المعلم الحياة.. الدكتور محمد متولي

"اللغة العربية لغة دقيقة جدًا، ميزانها من ذهب، وأنتم أساتذة للعربية، ويجب أن يكون ميزانكم من ذهب". 

هذا ما قاله الدكتور محمد متولي مهذبًا طالبًا قد أخطأ في قراءة تشكيلات الكلمات، قال ذلك بنبرةٍ هادئة، دون ازدراء، وبكل ما أوتي من حبٍ للغة العربية وبث هذا الشغف فينا، كم سيؤلمني بعد ذلك أن أقرأ قراءة غير سليمة، حتى لو قرأت بيني وبين نفسي قراءة لا يسمعني فيها أحد!

الأدب وخيوط النور 

يقول الدكتور محمد متولي "الأدب في عصر العلم لا يُعالج فيه مريضًا، ولا يطعم جائعًا، ولا يكسو عاريًا، ولا ينصف مظلومًا؛ لأنه ليس سيفًا، فهو قوة ناعمة لا تقوى على إحداث ذلك الأثر القوي ولكن لها أثر السحر في بناء النفوس". 

‏هكذا خلال الرحلة بين المواد العلمية البحتة، والمسارات المادية نستريح ها هنا، بين أرفف الكتب، على جدران الكلمات، إما باحثين عن كلماتٍ تشبهنا، وإما ذارفين للكثير من الكلمات، ترانا نغرق بين السطور، بين دفتي كتاب جميل، يعكس صورة أرواحنا. 

لك أن تتخيل ماذا يجني من اتكأ على الأدب، ومن أحب تفاصيله، فهو يأتي بكامل رقته يمسح على قلبك، فتترك كل شيء، وتمسك يده مستلهمًا منه المزيد، وأنت في الحقيقة تستلهم منه نفسك.

لكن هل كنا سندرك كل هذا عبر النظر من خلال ذواتنا فقط؟ هل كنا سنرى مسارات جديدة لو كنا نحمل المرآة باتجاهٍ واحدٍ معتاد مثل كل مرة؟! 

من حق الأشخاص الذين وضعوا لنا مسارًا جديدًا في حياتنا، وأعطونا مفاتيح لأبواب مقفلة، وأناروا مصباحًا في شدة عتمتنا أن نخبر العالم عنهم ولو كلمةً واحدة، من حق الملهمين أن يُشار إليهم بالبنان، وأن تتكلم عنهم الأقلام، وأن نقول لمن حولنا، انظروا ها هنا، هذا الذي رزقه الله خيوط نور ينسجها بدهاءٍ لطلابه وللماشين على طريقه، ويقول فاتحًا ذراعيه مبتسمًا، أهلاً وسهلاً بكم متى شئتم!

معلمٌ لا يزدري

يبدو هذا أمرًا مدهشًا، مدهشٌ جدًا، أن يمسك المعلم ورقة امتحانك ويرى نتيجتك، ويخبرك بأخطائك بلطفٍ شديد، وهو يؤكد على أنك قادرٌ على القيام بأفضل ما لديك، بصورة مؤدِّبة، ومن دون ازدراء.

حسنًا، لو أننا نريد أن نفكَّ العُصبة عن أعيننا ونرى حقيقةً مزعجة جدًا، سترى أنك طالبٌ تحاول مرارًا، ولسبب ما لم تحصل على درجة جيدة في الاختبار، قد يحصل أحيانًا أنك لم تُحضِّر جيدًا وقد يحصل أيضًا أن تُقصِّر، وقد يحصل أن تفهم المعلومة بشكلٍ خطأ، ألا يحصل كل هذا؟ 

بعدها تربط العصبة على عينيك، وتمشي بجانب مدرسك خوفًا من الميزان الذي سيجلسك فيه حتى لو أبيت، أنت الآن لا قيمة لك في نظره إلا نتيجتك في الاختبار، وأنت أيضًا إنسان سيىء، وستظل دائمًا هناك في تلك الحفرة، والنتيجة هي أن تظل العصبة على عينيك طوال سنوات دراستك خوفًا من نظرات مدرسك. 

تلك الحفرة أيضًا! إما أن تتغلب عليها بنفسك، وإما أن تعلق فيها، وفي كل الأحوال ستظل مضربًا للذكريات المزعجة! 

لكن، خيوط النور في يدي هذا المعلم، تجعله يفك العصبة عن عينيك، وأن يقدر جهدك ومحاولاتك، وأن يخرجك من تلك الحفرة، وأن يغلقها أيضًا، فهو معلمٌ لا يزدري، ألا يبدو هذا مدهشًا؟! 

"وقد كنتُ طالبًا مثلكم"

من الجميل جدًا، ومن الضروري جدًا أن تتعرف على أشخاصٍ يسبقونك خطوات كثيرة، هذه قاعدة أسيرُ عليها في حياتي، دائمًا ما أسأل نفسي من قدوة هذه المرحلة؟ وهذا السؤال هو السبب وراء إقحام نفسي في الدورات التدريبية والفرص التطوعية. 

لا يزال الدكتور محمد في حواراته وكتاباته يطلعنا على تجاربه مهما كانت بسيطة، حواراته مع نفسه وأسلوب دراسته، فيجعلنا هذا نطرب لاسترسالاته ويجعلنا أيضًا نبحث بين السطور التي كتبها ودوَّنها في مواقع التواصل الاجتماعي، علَّنا نجد ماذا صنع الدكتور أيضًا أثناء دراسته!

ومن الجميل جدًا أن هذا يجدد الشغف والحياة بين أوراقنا الدراسية التي تراكم على بعضها الغبار بسبب ما أصابنا من ملل، ثم ومن دون أي سبب آخر تراني أوبِّخ نفسي، وأعود لها بكل إقبال ورحابة صدر غير مُسبَقة! 

الدكتور محمد معلم قاصّ 

فالحكايات تسيل من أنامله سيلًا، عن كل الأدباء الذين يعرفهم والذين يقتضي ذكرهم في مواضيع المحاضرات، وعن كل الكلمات والأمثال الشعبية وأساليب التعبير؛ فلكل منها حكايةٌ خاصة، لها سحر البقاء في الأذهان ولها جمالٌ يرينا الصورة الأدبية التي ينبغي أن ندركها لكل ما هو عادي أو عابر، فتصبح رمزًا راسخًا في ذهنك لطيفًا إلى نفسك لا تنساه أبدًا!

الأديب الراوي الذي تسحره أصغر التفاصيل وأدق المشاعر، يسلط عليها عدسته المكبرة وقبل أن ندرك الصورة ترتسم الابتسامة على وجهه لعظمة وجمال هذا الكنز الأدبي، فنبتسم وقد بدأت الصورة في الوضوح في أذهاننا أيضًا، نكاد نراها مطبوعة ونشعر بها كما رسمها الدكتور لنا تمامًا وبنفس شعوره.   

الأديب الحياة وألبوم الذكريات 

هو ليس إنسانًا واحدًا، هو كل المعلمين والملهمين الذين رآهم وأثروا فيه. فقلمه مرآةٌ عكست الأشخاص في ذاته، تخالهم لم يعبروا حياته، بل علقوا فيه قبل أن يخطوا خطوةً نحو الرحيل، تراهم في كل جانب من جوانب حياته، ترى هيبتهم خلف عينيه، وابتسامتهم في وجهه وعلمهم بين كفيه، وأخلاقهم النبيلة في خلقهُ الكريم، كأنهم لم يرحلوا، هم باقون حتى في نبرة صوته!

قد تظن أنك في موعدٍ مع ألبوم ذكريات، فيه عبق الأمكنة التي وطئوها، والكلمات التي نطقوها، نظرات أعينهم وأخلاقهم ومبادئهم وابتساماتهم وصمتهم وصوتهم، وفيه ما يحملونه من حبٍ للغة والحياة والإنسانية.

فتبكي عندما يحدثك الدكتور عن واقعة حزينة أو ذكرى رحيل، وتطربُ لمواقفهم الطريفة، التي لا تخلو أبدًا من شغف طلب العلم وحب اللغة والحياة. 

لله درُّ هذا الأديب الحياة!

شغف ورضا

"اللغة العربية جميلة، والاشتغال بها أحد أكبر مصادر المتعة في هذا الزمن!".

عندما يخبرك معلمك عن حبه لما يقدمه لك، واحتفاءه به، وسعادته بانتفاعك مما تغرفه من معارف، وأنه قد حقق شيئًا مما يطمح إليه في هذه المحاضرة وعن رضاه بوصفه معلمًا للغة العربية، ينتقل شيء من هذا الرضا لك أنت كطالب، بل ويصبح لوقتك معنى، حتى انتقائك للكتب الجديدة ومشقة الحصول على المعارف تتحول من كونها مشقّة إلى طمأنينة نحو ما تسير اتجاهه، وما ترسمه في مخيلتك تجاه اللغة الجميلة، ربما لأن الطريق بدأت بنسيج النور، وبشاشة، وابتسامة، ورضا فلا بد لك أن تجد سلواك في ما تتعب عليه طوال النهار، وتسهر لأجله، وتقتنص الدقائق للحصول عليه، واللغة إن طرقت بابها ستنهلُ عليك، هي الصادقة الراسخة النقية؛ أليست مرآةً لذواتنا، فهل تكذب المرآة؟! 

لعل هذه الكلمات التي كُتبت على فترات متقطعة فيها شيء من عدم الترتيب، أو جُمِّعَت كلعبة الصور المقطعة، لكنها مُحكمة الامتنان، وفيها ما فيها من أبواب النور، التي فُتحت على مصراعيها، لننظر من جديدٍ وعن كثب كيف يكون العطاء مِن قِبل المعلم المُخلِص؛ من يجعلك تبتسم وتبكي، ومن يساعدك على أن تواجه نفسك دون مجاملات وصور زائفة، يريدك أن ترى الحقيقة كما هي، لأنه مدرك كيف وصل إلى هنا، كيف عرف وكيف رأى ويريدك أن تعرف وأن ترى! هو مخلص لك أكثر من وصفه مخلصًا لمهنة، إنها رؤية إنسانية، ولولا ذلك لما استطعت أن تسميها إخلاصًا. 

تُرى كم أحتاج من الوقت لأستطيع استيعاب ما لم أستطع كتابته، لكنني موقنة كل اليقين أن هذا الغرس متين وسيزهر يومًا من الأيام! وموقنة كل اليقين أنني لا أريدُ أن أكون شيئًا في الحياة سوى معلمة.