البعض بحركة الموالدة في إنهاء الصراع الإرشادي العلوي وإلغاء التمييز بين العرب وغيرهم من سكان إندونيسيا، ولكنها في ذات الوقت أذابت الهوية للمهاجرين وحولتهم إلى جزء من نسيج المجتمع الإندونيسي، ينظر إلى أصوله العربية كماضٍ قديم أو جزء من تاريخ العائلة". في المقابل حرصت جهات أخرى على الحفاظ على الهوية العربيّة، يُضيف: "في عام 1930 قام أول تجمع للمواليد عرب باسم (رابطة عرب إندونيسيا) كان صاحب الفكرة ومؤسس هذا التجمع هو عبد الرحمن العمودي"... "لم يندمج الكل في المجتمع الإندونيسي فقد ظلت محاولات مجموعة رابطة عرب إندونيسيا التي يقودها العمودي للإبقاء على الهوية العربية للمواليد".

يُشير الموقف لضرورة الفعل، لكنهُ قبل ذلك يعني تحقق الوعي، والوصول للإدراك، يعني ذلك أنّ جزءًا أصيلًا من المشكلة تمّ تجاوزه، أو حلّه. لقد كان للهجرةِ الحضرميّة مساوئ جمّة، لكنها أحسنت في مسألة طرح المساواة، وأجادت في سماحها للوعي الحضرمي بقبولها وتصديقها، وتجاوز من سلبوها منهم، مع التركيز على أنّ طبيعة المجتمع متديّنة؛ ما يعني صعوبة حدوث شيءٍ كهذا، إذ حافظ المقصودون على هذه السلطة التي أحدثت نظامًا طبقيًا، ولا مساواة فجّة من خلال مرجعيّة دينية، تقول إنّ لها صلة قرابة بالرسول محمد عليهِ الصّلاةُ والسّلام.

ندين لأرضِ المهاجر بحرّيتنا، وإيماننا بالتساوي بين البشر، نُدين في رفضنا للطبقيّة للمطارحِ التي حلّ بها أجدادنا دون أن يُدركوا النهضة الفكريّة التي سيُحدثها الأجيال فيما بعد في أكثر النقاطِ حساسيّةً ضمن حياةِ المجتمعِ الحضرميّ. في جاوا ثُرنا على طبقيّة مُفتعلة، وراحَ صدى الثّورة يترددُ في كلّ مكان، لا حضرموتَ فحسب، بل في الوطنِ العربيّ، المرّة الوحيدة -حتّى الآن- التي استمع فيها العرب لنا ولصوتنا ولرفضنا! المرّة الوحيدة، وكانت في أرضِ الهجرةِ لا الوطن حضرموت، يا لِهذا الارتباطِ بالهجرةِ، كم يبدو متجذّرًا في أدقّ تفاصيلنا، وفي أعقدها، وفي أخفاها.