هاجس المعنى والكتاب

أقول في نفسي ما الذي يجعل للحياة معنى؟

أخص نفسي دائمًا بهذا السؤال وأسعى لاقتحام أي طريق يؤدي له. تشكيل الصورة عندي بريء جدًا؛ اعتقدت أن ضرورات الحياة العادية تضفي المعنى وتفي بالغرض. ومن المفروض أني حققت ما أصبو إليه.

هاجس المعنى والكتاب

فأراني منذ الصغر أتساءل كأي إنسان آخر ما الذي يجعلني أشعر بالمعنى والامتلاء الحقيقي، ألتقط أفكارًا من هنا وهناك لكن دون جدوى، لم أجد سلواي إلا في الكتب، فكرة الكتاب في بدايتها كانت جذابة جدًا. المهم، انغمست في حيوات الكتب وبدأت أستشعر المعنى الذي أبحث عنه، كلّما انغمست أكثر امتلأت أكثر، كنت فرحة ومزهوّة بهذا الاكتشاف، وكأي شيء تقتحمه، يجب أن تدفع ثمنه.

كان فعل القراءة يكلّفني بعض المجاهدة أو الكثير منها للاستمرار عليه وترسيخه، وهكذا استمررت لسنين عدّة في تحصيل تراكمات قراءة في مجالات مختلفة، لم يخفت انجذابي للكتاب لكن تغيّرت غايتي منه، بل لم يعد غاية أصبح ضرورة حياتيّة لا أستطيع العيش دونه. أذكر كثيرًا أيامي تلك عندما اكتشفت أنني كتلة جامدة مع متغيّرات المجتمع لا أتلوّن بأهوائها ولا أنساق بانسيابيّة معها، الرادع الوحيد الذي يجعلني أقبل المحاولة هو الكتاب، فصرت أستمدّ أكثر أفكاري منه، وأرتكز عليه ارتكاز الواثق.

علاقتي بالكتاب علاقة تعلّق شديد والحقيقة أني أستنفر من كلّ من يقترب أو يهدّد هذه العلاقة، لذلك أنا متصالحة معه ومتخاصمة مع منتقديه. الكتاب هو نجاتي والملجأ الوحيد الذي أجد فيه نفسي وراحتي من صخب الحياة، بل وأجد فيه إجابة عن كلّ تساؤلاتي، أغوص فيه كالظمآن فلا أرتوي وأهدأ معه كالمُتعب فأشقى أكثر، ما اقتنصت منه فكرة أستنير بها إلا وصَاحبتها أخرى تستفزّني، إنّه الوعي الذي ينتج عن هذه التراكمات، وكلّما حققت وعيًا، أُثقلت به وتضخّمت مسؤوليتي تجاه نفسي والمجتمع.

التفريغ بالكتابة

ثمّ إنه عندما تعيش كثيرًا مع وريقات الكتب فإنك ستكتظّ بالأفكار والحكايات، ستثخن بها شيئًا فشيئًا وتتخمّر بداخلك، ولا ملجأ لك إلا بمصاحبة القلم إلى جانب الكتاب، تُنفّس عن نفسك بالكتابة؛ كلّ ما يضطرم داخلك من أفكار خفّف لهيبها بالكتابة، ستخرج منك الكلمات كأنها كانت تأسرك في مكان ما، عبّر عنها كأنها توجعك ولكنّك لا تستطيع البوح بها، ستشعر بالخفّة إن تحرّرت من هذا.

هكذا تصنع الكتابة بي مراوحة بين ثِقلٍ وخفّة، كأنّه تفريغ لكلّ فكرة نضجت وحان قِطافها بالكتابة.

ثمّ إنني شخص كتوم ووجدانيّ بالأساس، أثرثر بالكتابة وأعبّر بها، وأدفع الألم بها حتى تهدأ نفسي.

أن أعود من جديد بعد هجران القراءة والكتابة

ثمّ بعد هذا سأحدّثك عن هجران القراءة والكتابة، والحقيقة أنها ردّة فعل ثائرة لكثرة انتقادي لإدمان فعل القراءة، ولا أنكر أيضا أنني وصلت إلى مرحلة تعلّق شديد وأردت أن أتحرّر قليلًا وأجرّب نفسي خارج أسوار الكتب.

تحرّرت من ثِقل المجاهدة والصدامات صحيح، لكن أن يمرّ يومي دون أن أمسك كتابًا يُعيد لي هاجس اللامعنى.

حاولت أن أنتقم بهذا الهجران ولو أنه خسارتي وحدي وأشفي غليلي لأرتاح وفعلت. لكن بعدها اتجهت بفكري إلى ماهو أبعد؛ أن أحدّد اتجاهي بجدية أكثر في كل ما أقرأ وأن ألتزم بأسلوب كتابة أكثر نضجًا وفاعليّة، لأن فعل الكتابة خاصة يتشكّل منّي، كل كلمة تخرج من أعماقي لا أرسمها بل هي حقيقية، لا يعني أن أخرج عن الصدق في الكتابة بل أن أكون أكثر تجرّدًا. وأن أعدّل علاقتي بالقراءة لتكون متوازنة أكثر، ولن أنفكّ أدافع عن الكتاب وأشجّع على مصاحبته.