سنة أولى غربة: الجانب الآخر من السياج
برغم حبي للسفر واكتشاف أماكن جديدة، إلا أنني حتى وقت قريب لم أفكّر جديًّا بالهجرة، ولو كانت الفكرة تراودني من وقت لآخر ولأسباب مختلفة. حتى حين كنت أفكر في الأمر، لم تخطر أستراليا ببالي يومًا كوجهة ممكنة. هذا البلد البعيد، الغريب في كل شيء، حيث تحرقك شمس كانون وتصبح عبارة "آب اللهاب" بلا معنى، فأشهر الصيف التي نعرفها بردٌ وزمهرير، فيما تبلغ موجات الحر أوجها في شباط. حتى النجوم هنا غير النجوم، وعلى التائه في صحراء هذه البلاد الواسعة أن يجد دليلًا غير نجم الشمال يهتدي به إن أراد النجاة.
"عنّا في أستراليا"
إلى ما قبل ثلاث سنوات، لم يكن الاغتراب ضمن مخططاتي، ولم أكن أعرف أنني سأنتقل لبدء حياة جديدة في أقصى جنوب الكوكب، ولا كنت أعرف كيف سيكون وقع الغربة عليّ أو كيف سأتقبل تلك البلاد الجديدة، لكنني كنت متأكدة من شيء واحد: لا أريد أن أتحول إلى واحدة من أولئك المغتربين الذي نعرفهم جميعًا، أولئك المفتونون بالبلاد الجديدة بحيث لا يعودون يرون في بلادهم الأصلية سوى شعبًا متخلفًا يعوزه التحضر والأخلاق، فيتحول كلامهم إلى صيغة "عندنا وعندكم"، معلنين بهذا التمايز في الضمائر المتصلة انفصالهم المعنوي عن جماعتهم السابقة والتحاقهم بالشعوب المتقدمة. لا أعني بأي شكل من الأشكال أن المغترب يفقد حقه في السخط على بلده الأمّ وانتقاد ما فيه من مشاكل. أنا شخصيًا ساخطة جدًّا، كنت ولا أزال، بل إن سخطي يزداد مع كل يوم أقضيه في البلد الجديد. ما أقصده هو توجيه السخط إلى المكان الخطأ.
جميعنا نعرف ذلك المغترب الذي ينتقل إلى بلد من بلاد شمال الأطلسي ثم يعود في إجازة قصيرة يحلف بعدها أنه لولا أمه لما وطأ هذه البلاد مجددًا، ويخرج بنظريات عبقرية عن أسباب تخلف الشعوب التي يلخصها في كوننا شعوبًا همجية بلا أخلاق، بخلاف الأوروبيين أو الأمريكيين الذين عاش بينهم بضعة شهور اقتنع فيها أنهم أصل الأخلاق ومنتهاها. هناك فئة أخرى من المغتربين يتفاعلون مع الغربة بطريقة مختلفة، إذ يخلق لديهم الشوق إلى الوطن حساسية عالية تجاه أي انتقاد له، وقد ظهر هذا النوع بقوة خلال جائحة كورونا حيث كثر التقريع الخارجي لأي مواطن يشتكي من سياسة الدولة في مواجهة الجائحة، وانهال المديح من المغتربين الفخورين بالأداء الاستثنائي للحكومة الأردنية في وجه الوباء. وإن كانت تلك حالة قصيرة الأمد، إذ كشفت الشهور التالية الخلل والفجوات التي اعترت تلك السياسة، وجعلت أشدّ المؤيدين للحكومة ينقلب عليها، إلّا أنها تظلّ مثالًا مهمًا على توجيه الغضب إلى الأشخاص الخطأ والتنظير عن بعد، وكان ذلك هو الامتحان الذي ينتظرني فيما كنت أستعد للانضمام إلى صفوف المغتربين.
أفواه وضرائب
الحقيقة أن ذلك بدا سهلًا حين ترجلت من الطيارة في مطار ملبورن لأول مرة. كان المطار يبدو قديمًا بعض الشيء، ليس بائسًا تمامًا، فهو مطار يؤدي الغرض منه ويوفر خدمات جيدة المستوى، لكنه لا يعطيك انطباعًا بأنك تدخل إلى الدولة التي تحتل الترتيب الـ13 على قائمة أكبر الاقتصادات في العالم والمركز الخامس كأفضل دولة للعيش والاستقرار لعام 2022. لم يتطلب الأمر أكثر من أسبوع في ملبورن لأدرك أن هذه البلاد ليست مهتمة بإبهارك -على الأقل ليس بمنشآتها الإسمنتية- ولا تسخّر الضرائب الباهظة التي تتقاضاها من المواطنين والمقيمين لذلك الهدف. ما أن تخرج من المطار، وتبدأ التجول في الشوارع، حتى ترى أثر تلك الأموال في المواصلات العامة الميسرة ومياه الشرب النظيفة والمتوفرة بالمجان في جميع الأماكن العامة -رغم أنها دولة فقيرة مائيًّا- والحدائق المنتشرة في كل مكان، بما فيها من وسائل ترفيه للأطفال والكبار على حد سواء. كان منظرًا غريبًا بالنسبة إليّ أن أرى منطقة ألعاب أطفال شبه خالية حتى إنني ظننتها مهجورة، فيما حدائق الأطفال في عمّان تعجّ بالأطفال الذين يصطفون لأخذ دور على المراجيح القليلة. الفرق هو أن كل منطقة هنا فيها حدائق وأراجيح تكفي حاجة الأطفال في المنطقة، وبقدر ما كان يبهجني اكتشاف حدائق جديدة أو مجرد الخروج للمشي أو القراءة فيها في أي وقت من اليوم، كان ذلك يثير غضبًا وتساؤلات عن افتقار بلادنا إلى خدمات بهذه الأساسية والبساطة. يزيد من ذلك المزاج الرائق الذي يبدو به المتنزهون مع أطفالهم أو كلابهم، فالناس هنا عمومًا لطفاء وودودون، ولا بد أنك سمعت مقارنات المغترب بين اللطافة والدماثة التي يراها من الأجانب في بلاد الغربة مقابل التوتر والعصابية لدى أبناء جلدته. لكن، لِمَ لا يكونون كذلك؟ كيف يمكن للمرء ألَا يكون لطيفًا في بيئة توفر له كل وسائل الاسترخاء والترويح المجاني عن النفس؟ وكيف يُلام المواطن العربي على تجهمه وهو المحروم من كل ذلك، والذي لا يرى أثر الضرائب التي يدفعها إلا سيارات فاخرة للمسؤولين الحكوميين؟ باختصار، أنت كمواطن عربي غاضب في بلدك وغاضب إذ تخرج منها وترى ما حُرمت منه بلادك المنهوبة تحت شعار قلة الموارد. حتى مجرد الحديث عن نقص هذه المرافق الترفيهية قد يبدو ترفًا للبعض في ظل ضعف الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم، ولو كانت في الحقيقة خدمات أساسية أيضًا، لاسيما في دول تعتبر الإنسان أثمن مواردها.
لكن كما هو الحال في أي مكان في العالم، ليست كل أحياء المدينة سواء. أتذكر أول مرة ذهبت فيها إلى أحد الأحياء الذي يعتبر من أحياء ملبورن "الأقل تحضرًا"، إن جاز التعبير. كانت تلك المنطقة قد اكتسبت سمعة سيئة لوقوع أحداث عنف فيها قبل بضع سنوات، الأمر الذي تم تهويله من قِبل وسائل الإعلام العنصرية نظرًا إلى أن غالبية سكّان الحي من المهاجرين الأفارقة. كان واضحًا أن مستوى المعيشة هناك أقل منه في الأحياء المحيطة، ورغم ذلك لفت انتباهي وجود مشاريع إسكانية جديدة هناك توفر شققًا سكنية فاخرة بأسعار منخفضة نسبيًّا مقارنة بما حولها، ناهيك عن مشروع لبناء أكبر مستشفى في ولاية فكتوريا، وتخصيص مركز لتوظيف أبناء المنطقة فيه. نعم، الفروقات الطبقية موجودة في كل مكان، لكن البون شاسع بين من يحاول علاج المشاكل في تلك المناطق والارتقاء بها للخروج من ذلك المستنقع، ومن يترك المناطق المنكوبة بالفقر والجهل تغرق فيهما أكثر وأكثر فيما يستنزف أموال الشعب في بناء مناطق جديدة يتحصن بها أصحاب النفوذ والأموال. الشاهد أن حتى هذه الأحياء الفاخرة لا تدوم طويلًا على هذا الحال، لأن سمة الإهمال أنه لا يبقى محصورًا في الطبقات الدنيا، بل يمتد دائمًا ليصل إلى مناطق الطبقات العليا من المجتمع. تلك سنّة نراها في دولنا العربية منذ سنوات، فكم من المناطق التي كانت تعتبر في السابق مناطق راقية لا يسكنها إلا الأثرياء والمقتدرون تحولت إلى مناطق مكتظة أو مهمشة؟ والحل دائمًا هو التوجه إلى مناطق جديدة تكون ملاذًا للطبقة العليا أو حتى الوسطى الآخذة بالانحسار، والتي يبتلع الفقر والإهمال جزءًا كبيرًا منها لتنضم في النهاية إلى الفئات الأقل حظًا، وتتسع الفجوة بينها وبين طبقة الميسورين التي لا تنفك تحاول أن تنأى بنفسها عن ذلك الواقع بكل الوسائل المتاحة.
كلنا في الهمّ شرق؟
لا يعني ذلك بأي حال من الأحوال أن هذه جنة تحكمها الملائكة، فما أن تقضي مدة كافية في هذه البلاد حتى تبدأ بسماع مختلف أنواع الشكاوى من الناس مما يعتبرونه تقصيرًا حكوميًّا في بعض المجالات، أو الأسعار الفضائية للعقارات، أو الضرائب المرتفعة التي تتأثر بها الطبقة الوسطى على وجه الخصوص فيما تحظى الشركات الكبيرة بإعفاءات ضريبية ضخمة مقابل دعمها للأحزاب الحاكمة. العنصرية لا تغيب عن المشهد أيضًا، وهذا ليس غريبًا على دولة كانت حتى عام 1970 تتبنى سياسة "أستراليا البيضاء" التي تمنع هجرة غير البيض إليها، وحين خضعت تلك السياسة للتغيير لم يكن ذلك من أجل سواد عيون شعوب العالم الكادح، وإنما لأن المهاجرين البيض لم يوفروا تلك الأيدي العاملة الكافية للنهوض بالاقتصاد. وإلى هذا اليوم، تركز سياسة الهجرة في أستراليا على اجتذاب ذوي المؤهلات والمهارات التي تحتاج إليها البلاد، هذا بخلاف الرسوم المالية العالية لطلبات الهجرة والتي تصل إلى الآلاف. باختصار، هذه البلاد لا تعطيك شيئًا قبل أن تضمن أنها ستأخذ منك مثله وزيادة.
ولم تقتصر السياسات العنصرية على الوافدين من الخارج، فحتى عام 1971، استثني سكان أستراليا الأصليون من التعداد السكاني. حتى محاولات التكفير عن الجرائم التي ارتكبها المستعمرون الأوروبيون في حق السكّان الأصليين تبدو قاصرة وشكلية، وما زال أحفاد الأبورجيين يعانون تبعات الأذى والتمييز الذي مورس ضد أسلافهم وما زال يمارس ضدهم بأشكال مختلفة. يجدر بالذكر أن أستراليا هي دولة الكومنولث الوحيدة التي لم تبرم اتفاقًا مع السكان الأصليين للبلاد، وما زال الأبورجيون يعتبرون السلطات الأسترالية سلطة احتلال فاقدة للشرعية. المفارقة أن هذه السلطات نفسها لا تتهاون في الضرب بيد من حديد ضد الهجرة غير الشرعية، ما يعرضها للمساءلة المستمرة من منظمات حقوق الإنسان.
كنت قد سمعت بعض القصص من أصدقاء ومعارف حول تعرضهم للتمييز العنصري، وإن لم أتعرض لذلك بنفسي حتى الآن، إلّا أنني شهدت إحدى تلك الحوادث منذ وقت قريب. كنت في السوبرماركت عند صندوق الحساب حين سمعت صوت امرأتين تتصارخان. استطعت تمييز أحد الصوتين كصوت امرأة عجوز، والصوت الآخر بدا لشابة صغيرة، كلتاهما تتحدثان بلهجة أسترالية. أول ما خطر ببالي هو: "من هذه التافهة التي تضع عقلها بعقل امرأة مسنّة؟" لكن الأمر اختف حين اتضح الحوار أكثر واستطعت رؤية وجهيهما: امرأة آسيوية تبدو في السبعينات من عمرها تصرخ على فتاة محجبة ذات بشرة سمراء بأن "تعود إلى بلادها". ترد عليها الفتاة السمراء بكلام لم أتبينه، فتهددها العجوز بأنها ستهشم وجهها. هزتني الحرقة في صوت الفتاة والغضب الطافح من وجهها وهي تقول إنها فخورة بكونها سوداء. لكن المشهد على بشاعته كان ينطوي على جانب كوميدي، فكلا طرفَي الشجار مهاجرتان، أو على الأقل ابنتا مهاجرين، ومع ذلك رأت العجوز -الصينية على الأرجح- أن من حقها أن تحرّم على فتاة مسلمة سوداء ما تحلله لنفسها. كيف يصل الإنسان إلى هذا المستوى من الشعور بالاستحقاق؟
معنى الغربة
رغم كلّ ما تقدم، أكذب إن قلت إنني لم أشعر بألفة فورية مع المكان، حتى في اليوم الأول لوصولي والتعامل مع صدمة استيعاب أنني أصبحت على بعد آلاف الأميال من عائلتي. لعبت الطبيعة دورًا في ذلك حتمًا، وكذلك المناظر التي تشبه ما كنت أراه في أفلام الكرتون التي تربيت عليها، إنه نوع من الحنين الوهمي إلى شيء لم نعشه بأنفسنا، لكنه شكّل جزءًا لا يتجزأ من مخيلتنا. لكن زوجي كان السبب الرئيسي في عدم شعوري بالغربة، كل الأمور الأخرى كانت عوامل ثانوية، ففي النهاية لقد جئت إلى هذه البلاد من أجله ولا يمكن أن أعيش فيها من دونه. مع هذا لم أسلم من شعور الغربة الذي باغتني في مناسبات غير متوقعة. في الحقيقة، كانت أول مرة شعرت فيها بالغربة هي حين ذهبنا إلى إفطار جماعي لعائلات عربية في رمضان. يُفترض بهذه الفعاليات أن تشعرك بالألفة، لكن ما حدث لي هو العكس، فما أن دخلنا إلى القاعة حتى أصابني شعور الطالبة الجديدة في المدرسة، مع أنني كنت أعرف بعض الموجودين هناك مسبقًا. أدركت فيما بعد أنها كانت مقاومة التغيير، فهؤلاء فتيات لطيفات، يشبهنني ويتكلمن لغتي، لكنهنّ ببساطة لسن صديقاتي اللاتي تركتهنّ في عمّان. شعرت بأنني إن كونت صداقات جديدة فهذا يعني استبدال صداقاتي القديمة، وأنا لست مستعدة ذلك. ربما كان الأمر سيكون أسهل لو حدث هذا قبل عشر سنوات، أمّا وقد أقدمت على هذه الخطوة في السابعة والثلاثين، تاركة ورائي صداقات يصل عمر بعضها إلى خمسة عشر عامًا أو أكثر وتمتد جذورها إلى ما هو أبعد من رفقة المكان والزمان، فالأمر ليس بهذه السهولة. تكوين صداقات جديدة يعني فترة من التحفظ والرسمية والحوارات الشكلية، أمور لم تعد لي طاقة بها. يذكر ميلان كونديرا أنه خلال عهد البطش الستاليني كان يميز الشخص الستاليني من غيره من خلال ابتسامته، وأعتقد أنني وصلت إلى مرحلة يمكنني فيها أن أحذو حذو كونديرا في اختيار الأصدقاء. فهمت لاحقًا أن الناس هنا حذرون في إدخال أشخاص جدد إلى دوائرهم المقربة، ولعله نوع من الانغلاق المحسوب الذي يلجأ إليه المغتربون للحفاظ على هويتهم وخصوصيتهم، وهذا سبب آخر للاكتفاء بصداقات قليلة هنا وهناك.
المرة الثانية التي شعرت فيها بالغربة، كانت في أول عيد لي في ملبورن. قد يبدو ذلك أمرًا بديهيًّا، فمتى يشعر المرء بالحنين إلى الأهل والبلاد إن لم يكن ذلك في العيد؟ الحقيقة أنني منذ سنوات وأنا أرى العيد مناسبة ثقيلة، وأحاول التهرب من الالتزامات الاجتماعية المرتبطة به ما أمكن ذلك، لكن حين جاء يوم العيد ووجدت أننا وحدنا، اختلف الأمر. حتى أصدقاؤنا المقربون كانوا إما مسافرين أو مشغولين مع أقاربهم، وما كان ذلك ليحدث فرقًا كبيرًا بأي حال، فالعيد بالنسبة إلي كان ولا يزال متمثلًا في رؤية أطفال أختي وأخي بملابس العيد، وكل ما بعد ذلك شكليات. العيد التالي كان أفضل، والإفطار الجماعي التالي كذلك، لكنّ أيًّا من ذلك لا يعوّض بأي حال من الأحوال عيدًا نقضيه بين العائلة أو الاجتماع ليوم جمعة واحد حول مائدة أمي.
المرة الثالثة التي شعرت فيها بالغربة، كانت وقت استشهاد شيرين أبو عاقلة. أتذكر أنني في اليوم التالي كنت في القطار أشاهد فيديوهات عن الجريمة وأقرأ الأخبار والمنشورات حولها، فيما الناس من حولي يمارسون حياتهم بشكل طبيعي، يتحدثون ويضحكون كأن شيئًا لم يحدث. الأرجح أنهم لم يسمعوا بالجريمة، أو سمعوا بها خبرًا عابرًا من جملة الأخبار المزعجة التي تأتي عادة من تلك المنطقة المضطربة. أنت هنا وحيد في حزنك، محاط بأشخاص مشغولين بأخبارهم الخاصة التي لا تعرف عنها شيئًا ولا تأبه بها.
كانت هناك فرصة لتفريغ بعض من ذلك الحزن بعد الجريمة بأيام من خلال مظاهرات يوم النكبة. انضممنا إلى بضع مئات من مناصري القضية الفلسطينية من جنسيات مختلفة أمام مبنى المكتبة العامة، وألقى بعض أبناء الجالية الفلسطينية خطابات غاضبة باللغة الإنجليزية، وبعض الأغنيات الوطنية والشعبية. كما قلت، كانت فرصة جيدة لتفريغ بعض مشاعر القهر -إن استطعت إسكات أسئلة الجدوى في رأسك. تذكرت سيدة صينية كانت توزع المنشورات قرب محطة القطار وتجمع تواقيع لعريضة من أجل "إنهاء وجود الحزب الشيوعي الصيني". هذه ليست نكتة، كان ذلك الهدف المنصوص عليه في المنشور حرفيًّا. لا أجد ما فعلناه مجديًا أكثر مما كانت تفعله تلك السيدة، فكلنا نحاول إيجاد طرق نقنع بها أنفسنا أننا نفعل شيئًا لإنقاذ الوطن الذي تركناه وراءنا، لكن الحقيقة أننا اخترنا الخلاص الفردي، محمودًا كان أم مذمومًا. ربما تكون الفائدة الوحيدة من تلك المظاهرات والاعتصامات إبقاء القضية حية في أذهان الجيل الجديد من الأطفال واليافعين، لكن فلسطين لن تتحرر من أستراليا، ولا أي عدد من المنشورات سيسقط الحزب الشيوعي في الصين، بل إن أستراليا نفسها ستكون محظوظة إن لم تبتلعها الصين. ولأن تفريغ الغضب والهتاف يستهلك كمية لا بأس بها من السعرات الحرارية، توجهنا بعد انتهاء المظاهرة لتناول الطعام في مطعم صيني أصحابه من الإيغور المسلمين استكمالاً لنضالنا من أجل دعم الشعوب المقموعة في جميع أصقاع الأرض.
الإنسان في التفاصيل
لا يمكن لمقال واحد أن يتسع لكل التفاصيل التي تكتسب أبعادًا مختلفة في سياق الغربة. هاتف الليل قد يكون قريبًا أخطأ في حساب فرق التوقيت، ومع ذلك يبقى مصدرًا للرعب لا للقلق فحسب. اللغة أيضًا تكتسب دلالات أخرى، فإذا ما رنّ هاتف زوجي بعد منتصف الليل أجدني أحبس أنفاسي حتى أسمع اللغة التي يتحدث بها: فإن تحدث بالإنجليزية أتنفس الصعداء وأعود للنوم باعتباره أمرًا يخص العمل، أما إن سمعته يتحدث بالعربية فذلك شأن آخر. مخالفة السير ليست مجرد غرامة من عشرين أو ثلاثين دينارًا تدفعها وقت الترخيص، فعددٌ كافٍ من مخالفات السير قد يؤثر على فرصك في الحصول على وظيفة أو استئجار بيت، ويمكنك نسيان أمر توظيف الواسطة والمحسوبية لمحو ما عليك من مخالفات. لا خيار أمامك وأمام غيرك من السائقين سوى الالتزام بقوانين المرور، الأمر الذي سترى أثره في حركة السير. وهكذا ستفهم كيف يمكن لجولة بالسيارة أن تعطيك مؤشرًا عن سيادة القانون في دولة ما، وكيف يمكن لنسبة ذوي الإعاقة الذين تراهم يمارسون حياتهم خارج البيت بشكل طبيعي ومستقل أن تعطيك فكرة عن الخدمات الصحية وقابلية المدينة للعيش لمختلف فئات البشر، وأن الأرصفة ذات المنزلقات وإشارات المشاة الضوئية المجهزة بحيث تراعي حاجات ذوي الإعاقة البصرية أهم بمئات المرات من مشاريع زخرفية لا تؤدي غرضًا حقيقيًّا سوى تحويل مدينة ما إلى صورة ممسوخة عن مدينة أخرى. إنها مسألة أولويات أولًا وأخيرًا، فهناك دول ترى أولويتها الاستثمار في الإنسان، ودول لا يهمها سوى تقديم صورة مبهرة للعالم عن نفسها فيما شعوبها ترزح تحت خط الفقر وتغرق في التجهيل والإهمال.
لكنّني ما زلت أجد نفسي أحيانًا أقع في ذات الخطأ الذي أحاول تجنبه منذ البداية: توجيه اللوم في غير مكانه. الناس هنا لا يتورعون عن انتقاد أصغر التفاصيل، الأمر الذي يدفعني تلقائيًّا إلى اعتبارهم شعبًا مدللًا بلا مشاكل حقيقية. لكن ماذا يختلف ذلك عن أولئك الذين يهاجمون كل من ينتقد الحكومات والأنظمة العربية ويتهمونهم بالجحود للوطن؟ لا يُفترض بأحد التصفيق للحكومة مهما فعلت، بل هي من عليها السعي إلى إرضاء الناخبين الذين بيدهم إسقاطها أو إبقاؤها في الحكم، ناهيك عن أن كل هذه الخدمات ممولة من جيوب الناس في النهاية. طبعًا، كلمة "الناخبين" هي المفتاح هنا، وفكرة الحكومة المنتخبة مفهوم غائب لدينا، لكنّ كل شيء يبدأ من هناك فعليًّا. كثيرًا ما يُطرح في السجالات السياسية التي تدور بين عامة الناس حديث "كما تكونوا يولى عليكم"، وبعيدًا عن صحة هذا الحديث من عدمه أقول: دعونا نختار حكّامنا أولًا -اختيارًا حقيقيًّا لا شكليًّا- ثم عايرونا بأنهم مثلنا.
أسئلة ملحّة.. إجابات واضحة
قد يعتبر البعض هذا المقال جلدًا للذات أو مديحًا للمهجر، لكنه لا يتعدى كونه محاولة لإعادة طرح التساؤلات القديمة: ما الذي يضطرنا أصلًا إلى ترك بلادنا بحثًا عن ملاذ في بلاد أخرى؟ وما الذي يدفعنا للسفر إلى آخر العالم لتأمين حياة كريمة لأولادنا؟ وكيف انقلب حال بلادنا من قِبلة لطالبي العلم والرزق إلى هذه البيئات الطاردة؟ ومن المسؤول عن تحويل سهولنا الخصبة ومراعينا الخضراء إلى غابات من الإسمنت؟ من الذي جعل العشب على الجانب الآخر من السياج أكثر اخضرارًا بالفعل؟
إجابات تلك الأسئلة معروفة مسبقًا، لكن يمكن تلخيص ما أريد قوله في الحوار الذي دار بيني وبين زوجي قبل خروجنا إلى مظاهرة يوم النكبة. كان ذلك في يوم سبت بعد أسبوع عمل متعب، إذ قال لي ونحن نستعد للخروج: "لو لم يكن هناك احتلال لقضينا يوم العطلة مرتاحين في البيت"، فقلت له على الفور: "لو لم يكن هناك احتلال لما كنّا هنا من الأصل".