كاتبة في حصة العلوم
لا تكون الكتابة من فراغٍ أو راحة، الكتابة مشاعرٌ تُرى عبر الحروف، تنساب من واقع الكتاب وخيالاتهم انسياب النهر المتدفق الذي لا يمكن لأي شيءٍ عابرٍ أن يوقفه!
لا بد أن تمشي كثيرًا في الطرقات، وأن تخالط الآخرين، وأن تقرأ ملامحهم. أن تفهم الحزن في تجاعيدهم والفرح في أعينهم. هذه النصيحة الأولى لكاتب الرواية أو القصة القصيرة أو التدوين.
لكن، كيف ستبدو أوجه الطلاب في عيون كاتب يبحث عن شخصيات لكتاباته، حتى في الغرفة الصفية؟!
الكتابة والتعليم
كلٌ يحمل في روحه أحلامًا يود لو أنها تتحقق، وأنا أردتُ أن أصير معلمة، لأن الكتابة والتعليم متشابهان شبهًا كبيرًا؛ ففي كليهما أقدم شيئًا للآخرين، شيئًا لا يُنسى؛ نصًا أدبيًا أو معلومة علمية، لابد أن الكتابة والتعليم يلتقيان في نهاية المطاف، ذلك أن شعور الكاتب عندما ينجز نصًا ويريه للآخرين وينظر بصحبتهم إلى ذات الصورة الفنية، يشبه شعور أن تشد انتباه الطلاب إلى فكرة محددة وتطير معهم في تصوراتٍ وخيالات وأنت تُراقب نظراتهم المتعلقة بك وتشعر بهم يتصلون بالأفكار والمعلومات التي تقدمها!
الطلاب في عيون الأديب.. أقصد المعلم!
يعتاد الكاتب على التقاط أفكاره من أوجه المارة، وكذلك لو كان معلمًا فإنه سيلتقط الشخصيات من عيون الأطفال من حوله!
شخصية الفنان
كنت في منتصف الشرح عندما جاءت الطالبة الفنانة عند السبورة تريد أن تسألني أن ترسم على دفتر العلوم، فتفاجأَتْ من ترحيبي بذلك، وتحمست حماسًا جعلها ترسم لكل حصة رسمة؛ شيئًا من المنهاج وشيئًا من خارجه.
كنتُ أحب أن أنظر لعينيها المتأملتين تتغيران تبعًا للكلمات التي أنطقها، شعرت أن الكلمات تنتقل من رأسي لرأسها!
حدث أن نادتني لتخبرني شيئًا، فأذنت لها لكنها أصرت أن تهمس في أذني، فذهبتُ إليها وقالت "مس وأنتِ تشرحين، عندما ترفعين حاجبيكِ بتلك الطريقة أضحك"! فرحتُ أضحك من شدة ملاحظها للتفاصيل وشعرتُ فعلًا أنني أمام فنانة!
شخصية العالم الصغير!
في إحدى المرات وعندما كان الدرسُ عن النباتات، طلبت من الطلاب أن يزرعوا بذور العدس ويراقبوا نموها، لكن العالم الصغير أحب أن يتميز عن الآخرين وزرع الفاصولياء، فلما كانت حصة النباتات أراني إياها وهو يعتز بنفسه، فهو بحث عن طريقة زراعتها على الإنترنت، وزرعها بنفسه!
كان يطلب مني دائمًا أن يعيد شرح ما قلته، فيشرحها بإتقانٍ ودقةٍ متناهيتين. كان ملهمًا؛ حتى أنني كنت أطلبُ منه أن يشرح معلومةً ما لطلاب الصف إذا احترت كيف أقدمها لعقولهم الصغيرة، ثم أشرحها بطريقته. لله درّه!
الشخصية السارّة "سارة"
قالت وعينيها تتبع حركاتي وتلمع حزنًا "مس ليه بطلتي تدرسينا؟" أجبتها أنها إجراءات إدارية ولست أنا من اختار تركهم!
فردت بشوق "أنا بحبك يا مس أنا بدي أدرس معك. رح أنقل على الشعبة الثانية عشان أدرس معك. أنا كتير بحبك". ولمّا وجدت الأمر مستحيلًا قالت "طيب خلص إنتِ تعالي عالشعبة اللي جنب صفنا عشان أضل أشوفك".
سارة فتاة جميلة مرتبة نشيطة، تقفز من مكانها عند إدراكها للإجابة الصحيحة، وجهها مشرقٌ مثل زهرة بيضاء ناصعة البياض، تربط شعرها في "دنبة فرس" ومجتهدة. تذكرني بشغف قديم للحياة نكاد أن نكون قد نسيناه، شغف التعلم، وشغف الحب، والخفة والنشاط. لا حُرِمتُ ودَّها ولا حُرِمتُ ابتسامتها!
الشخصية المبتسمة
الطالب محمد بوجهه المستدير استدارةً ناعمة، وعينيه المبتسمتين، وجسده النحيل ذي الخفة الذي يجعله يتحرك في الصف بسرعةٍ دون أن أنتبه!
تجده يعانق كتاب العلوم كلما حان موعد الحصة، حتى لو صرخت في الصف، أو كنت غاضبة، أو دخلتُ الصف من دون ابتسامة، يتقدم بخفة نحوي، يشد كتاب العلوم إلى صدره الصغير ويقول بصوتٍ خافت مبتسم "مس بحب حصة العلوم".
كل الطلاب يوجهون حبهم إليّ، لكن محمد يحب حصة العلوم! فأرد عليه وحصة العلوم تحبك.. فيبتسم مجددًا ويعود إلى مقعده بخفة.
كان يكرّر ذلك كل حصة، وكنتُ أكرر إجابتي أن حصة العلوم أيضًا تحبهم، حتى قفزت إحدى الطالبات وسألتني "كيف تحبنا حصة العلوم وهل حصة العلوم تشعرُ بنا حقًا؟" حركتُ بصري أبحث عن إجابة ثم قلتُ لها: "ألسنا سعداء بها وتمر الحصة بهدوء وتفهمون ما أقوله؟ إذًا هي بالتأكيد تحبكم!".