أولادنا والغربة

صداقة جمعتنا معًا

مضت عدة سنوات منذ أن شاركتني الغربة طريق حياتي، فأصبحنا صديقين لا يفترقان، يتنازعان أحيانًا ويتصالحان أحيانًا أخرى، فلا أنكر أنها ساعدتني أن أنضج كثيرًا نتيجة كثرة الصفعات المؤلمة، والمواقف التي تجد نفسك فيها وحيدًا، وتنوع الثقافات والجنسيات التي تعرفت عليها خلال العمل أو حتى الحياة اليومية بشكل عام، فلقد تعلمت منهم الكثير، ولكننا تنازعنا كثيرًا أو بالأحرى تعاتبنا كثيرًا. فالشوق والحنين للأهل والصحبة والوطن لا يفارقني، هو يهدأ قليلًا مع أوجاع الحياة وضغوطاتها لكنه لا يلبث أن يعود أقوى وأشد، لكن لا مشكلة في هذا فهكذا هم الأصدقاء يتعاتبون، يتنازعون وسرعان ما يتصالحون.

أولادنا وغربتهم

إن ما يقلقني الآن هو أطفالنا والغربة، فأنا لدي مخزون من الذكريات في الوطن هم لا يمتلكونه، وفي الحقيقة إنني كنت غير واعية لهذا إلا عندما قضينا وقتًا أطول في البيت خلال جائحة كورونا، فعندما نتحدث معًا عن ذكريات طفولتي أجد في عيونهم نظرات حزن ممزوجة بالغبطة ولهم كل الحق في ذلك، فلا زالت رائحة الياسمين تفوح في الصباح الباكر في كل الطرقات عالقة في ذهني، وورد الدحنون الأحمر المتناثر في كل مكان، والعشب الأخضر يكسو الأرض، معلنًا قدوم الربيع فصل البهجة والسرور.

وأما الشتاء فحكايةٌ أخرى، ففي تلك الأيام كنا نسير إلى المدرسة سيرًا على الأقدام تحت المطر ورغم صعوبة الظروف الجوية كنا نسير مستمتعين نتداول الأحاديث سوية، وعندما تتساقط الثلوج بغزارةٍٍ ونلبث في البيوت بضعة أيام فنلعب ألعابًا بسيطةً لكنها كانت تدخل الفرح إلى قلوبنا فنتشاجر قليلًا ثم لا نلبث أن نعود ثانية للعب، ثم نتجمع وقت المساء لتشاهد العائلة جميعها مسلسل المساء.

الصباح في الوطن رائحة خبز أمي، إبريق شاي يعدل مزاجنا يدفئ قلوبنا قبل أجسادنا، إفطارٌ ينافس شروق الشمس في حلاوته، دعواتٍ تطلقها أمي في سماء الله فتعود زخاتٍ من التوفيق نلمسه في يومنا، ليس كالغربة إفطار على عجلٍ، وقهوة نحتسيها على أنغام فيروز "يا هوا دخل الهوا خدني على بلادي".

المدرسة في الوطن بيتنا الثاني، فيها تعلمنا حب الوطن بل تشبعنا بحبه، ابتداءً من السّلام الوطني والذي لم أدرك أن أطفالي لا يحفظونه إلا من خلال نادٍ لإلقاء الشعر كنت قد أشركتهم فيه خلال الجائحة لاستغلال وقتهم بممارسة هواياتهم، حيث طلبت المعلمة في نهاية النادي من الطالبات إلقاء النشيد الوطني الخاص ببلد الطالب، شعرت حينها بمشاعر الخيبة ممزوجة بالتقصير واللّوم، فقررنا أن نردده كلّ صباح عند الذهاب إلى المدرسة، لنزين به صباحاتنا.

مرورًا بالمعلمة فهي في الوطن كالأم، لا أدري كيف تجتمع فيها القسوة والحنان، والجد ّوالمزاح، والعلم واللّعب. هي تدرك تمامًا أنها لا تؤدي وظيفةً فحسب بل تنشئ جيلًا يبني الوطن، فتراها لا تكفّ عن تقديم النصائح في مجالات الحياة المختلفة وليست الأكاديمية فقط.

وانتهاءً بالاحتفالات في المناسبات الوطنية حيث يعلو صوت الأناشيد الوطنية، وترفرف الأعلام في كل شارع، معلنة الفرح وتجديد المحبة والولاء في حين نكتفي في الغربة بمشاهدتها على التلفاز والقلب ينادي أريد الوطن.

وللعيد في وطني بهجة متقنة بكل تفاصيلها، فصنع الكعك مع العائلة، ورائحته تفوح في كل مكان قبل العيد، وقهوة أمي صباح العيد والتي لم أتقن صنع مثلها أبدًا رغم التزامي بوصفتها، لكنّ حلاوة أمي وطيبتها تظهر حتى في قهوتها، فالجميع يجتهد في ترتيب البيت والضيافة ولا يكتمل هذا كله إلا بتجمع العائلة كلها وتبادل التهاني والأحاديث والضحكات تنبع من القلب فتنعش فينا حب الحياة وأنها أجمل بوجودهم حولنا.

ذكريات ينقصها الوطن

كل هذه التفاصيل وغيرها لم يشأ القدر أن تحفر في ذاكرتهم. ذلك القدر الذي صنعناه بقراراتنا ونيتنا تحقيق حياة أفضل لهم، ولا أدري هل حرمانهم من هذا المخزون من الذكريات يحسب لنا أم علينا كأهل محبين لأطفالهم يحاولون جلب السعادة لهم؟!