فخ ازدواجية المعايير
لكل حكايةٍ رواة، ولكل منهم روايته، على حسب علاقته بالأحداث والتفاصيل ودرجة تأثيره عليها ما بين حاكم ومحكوم عليه، ما بين ظالم ومظلوم، ستُصاغ المواسم والفصول حتى نصل إلىٰ النهاية، أو قد لا نصل في بعض الأحيان. وستكون روايةً جديدةً بروايتنا لها لأنها ستحمل منظورنا للأحداث. سنحكم عليها ضمن معاييرَ معينة. هل هذه المعايير موحدة لدينا جميعًا؟
مفهوم ازدواجية المعايير
على مر العصور صيغ مفهومٌ ليتلاعب بأحداث الحكاية، مفهوم ضبابي، لكنه يقلب الموازيين احيانًا. ازدواجية المعايير، في معادلةٍ صغيرةٍ اختلاف في النظرة والموقف والحكم على نفس القضية، ما يفصل بين الفكر وتطبيقه، وأخذت هذا البعد لأن أحد أطراف هذه القضية قد امتاز بميزة تسمح له بالتجاوز على الطرف الآخر.
أبعاد ازدواجية المعايير ووجودها
لربما إنه مصطلحٌ سياسي النشأة، لكننا سُيِّسنا عليه بنشئتنا الفكرية، أصبحنا نستسيغ وجوده بيننا أو نبرره أحيانًا، ولا بد أننا واجهنا بعض الصعوبات في أحد المواقف التي ركبت أحداثًا وتفاصيلَ لم نكن راضين عنها، وربما شعرنا بعدم الإنصاف في الدائرة الخاصة أو العامة، وحقيقة أبعاده ستختلف إن استخدمناه أم استُخدم علينا.
جميعنا على درايةٍ تامةٍ بالحقوق والواجبات تحت منظومة الأخلاق والقيم الإنسانية، والدين المشرع لها والقانون الذي يعتبر وصيًا عليها مع مراعاة للحريات الشخصية ، وبرغم هذا الإجماع، سنتوقف عند المصلحة الشخصية، أو مصلحة ذوي القربى.
برر علم النفس وجود ازدواجية المعايير بيننا بوجود خلل في منظومة الأخلاق والقيم توجه السلوك إلى التناقض، لكن هل هذا الخلل موجود؟ وهل وجوده ضمنيًا بالإجماع العلني؟ أم وجوده سوداوية عبثية؟
سأترك الإجابة الصريحة مفتوحة للقارئ وعلى ثقة تامة بوعيه.
مسببات ازدواجية المعايير
أول وأهم مسبب هو غياب الهوية الدينية الحقيقة، العناية الإلهية بالأخلاق تتجسد بالكثير من الأمثلة بالموروث الديني، من الحكاية الأولى لآدم عليه السلام، وصولًا لسيدنا محمد (ص). كانت الأخلاق والالتزام بها محاور أسياسية لفهم الدين العميق، وجاءت هذه العناية بحكمة عظيمة من الباري، فهي الأساس بعلاقتنا مع ربنا وأنفسنا وخلقه. ولكن انتقائية البعض لنوعية معينة من التشريعات الدينية أو مذهب معين أو طائفة والتمسك بها أو إنكارها حد التطرف، وبالتالي هي التي تحكم على الآخر وممارسته فنجد الاختلاف في نفس القضية. والاختلاف يخلق تبريرات غير نهائية لازدواجية المعايير، وأصبح الاختلاف يصل بنا إلى حدود التكفير عند البعض.
أضف إلى ذلك شروخًا واضحةً في الهوية المجتمعية والثقافية، فنحن شعوب عالقة في متاهات غير منتهية، بنظرة إلى مجتمعاتنا متشبثين بعادات وتقاليد عاصرت بيئات مختلفة تمامًا، عن نسبة التحضر الذي ندعيه، ستجد ازدواجية المعايير ضبابية ما بين ما يطبق منها وما لا يصح تطبيقه، وبين ما يتم التجاوز عنه بتأييدٍ أو اعتراضٍ مجتمعي. سيشرع لأحدهم إيجاد تبريرات وما بين القبول ورفضه، فخ عميق أن لم تكن تبريراته مقنعة وحقيقية.
تجرعنا مدخلات ثقافية مختلفة تمامًا عنا، أصبحنا نتبناها بعدم وعي كامل بأنها تناسبنا أم لا، وكيف ستكون تبعاتها علينا؟
تراكمات ذلك كله أسهمت في ازداوجية فكرية ما بين باطني تقليدي وغلاف حضاري.
أشكال ازدواجية المعايير وصورها
ضمن معاييرك الخاصة مع نفسك، بعيدًا عن المثالية وتطبيقًا واقعيًا صريحًا مثال لا أحد منا يطيق الكذب! كم مرة احتجناه لنلملم المواضيع وتيسير بعض الأمور؟ صدقًا، لا يوجد أي مبررٍ للكذب، لا لك ولا عليك، وما لا ترضاه لنفسك لا ترضاه لغيرك.
ضمن دائرتك وعلاقاتك المختارة، أن تعطي رأيك أو تحكم بقَضيةٍ محيطة بك لأشخاص يحملون صفة مقربة متفاوتة وأن تكون أنت بين طرفي المعادلة ويأتي رأيك وحكمك بنتائج لعلاقات الآخرين ببعضهم وبك أيضًا، الازدواجية هنا قضت على الكثير من العلاقات بلا مسببات حقيقية غير الرأي والحكم إن كان عادلًا أو مجحفًا.
ضمن البيئة المحيطة الأسرية والعملية وغيرها، هنالك ازدواجية محكوم بها عرفيًا، ولا يحق لك حتى المقاومة، لأنك ستخالف العرف والمخالفة تعني التمرد والخروج عن المسار.
العنصرية الجندرية مثلًا، التفضيل يأتي للذكر على الأنثى في الأسرة والعمل على حد سواء. كثيرة هي إسقاطات الازدواجية على التعاملات بين الأطراف في هذه البيئات.
ضمن المجتمع العام الذي يحتوي أقليات بصفات مختلفة لا ينظر لهم بأنهم أشخاصٌ ذوو حقوقٍ كاملة وتضمن حقوقهم الدولة قانونيًا والأفراد مجتمعيًا، هنالك أشخاص يفقدون مسلمات الحياة فقط لأنهم خلقوا أو عاشوا بظرف معين مثل النساء المعنفات وأصحاب الإعاقة والأيتام ومن لا يحملون إثباتًا، والمساكين والمشردين والمسجونين ظلمًا والمفقودين وغيرهم. وصلت بنا المعايير لتصنيفهم حسب ظرفهم لا أنهم يعيشون ظرفًا مختلفًا فقط وأنهم بالمحصلة إنسان حقه الطبيعي ممارسة حياة خالية من الإذلال والخضوع.
ضمن المجتمع الدولي والسياسي بالذات الازدواجية موجودة على رأس القضايا كلها دون استثناء، لكثرة الحروب والدماء تستطيع أن تسقطها على أي مشهد حاضر أو غائب أو مغيب، قضايا الاحتلال والإرهاب والصراعات الدولية تتبعها الهجرة واللجوء، التجويع والإقصاء.
وهنالك ازداوجية معايير يتخصص بها الإعلام لا غيره، ففي كثير من الأحيان تجد لكل منبرٍ إعلامي توجهاته الخاصة تحتم عليها التستر عن حقيقة الأحداث والترويج لأفكارها المشبعة بالازدواجية ولا يقصد بها أي حياد، وتوجه الرأي العام بلمحة من الترغيب ولمحة أخرى من الترهيب.
نهايُة ما بعد النهاية
وكل ما ذكر أبدًا لا يعمَّم ، فهنالك صوت للحق بكل مكان بقلوب وضمائر حية تقاوم لتصل، تقاوم غياب المحاسبة والرادع الديني والأخلاقي، تسعى لتحقيق العدل والمساواة قدر الإمكان، وبكل الوسائل بمختلف البيئات والمجتمعات.
والمشهد الأخير في تلك الحكاية، أي نظرة وموقف وحكم ستصدر منا سنحاسب عليها، وإن لم تكن العدالة هنا ستكون في السماء أكيدة، فلتكن مرضية للخالق وليس للمخلوق، واليقين بالعدالة الإلهية التي هي أكبر من مفهومنا البشري وضمن أقدارنا لا يعني أن الحكاية انتهت عند مصطلح من صنيعة البشر، بل حتى هذه النهاية لها نهاية، وسيكون احتكام الخصوم والأطراف المساندة لها عند خالقها، عنده فقط عدل تام منزه عن أي شائبة.
"من العدل أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه، بمثل ما يأتي بها لنفسه" ابن رشد.