القراءة الفاعلة
كيف دخلتُ عالم القراءة؟
بدأت رحلتي مع القراءة بشكل غير ممنهج وغير منظم أو من الممكن أن أطلق عليها المرحلة الاستكشافية حيث كنت أقرأ كل ما أجده أمامي فإذا أعجبني الكتاب وشعرت أنني أفهمه أكملته، وإن لم يرقني أو بدا أن من الصعب فهمه تركته. كانت البداية مع القصص، والروايات، والشعر، والتنمية البشرية وتطوير الذات، وشيئًا فشيئًا انطلقت نحو كتب الفكر، والفلسفة، والتاريخ وعلم النفس.. إلخ. كنت في كل مرة أقرأ كتابًا من صنف مختلف، وقد أحببت ذلك وراقني التجوال في مختلف المجالات، أصبحت طريقة تفكيري تتغير وأكتشف كثيرًا من الأشياء يومًا بعد يوم. واستمررت على هذا الحال سنوات عديدة، قراءات مختلفة وأحيانًا أنقطع فترة ثم أعود مجددًا بجوع شديد لأشبع عقلي وفضولي فأجدُ ضالتي في الكتب. في البداية كان الأمر مجرد هواية، فهكذا قيل لنا وكثيرًا ما سمعنا أن القراءة هواية تمارس وقت الفراغ.
فأن تسمع دائمًا أن القراءة مجرد تمضية للوقت وهي تسلية وقت الفراغ يجعلك تأخذ انطباعًا بأنها أمر سهل ولا يحتاج لمجهود كبير أو تعب أو أي تخطيط!
يومًا بعد يوم، كتابٌ تلو الكتاب إلى أن راودني سؤال: ثم ماذا؟ وإلى أين؟
"كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي، وكلما ازددت علمًا زادني علمًا بجهلي". الإمام الشافعي
الكتب كثيرة، المجالات واسعة وبشكل لا متناه، لا العمر ولا الصحة يكفيان ولا حتى الوقت، أدركت أنني حلّقتُ طويلًا بين صفحات الكتب وربما انفصلتُ في كثير من الأحيان عن الواقع وأنا أفكر و أتأمل في الأفكار المجردة، وأدركت أن عقلي لن يستوعب كل شيء ولن يدرك كل شيء. ربما هذه كانت حقيقة محزنة بالنسبة لي كطبيعة بشرية أصلها النقص و القصور، فالركض خلف الإجابات والبحث عنها ولذة اكتشافها إسكاتًا لتساؤلات تغلي في رأسي وتؤرقني كان وما يزال يمثل نشوة كبيرة بالنسبة لي، أجد متعة كبيرة حين أتساءل وأحتار وأكتشف أنني في متاهة من الجهل فأجتهد لأبحث عن مخرج ثم أجد النور في النهاية، لأكتشف مناطق جهل أخرى وأبحث عن إجابات للتحرّر من هذا الجهل وهكذا. إذًا أصبحت قراءاتي تسير وتتجه حيث يدفعني الفضول والأسئلة، لكن سؤال إلى أين جعلني أتوقف قليلًا وأنظر خلفي، أي مسار أنا أصنعه وأين أنا من الكتب وأين أنا من واقعي؟
"القراءة تعطي العقل المواد الخام، والتفكير يجعلها ملكًا لنا". جون لوك
فإلى جانب ضعفي البشري وأن العمر لا يكفي لقراءة كل شيء، بدأت أتساءل أيضًا ماذا إن كان ما أقرأه مجرد وهم فكيف لي أن أميز ذلك؟ ثم حتى هؤلاء الذين يكتبون في النهاية بشر يصيبون ويخطئون وليسوا أشخاصًا منزهين ومثاليين، وعلى الإنسان أن لا يكون مجرد إسفنجة تمتص كل ما يُكتَب وكل شيء دون تمحيص، والعالم متنوع والأفكار كثيرة والتوجهات عديدة، الأسئلة لا تنقطع، و لا أريد أن أكون قومًا تُبعًا في القراءة، هنا بدأت أشعر أنه يجب أن أمتلك أدوات فكرية معينة أفكر وأمحص بها، فللإنسان عقل يفكر به فنحن نولد بقدرة على التفكير للتفاعل مع المعلومات التي نجدها في المحيط، نفكر، نحلل، ونسنتنتج ونتعلم بالتجربة.
وعلى الإنسان أن يشك ويتساءل فيما يقرأ ويتأكد وأن لا يتعرض للخداع وغسيل الدماغ، في هذه المرحلة اتجهت لكتب المنطق، والمغالطات المنطقية، والتفكير النقدي.. إلخ، للعقل أدواته في التفكير ويجب أن تكون كفؤة، ليكون العقل منفتحًا باحثًا عن الحقيقة وليس مجرد واهم مخدوع، فلا يكفي أن نقرأ فقط ونبحث عن معلومات، بل يجب أن نشك، ونتفكر ونتدبر فيما نقرأ ونتساءل باستمرار.
إذا ماذا يجب أن نقرأ ولمن نقرأ؟
"القراءة في الكتب الجيدة حوار مع أعظم العقول التي عاشت في العصور السابقة". ديكارت
بما أنّ الوقت من أثمن ما نملك ولا نستطيع حتى شراءه أو تعويضه والكتب كثيرة، وجب أن أُصبح انتقائية في قراءتي، فما أن يملك الإنسان أدوات فكرية، وحسًا نقديًا، ويزداد وعيه ومسؤولياته تجاه نفسه ومحيطه ويدرك احتياجاته وما الذي يطمح للوصول إليه، فإنه سيدرك جيدًا ما يحتاجه وما ينبغي له تحصيله ومعرفته، في هذه المرحلة يجب اختيار الكتب بعناية وحسب الأولوية والتي ستكون للتخصص، فالمتخصص يجب أن يكون مدركًا لأسس تخصصه وتفرعاته، مُلمًا بتفاصيله ومناهجه العلمية، ويستمر بذلك. فالعلم لا يقف عند حد معين والأبحاث الجديدة تظهر باستمرار، هناك نظريات جديدة تظهر ونظريات أخرى تدحض قوانين جيدة تُكتشف، وقوانين أخرى لا يُعمل بها بعد الآن، فمواكبة التطور حاجة ضرورية وملحة.
وبهذا سنعي وندرك أمرًا مهمًا للغاية، وهي أن نأخذ المعلومة التي نحتاج قراءتها من أهلها أي من المتخصصين أصحاب الصنعة، فأي مجال جديد أحب أن أقرأ فيه أفضل أن أقرأ لكاتب يكتب في تخصصه ومتمكن فيه، خاصة ونحن في عصر توجد فيه المعلومات على نحو رهيب، وصار الجميع يستطيع أن يكتب ويشارك أفكاره بكل سهولة، فتنتشر الأكاذيب والمعلومات المغلوطة والكتابات السطحية التافهة، فاختر دائمًا ماذا تقرأ ولمن تقرأ.
لماذا نقرأ وما أثر القراءة على الواقع؟
"لم أعرف في حياتي ساعات أحلى وأسعد من تلك التي قضيتها بين كتبي". العقاد
أقرأ لأشبع فضولي، لينطلق عقلي حرًا في تساؤلاته وبحثه، نحن مخلوقات مميزة بالعقل، والعقل غذاؤه العلم.
قيل لي مرة أن ما أقرؤه بعيد عن الواقع ويبدو مثاليًا أمام الواقع المليء بالتحديات والمشاكل والصراعات، فقلت هل نستسلم لما هو كائن في النهاية؟ أم من المفترض أن نحاول ونجتهد لننزل تلك الأفكار التي اكتشفنا أنها صائبة وخيرة ونخلق لها مكانًا في الواقع؟
القراءة في العلاقات، تعلمك كيف ينبغي أن تكون علاقتك مع ذاتك ومع الآخرين، القراءة في الصحة والجسد وفي الرياضة ستساعدك في العناية بصحتك وجسدك، القراءة في الدين تساعدك كيف تقوي معتقدك وكيف تكون مطمئنًا وتقوي جانبك الروحي، تبصرك القراءة حتى بمشاكل إما أنت بغير مدرك لها أو لست واعيًا بها، الروايات تمنحك أبعادًا جديدة لنفوس مختلفة وحيوات إنسانية نتشارك فيها تفاصيل نشعر بها وتواجهنا جميعًا، الواقع مهم، ويجب أن تساعدك القراءة في النهوض بواقعك، وعيش حياة طيبة وترك حياة أفضل للأجيال بعدنا.
ومما تجدر الإشارة إليه أن القراءة عملية شاقة وليست مجرد ترفيه أو تسلية وقت فراغ، بل ليس من المفترض أن تكون في وقت الفراغ أصلًا بل يجب تخصيص وقت ومكان مناسبين تكون خلالها في أعلى درجات تركيزك واستيعابك، فهل سمعت بمقولة "أفكارك تشكل حياتك؟" فالبداية هي الفكرة والثمرة هي السلوك، فمن أين تنتقي أفكارك؟
يقول الدكتور عبد الكريم بكار: "القراءة أهم وسيلة لاكتساب المعرفة وإذا كان اكتساب المعرفة أحد أهم شروط التقدم الحضاري فإن علينا أن لا نبخل بأي جهد يتطلبه توطين القراءة في حياتنا الشخصية وفي حياة الأمة عامة، فالمسألة ليست كمالية ولا ترفيهية وإنما هي مسألة مصير، وجعلها عادة يقتضي تغييرًا في سلوكاتنا وعاداتنا كما يتطلب توفير المال والوقت".
رحلة القراءة لن تقف عند حد معين، بقدر ما هي متعبة وشاقة لكنها ممتعة جدًا تجعلك تتسامى وتكتشف ذاتك في كل مرة، وتتجدد وتتألق وترتقي أكثر كلما قرأت أكثر.