الكتاب الصوتي: شهرزاد تروي من جديد
صورة مبهمة من الطفولة تسكن ذاكرتي: أبي يحكي لنا قصة "مدينة الأحلام". كل ليلة قبل النوم يحكي لنا جزءًا من القصة التي لا بد أنه كان يرتجلها في التو واللحظة ويضيف إليها كل ما يخطر لخياله من الغرائب. لا أذكر كم ليلة امتدت القصة قبل أن يسأم أبي الأمر أو ينشغل بشيء ما ويترك نهاية القصة مفتوحة على الاحتمالات. وإن كنت قد نسيت أمر القصة ولم أطالب أبي بإتمامها، إلا أنني منذ ذلك الحين أصبحت في توق دائم إلى حكاية ما قبل النوم.
لم تكن الخيارات كثيرة في زمن ما قبل اليوتيوب والمحطات التلفزيونية التي تنهي بثها عند منتصف الليل. كان الراديو خيارًا محببًا، أدسه تحت اللحاف وأستمع إلى برنامج "ليالي عمّان"، وأشعر بمتعة غريبة حين يقول المذيع "صباح الخير" الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. لم يكن يهمني البرنامج المذاع، كنت أريد من يحدثني قبل النوم فحسب. بحثٌ مستمر عن "الحكواتي".
قصص مسموعة
سنوات مضت واكتشفت القصص المسموعة باللغة الإنجليزية. كنت أقوم بتحميلها من مواقع على الإنترنت، قصص لتشيخوف وإدغار ألان بو، أسمعها وأنا أمارس الرياضة أو أقوم بنشاط ما، لم يخطر ببالي ساعتها أنها يمكن أن تكون قصص ما قبل النوم التي طال بحثي عنها، ربما لأن كونها محكية بالإنجليزية يفقدها الحميمية المطلوبة، أو ربما لأن سماع قصة مثل "القط الأسود" أو "الغراب" قبل النوم ليس فكرة حكيمة.
لكن العلامة الفارقة كانت حين دخلت إلى اليوتيوب وطبعت في خانة البحث: "قصص مسموعة". لا أدري كيف غفلت عن تلك الفكرة كل هذه السنوات، وكيف كانت كل تلك القصص والروايات الصوتية على بعد كبسة زر ولم يخطر لي البحث عنها. بدأت أسمع بعضًا منها قبل النوم بشكل رئيسي، ورغم شعوري بأنني وجدت كنزًا، إلا أن الأمر لم يخلُ من المشاكل، من ذلك عدم القدرة على تعيين موضع لمواصلة الاستماع في حال التوقف والعودة إلى القصة لاحقًا، وصعوبة استرجاع مقاطع معينة أو إرجاع الفيديو بضعة ثوانٍ للتأكد من كلمة أو مقطع لم أسمعه جيدًا، ناهيك عن مشكلة الاستماع إليها قبل النوم، حيث لا يمكن إيقاف الفيديو بعد مدة زمنية معينة، فتذهب في النوم بينما يسترسل القارئ في الكلام لساعة أو ساعتين.
وهكذا، كان البحث عن خيار أفضل هو الخطوة المنطقية التالية، وكان المكان البديهي للبحث هو متجر التطبيقات، ومنه دخلت إلى مغارة علي بابا: عالم الكتب الصوتية الاحترافية.
قصة قبل النوم
في البداية، كنت أسمع الكتب الصوتية بشكل رئيسي قبل النوم، مستفيدة من خاصية الإيقاف التلقائي بعد مدة زمنية معينة يعينها المستخدم، لكن ما لبثت الكتب الصوتية أن أصبحت رفيقة مشاوير السيارة، والمشي أو الملجأ بعد يوم طويل أمام شاشة الكمبيوتر حين لا أطيق النظر دقيقة أخرى إلى أي شاشة، وجلّ ما أريده هو إغماض عينَي والاستماع إلى القصص.
كان ذلك كنزًا حقيقيًّا على عدة أصعدة، فمن جهة أصبحت أطالع كتبًا أكثر بكثير مما كنت سأجد الوقت لقراءتها، مستغلة الوقت المهدور في أزمات السير والانتظار في طوابير الدوائر الحكومية، على سبيل المثال لا الحصر. فكرة الاستفادة من الوقت الذي كنت أشعر سابقًا أنه وقت مسروق من حياتي كانت نعمة لا تُقدر بثمن، بل أصبحت أحيانًا لا أمانعها إذ أجدها فرصة لإكمال كتاب ما. وكذلك كانت نعمة إيجاد بديل للقراءة العادية التي باتت متعبة نظرًا للإجهاد البصري الذي أتعرض له طوال اليوم في العمل، فلا أقدر عليها أكثر من ساعة قبل أن يصيبني النعاس والخمول. كما كانت الكتب الصوتية حلًّا لمشكلة قديمة وهي الرغبة في إعادة قراءة بعض الكتب المحببة إلي، مع إدراك أن الحياة أقصر من أن تعيد قراءتها، لكثرة الكتب التي لم تقرأها بعد ولا تجد وقتًا كافيًا لذلك، هكذا، كان الاستماع إلى تلك الكتب حلًّا وسطيًّا يوفر الوقت لقراءات جديدة وإنعاش الذاكرة حول قراءات سابقة.
ميزة أخرى قدمتها لي الكتب الصوتية وهي ربط القراءة بالذاكرة الصوريّة، فتجد مثلًا أن أماكن معينة مررت بها أثناء الاستماع إلى كتاب صوتي ما تذكرك بمقطع منه فيرتبط بها في الذاكرة ويسهل استرجاعه، أو يحلّ المشكلة -أو ما أجدها شخصيًا مشكلة- والتي تتمثل في القراءة أثناء السفر أو الاستجمام.
أذكر أني غضضت النظر مؤخرًا عن القراءة بجانب البحر من منطلق أنك كشخص تعيش بعيدًا عن البحر لا يمكن أن تشيح بنظرك عنه وتضعه في كتاب، فأجد نفسي في النهاية أستسلم فأضع الكتاب جانبًا وأحدق إلى البحر، إلاّ أن تلك لم تعد مشكلة مع توفر الكتب الصوتية، بل قد تكون المتعة مضاعفة -او الألم مضاعفًا- وأنت تستمع إلى قصة تجري أحداثها على ساحل المتوسط، وتتأمل الأمواج التي احتضنت -أو ابتلعت- تلك القصص.
وقد لا يكون الحديث عن السفر والقراءة واقعيًا في ظل الظروف الراهنة من حجر صحي وحظر على السفر، إلا أنني وجدت الكتب الصوتية متنفسًا ومهربًا في ظل تلك الأوضاع أيضًا، فمع القيود التي كانت مفروضة على التنقل كان المشي بهدف التريّض أو قضاء الحاجات مع الاستماع إلى كتب صوتية تحملك إلى عوالم بعيدة وسيلة مهمة لدرء الاكتئاب ومقاومة الخمول.
أما عن قصة ما قبل النوم، فقد أصبحت أخصص كتبًا معينة أسمعها ريثما أغفو ليلًا، إما كتبًا قد سمعتها من قبل فلا أحتاج إلى التركيز معها، أو كتب قصص وحكايا من قبيل"ألف ليلة وليلة"، والتي هي بشكل ما نسخة غير مشفرة ومخصصة للكبار من "مدينة الأحلام". وكشخص يعاني من الأرق بشكل مستمر، كانت الكتب الصوتية وسيلة مفيدة لاستدراج النوم واستدراجي إليه، خاصة حين أستمع إلى كتب معينة أجدها مريحة نفسيًّا لسبب أو لآخر، فتشعر بأن القارئ يهدهدك ويمسح على رأسك حتى تنام. ولم يقتصر الأمر على النوم فحسب، فمثلًا أنني أصبحت أحرص على الاستماع إلى مقالات أحمد خالد توفيق بالذات للتخلص من التوتر الذي أشعر به عند ركوب الطائرة، الأمر الذي كنت أستعين عليه سابقًا بالقراءة العادية. هذا الشعور بالألفة مع الكاتب الذي تشعر به حين تقرأ له يصبح مضاعفًا -في رأيي- حين تسمع كتابه صوتيًا، وإن لم يكن بصوته هو ذاته، إلا أن عقلك يجد طريقة ما لإقناعك بأنه هو نفسه من يقرأ لك ويشرب معك الشاي بينما يلقي عليك حكاياه، أو شهرزاد المبعوثة من جديد في عصر التقنية، متحررة من سيف شهريار وصياح الديك الذي يسكتها إذا ما طلع الصباح. حكواتي خاص بين يديك.
قد يجد البعض إهانة في كلمة "حكواتي"، إلا أنني شخصيًّا أجد أن أعظم الكتّاب هو من يستطيع تقمص دور الحكواتي واجتذاب الناس بقصصه بلا ملل أو تبرّم، وإن لم تكن كل حكاية ترتقي إلى كونها رواية، إلا أن كل رواية هي حكاية في الأصل، مهما بلغت عظمتها. خذ روايات نجيب محفوظ على سبيل المثال، حكايات ممتعة وفي الوقت ذاته تنطوي على كثير من الفلسفة والتوغل في خفايا النفوس البشرية، إنسانية حتى التعب، تصلح للقراءة والاستماع وللسينما والتلفزيون، وهي في رأيي من أجدر الكتب بالتحويل إلى روايات صوتية، ومن حسن الحظ أن الكثير منها متوفر على منصات كتب صوتية عربية، ومعظمها قصيرة لا يتجاوز طولها أكثر من خمس ساعات استماع، إلا أنها تعطيك جرعة مكثفة من المتعة والأفكار الجديرة بالتأمل.
جوانب عملية
من جانب آخر، وجدت الكتب الصوتية وسيلة توفير فعالة من الناحية الاقتصادية، فباشتراك لا يتجاوز العشرة دولارات شهريًا، أصبح بإمكاني تحميل كتب والاستماع إليها كانت ستكلفني عشرات الدنانير لو أردت شراءها من المكتبة، ناهيك عن إلغاء احتمال الخسارة حين تشتري كتابًا وتقرر عدم إكمال قراءته بعد عدة صفحات، مما يعطيك إمكانية استكشاف كتب أكثر وإعطاء الفرصة لكتب ما كنت لتشتريها، فتوسع دائرة قراءاتك وتحظى بفرصة اكتشاف كتّاب جدد وكتب جديدة من دون خسائر مادية.
ولا يمكن إغفال دور القارئ أو الراوي في نجاح الكتاب الصوتي، فقد حدث أن استمعت إلى كتب صوتية كانت مخيّبة لكثرة ما فيها من أخطاء لغوية، أو لأسلوب الكاتب الممل أو المزعج في القراءة. أحد الكتب كنت أضطر إلى إبطاء سرعة القراءة فيه -وهي خاصية توفرها تطبيقات الكتب الصوتية- لفرط سرعة قارئته التي تشعر بأنها تريد الانتهاء من التسجيل بأسرع وقت لأن "العدّاد يعدّ" أو "القهوة عالنار". كتاب آخر كان الاستماع إليه مزعجًا لكثرة الأخطاء في أسماء الأماكن، حيث كانت رواية تدور أحداثها في عمّان في الثلاثينيات، ومع ذلك كررت القارئة خطأها في قول "عُمان" بدل "عمّان" في مواضع كثيرة، ناهيك عن لفظ أسماء المدن الأخرى بشكل يدعو للضحك، فكان واضحًا أن القارئة لا تعرف عن الأردن أكثر مما أعرف عن زيمبابوي، ويجعلك تتساءل عن معايير اختيار القراء أو الرواة، والتي إن أخذت بعين الاعتبار كانت الاستماع إلى الكتاب متعة حقيقية، كالاستماع إلى رواية كويتية بصوت قارئ كويتي، أو رواية عراقية بصوت قارئة عراقية، يحملونك إلى قلب السالمية أو بغداد وهم يقرؤون الحوارات العامية في الرواية بلهجة أصيلة.
عمومًا، أجد أنّ الروايات وكتب المقالات هي النوع الذي يستهويني الاستماع إليه صوتيًّا؛ نظرًا إلى طابعها الحكائي، فيما أفضّل قراءة الكتب الفكرية قراءة عادية، وذلك تفضيل شخصي يتعلق بطريقتي الخاصة في القراءة، فيما قد يفضل البعض الاستماع إلى كتب الفكر والفلسفة. إلا أنه رغم كل ما تقدم من التغني بمآثر الكتب الصوتية، تجد قراء كثيرين لا يستسغيونها بأي شكل، ولا يجدون فيها بديلًا للقراءة العادية، رغم التطور المستمر في المحتوى المتوفر والميزات التي تقدمها تطبيقات الكتب الصوتية المختلفة، وقد يرجع ذلك إلى اختلاف طبائع الناس في التواصل واستقبال المؤثرات والمعلومات. لا أدري إن كان من الممكن تغيير ذلك بالممارسة والتعود، إلّا أنّ الأمر يستحق المحاولة بالتأكيد لأي شخص يهوى القراءة ويرغب في الاستفادة من تلك الوفرة من الكتب المتاحة في متناول اليد، الموفرة للوقت والجهد والمال والفاتحة أبوابًا من المعرفة والمتعة تفوق سعة مكتبتك المنزلية، وتحملها معك أينما ذهبت.