في مديح العامية
منذ قررت نفض الغبار عما تبقى في مخزون ذاكرتي من اللغة الإسبانية -والتي درستها في الجامعة قبل 14 عامًا ووضعتها على الرف، بالكاد أستخدمها أو أجد سببًا لذلك- وأنا أعيد اكتشاف متعة تعلم لغة جديدة. وإن لم تكن هذه لغة جديدة تمامًا علي، فالواقع أن طبيعة اللغة الحية ودائمة التطور تجعل كل لغة تتعلمها لغة جديدة بشكل أو بآخر، مهما ابتعدت جذورها في التاريخ.
لكن هذه الطبيعة المتجددة للغة تجعل عملية التعلم أكثر تعقيدًا، وتجعلها عملية مستمرة بالضرورة، فما تتعلمه في معهد اللغات وحده لن يجعلك مؤهلًا للتواصل بلا مشاكل في الشارع، وما تتعلمه من أستاذك الإسباني قد يعرضك للسخرية خلال رحلة إلى المكسيك، لا سيما حين تكون تتعامل مع لغة تتغير كل خمسين كيلومترًا، كما وصفها غابرييل غارسيا ماركيز.
ضريبة التنوع
التحدي البديهي والأكبر هنا هو اللهجات، والتي تتنوع وتتفرد بخصوصيات معينة إلى الدرجة التي قد تجعل كل لهجة لغة قائمة بذاتها، ومهما اجتهدت أو اجتهد أستاذك في تعليمك مصطلحات دارجة في لغته، إلا أن هناك حدًا معينًا يقف عنده التعليم الأكاديمي غالبًا، كما أن معرفة أي شخص باللغة، حتى لو كانت لغته الأم، تبقى محدودة، وستجد شخصًا إسبانيًا يقر بأنه لا يفهم دائمًا المصطلحات التي يستخدمها زميله الكولومبي مثلًا، تمامًا كما تجد مصريًا لا يفهم كل الكلمات التي يستخدمها شخص سوري أو خليجي.
يترتب على ذلك ضرورة إيجاد مصادر أخرى مساندة لتعلم اللغة، كقراءة الكتب والمقالات أو سماع الأغاني أو مشاهدة البرامج المختلفة، لكن حتى تلك الطرق -كما تعلمت لاحقًا بالطريقة المحرجة- ليست مضمونة دائمًا، إذ أنني بالتزامن مع حصص اللغة بدأت أشاهد أفلامًا ومسلسلات إسبانية من تلك التي تزخر بها نتفلكس. وهكذا، بدأت ألتقط الكلمات العامية وأدونها ذهنيًا مع شعور بالانتصار كوني آخذ خطوة متقدمة وأتعلم اللغة من المصدر. إحدى الكلمات التي لفتت انتباهي كانت Chulo، والتي هي المرادف لكلمة Cool، حسب الترجمة الإنجليزية، كما أن السياق الذي جاءت به في الفيلم لا يدع مجالًا للشك في أنها كلمة مستخدمة ومتداولة بهذا المعنى، مما أعطاني الثقة الكافية لمشاركتها مع أحد الأصدقاء، والذي بدوره قرر استخدامها في حوار عادي مع زميلة إسبانية له في العمل، والتي بدورها انهالت عليه بمحاضرة تشرح فيها لِمَ عليه ألا يستخدم هذه الكلمة أبدًا، وأنها في إسبانيا تُستخدم للتعبير عن أشياء أخرى، وأحد أشهر معانيها "سمسار الدعارة" أو "القوّاد".
هذا الارتباك الذي ينتج عن محاولة الإحاطة بالمصطلحات العامية في لغة ما، لا سيما لغة واسعة الانتشار يتحدثها الملايين من ثقافات وبلاد تفصل بينها جبال وبحار، جعلني أتمنى للحظة لو كانت اللغات شيئًا معياريًا ثابتًا لا يختلف باختلاف الزمان والمكان وتعني فيه كل كلمة الشيء نفسه أينما قيلت. لكن هذه الأمنية -عدا عن كونها مستحيلة وعمليًا- ما لبثت أن سُجلت ضمن ملف "أغبى الأفكار التي قد تخطر على بال بشر"، جنبًا إلى جنب مع تحديات Tik Tok المختلفة والـGourmet Falafel.
إن جمال اللغة ومتعتها تكمن في طبيعتها الحية العصية على التنبؤ، والتي تجعل الإلمام بلغة واحدة بشكل كامل أمرًا مستحيلًا وهدفًا يمكن الاقتراب منه فقط من دون رجاء تحقيقه. ولا نحتاج إلى الذهاب بعيدًا لإعطاء مثال على ذلك، فاللغة العربية من أكثر اللغات تنوعًا في اللهجات واللكنات، وبخلاف ما قد يعتقد البعض، ليس هذا التنوع وليد الحداثة أو تدهورًا للغة الفصحى عبر التاريخ، بل هو سمة للعربية منذ آلاف السنين، وما اللغة الفصيحة التي نعرفها إلا محاولات علماء اللغة جمع لهجات العرب للوصول إلى لغة معيارية يمكن استخدامها وفهمها من كل الناطقين بها على اختلاف لهجاتهم، وما نعرفه باللغة الفصحى هي لغة القرآن الكريم الذي نزل بلسان قريش، إلا أنه لم ينكر ما عداها من لهجات العرب التي ظلت مستخدمة بين عامة المسلمين.
وإن كان للغة العربية الفصيحة الخاضعة لقواعد النحو والصرف سحر بياني لا يخفى على ناطقيها، وخصائص إيقاعية تميزها عن غيرها من اللغات، إلا أن للهجات العامية من العربية نصيبها من الجمال والبلاغة أيضًا، ولو كان جمالًا أقل عذوبة ورقيًا، بل جلفًا في بعض الأحيان.
لهجة أم لغة؟
يجادل البعض أن العامية ليست لهجة بل لغة متفردة بحد ذاتها، ويبدو ذلك رأيًا منطقيًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الأجنبي الذي يتعلم العربية الفصيحة لن يكاد يفهم جملة مفيدة إن نزل إلى الشارع في دولة عربية. وأجدني أحيانًا أتأمل بعض الكلمات العامية وأتساءل كيف يمكن لشخص لا يعرف العربية لأن يربط بينها وبين مرادفها في العربية الفصحى. مثلًا، كلمة "أواعي"، وكيف تكونت واكتسبت معناها لتعني "ملابس"، والظاهر أنها أتت من كلمة "وعاء"، لتكون الملابس وعاء للجسد، وهو ما يتضح من مفردها نادر الاستخدام "وعا"، المستخدم في الجزء الشمالي من بلاد الشام. ناهيك عن الكلمات التي نعتبرها عامية وهي ذات أصول عربية فصيحة، مثل كلمة "شال" بمعنى رفع أو حمل، وكلمة "منيح" التي تعود للكلمة الفصيحة "مليح" وتحورت إثر عادة العرب منذ القدم في قلب اللام نونًا، وكلمة "بس" بمعنى توقف، والتي أخذها العرب قديمًا عن الفرس ودخلت المعجم كفعل عربي، إذ يُقال: "بسّ الإبل" أي زجرها.
ولا يقتصر الأمر على المفردات، بل تجد خصائص لغوية تُستخدم في العامية كما في العربية، كالإيجاز والاختصار، ومن ذلك أسلوب النفي الأقرب إلى قلبي شخصيًا، وهو وضع حرف الشين في نهاية الكلمة للاستعاضة عن أداة النفي، فتقول: "بعرفش" بدلًا من "ما بعرف"، و "بديش" بدلًا من "ما بدي"، والذي دخل إلى العربية من الآرامية، وأصله إضافة الشين مع أداة النفي "ما بعرفش"، إلا أن الشين مع الوقت أصبحت أداة نفي كافية تغني عن الأدوات الأخرى. أذكر أن حوارًا دار بيني وبين صديق ذات مرة انتقد فيه استخدامي للشين النافية -إن صح التعبير- قائلًا ما معناه إنه أسلوب كلام "لا يليق بأنثى"، واتضح أن هناك من يشاركونه الفكرة ذاتها، لكن من غير المعقول أن نسمح لصورة نمطية عما يليق ولا يليق بجنس معين أن تمنعنا من استخدام وتقدير أسلوب لغوي يستعير خصائص اللغة الأم في الإيجاز والابتكار. ومن ذلك الاختصار تحول "بوِدّي" إلى "بدّي" و"كيّس" إلى "كويّس"، فتم حذف حرف من الأولى وإضافة حرف إلى الثانية، مما يظهر طبيعة التغير اللغوي وعدم خضوعه لقواعد محددة دائمًا، وإنما تعتمد على السمع والإيقاع وسهولة اللفظ، وهذا لا ينطبق على اللهجات العامية فقط بل اللغات الفصيحة أيضًا، فحتى اللغة المشتركة والمعيارية بنيت على ألفاظ تكونت واكتسبت معانيها وطريقة لفظها من استخدامها الشائع بين الناس، وإن كانت اللغات العامية أكثر تسامحًا مع التغيرات اللفظية والدلالية.
منبع واحد
برغم كل ما يدعم حجة كون العامية لغة مستقلة عن العربية، لا يسعني سوى تذكر ليلة قبل عدة سنوات كنا فيها فتيات عربيات من عدة دول عربية وكانت معنا فتيات أوروبيات ضمن ورشة عمل في المغرب، واجتمعنا مساء في مطعم لتناول العشاء، واتفق وجود فرقة غنائية راحت تغني أغاني عربية متنوعة، وحين بدأوا بغناء إحدى أغاني أم كلثوم شاركناهم الغناء تلقائيًا، عندها نظرت إلينا فتاة دنماركية باستغراب: كيف يعقل أن كل واحدة منكم من بلد مختلف وتحفظون الأغنية نفسها؟
ربما تكون كل لهجة عربية عامية لغة مستقلة بذاتها، إلا أنها كلها في النهاية تعود إلى منبت واحد، اللغة الأم التي لا يخطئها ناطقو العربية على اختلاف لهجاتهم، وملاذهم حين تعجز العامية عن تكوين جسر للتواصل بين المشرق والمغرب، ومرجعهم الموحد والمعتمد لتدوين ثقافتهم بلغة تفهمها الأجيال القادمة.